العدد 17 -

العدد الخامس – السنة الثانية – صفر 1409هـ، الموافق أيلول 1988م

واجب الأمة الإسلامية

إن الأمة الإسلامية، وهي تعتنق العقيدة الإسلامية، فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة، عقيدة سياسية، قاعدة فكرية، قيادة فكرية، وجهة نظر معينة في الحياة، يجب عليها وهي ترى العالم كله، وهي معه كذلك، يتخبط هذا التخبط، يرزح تحت نير الظلم السياسي والاقتصادي، ويخضع لعبودية قوة غاشمة، ويئن تحت كابوس الشقاء والاستعباد والإذلال، فإنه فرض عليها أن تأخذ على عاتقها مهمة إنقاذ العالم، وإخراجه من ظلمات الضلال والتضليل، إلى نور الهدى، وسعادة الحياة. فإنها وإن كانت رازحة تحت نيرة القوة الغاشمة، فإنه لم يعد جائزاً لها أن تفكر في نفسها فحسب، فإن الأنانية بعيدة عما تعتنقه من عقائد، وغريبة على ما تحمله في ثنايا نفسها وفي صميم فؤادها من قيم وأفكار.

لذلك يجب أن تفكر في إنقاذ العالم مع إنقاذ نفسها. وأن تضطلع بمهمة تحرير العالم لا بنفسها وحدها، فإنها جزء من هذا العالم، وهي وجدت من أجل هدى الشر، وبعد أن اعتنقت عقيدة الإسلام، صار فرضاً عليها أن تنقذ الإنسانية من الشقاء، وأن تخلص البشر من الظلم والتعاسة، ومن الإذلال والاستعباد.

إن الأمة الإسلامية تعتنق فكرة أساسية عن الحياة، فكرة سياسية، وتعتنق طريقة لتنفيذ هذه الفكرة في الحياة. وإذا ملكت أمة الفكرة الصحية مع طريقتها، فإنها ولا شك تكون أهلاً لإعطاء الخير وتكون أهلاً لحمل قيادة هذه الفكرة. ولذلك فإن الأمة الإسلامية، ليست قادرة على النهضة الصحيحة فحسب، بل هي قادرة على ذلك، وعلى أن تكون مصدراً للخير لغيرها، وعلى حمل هذه الفكرة للناس قيادة فكرية ووجهة نظر في الحياة. وبالتالي هي قادرة على حل مشكلة العالم، وعلى إنقاذه مما يتردى فيه من الشقاء والاستعباد والذل. بحمل الدعوة الإسلامية إلى الشعوب والأمم.

إن الأمة الإسلامية لم تغلب في تاريخها من أية أمة، ولن تغلب مطلقاً في صراعها مع الشعوب والأمم مهما كانت قوة تلك الشعوب والأمم ولذلك فهي قادرة على إنقاذ العالم مهما كانت قوة الدول المسيطرة عليه. أما ما حصل في الحروب الصليبية من حرب استمرت أكثر من قرن، فإنه فوق أن النصر النهائي كان للمسلمين، فإن الأمة الإسلامية لم تصارع الغرب بوصفها أمة إسلامية، وإن كانت الشعوب الأوروبية قد استنفرت كلها لمحاربة الأمة الإسلام، فإن الواقع هو أن الحرب كانت محصورة في بلاد الشام ومصر، والذين حاربوا هم أهل الشام ومصر، والذين انتصروا هم أهل الشام ومصر. أما الأمة الإسلامية فقد كانت موزعة إلى ولايات تشبه الدول، ولم تكن لخليفة المسلمين السيطرة الكاملة على هذه الولايات، فلم تدخل الأمة الإسلامية في حرب مع الصليبيين، وإنما دخلت بلاد الشام وبلاد مصر ليس غير. وكانت باقي الولايات غير مشتركة في هذه الحر، لأن الولاة الآخرين، فوق كونهم مشغولين بتركيز سلطانه، فإنهم كانوا يرون أن جهاد الكفار فرض على الكفاية. وأن بلاد الشام وبلاد مصر كافية لصد الكفار عن بلاد الإسلام. وكانت كافية بالفعل، ولذلك كان النصر النهائي للمسلمين، وطرد الصليبيون من مصر وبلاد الشام ورجعت سيطرة الإسلام إلى هذه البلاد.

وأما ما حصل في الحرب العالمية الأولى، فإنها لم تكن حرباً صليبية ضد الأمة الإسلامية، وإن كانت في دوافعها الخفية تجاه بلاد الإسلام أشد من الحروب الصليبية الأولى وأكثر عمقاً وأشد تأثيراً. ذلك أن إنجلترا وحلفاءها دخلت الحرب العالمية الأولى ضد ألمانيا، فهي حرب بين دول أوروبا اشتركت فيها الدولة العثمانية، ولذلك لم تعتبرها الأمة الإسلامية أنها حرب ضدها، ولم تشترك فيها الأمة الإسلامي. ولذلك اشترك فيها المسلمون الهنود مع الجيش البريطاني، واشترطوا أن لا يحاربوا المسلمين. واشترك فيها إلى جانب الإنجليز الكثير من بلاد العرب ومن رجال العرب مع أنهم في جمهرتهم مسلمون، وإن كانوا قد اشتركوا تحت عامل التضليل. ولكن الذي سهل هذا التضليل هو عدم ظهور أنها حرب ضد الأمة الإسلامية.

فالأمة الإسلامية لم تغلب في تاريخها مطلقاً بوصفها أمة إسلامية، وكانت تعقد لها راية النصر المؤزر في جميع الأحقاب التي حاربت فيها بوصفها أمة إسلامية، وفتحت أكثر بلاد العالم القديم الذي كان معروفاً حينئذ، وأوجدت هذا العالم الإسلامي المترامي الأطراف. ولذلك فإن الأمة الإسلامية إذا وقفت أمة إسلامية، فإنها قادرة على إنقاذ العالم من هذه القوى الشريرة التي تتحكم فيه وتتسلط عليه وتذيقه ألوان الشقاء والذل والاستعباد.

قد يتساءل الكثيرون قائلين: أن الأمة الإسلامية خاضعة كسائر العام لهذه القوى الشريرة، وتذوق ما يذوقه سائر الناس من السيطرة والشقاء والذل والاستعباد، وتفرض عليها ما يفرض على سائر الناس من السيطرة بجميع أنواعها، السياسية والاقتصادية والثقافية، وحتى العسكرية في بعض الأحيان. فأحرى أن يطلب منها تحرير نفسها من السيطرة والنفوذ لا أن يطلب منها تحرير غيرها، وهي أحوج الناس للتحرير؟ على أنها وقد تحررت فعلاً أو سارت في طريق التحرير فإن مقارعة القوى الشريرة أكبر من قدرتها، فكيف يكون في قدرتها أن تصارع هذه القوى؟

قد يتساءل الكثيرون هذا التساؤل، وقد يسأل الكثيرون هذا السؤال، ولكن ذلك إذا حصل إنما هو نتيجة جهل لطبيعة المسلمين، وعدم إدراك لمدى قوة الإسلام في الصراع، فوق كونه مغالطة أو تضليلاً. أما كونه مغالطة أو تضليلاُ، فإن الكافر المستعمر، العدو اللدود، من جملة أساليبه التضليلية أن يشغل الأمة بتحرير نفسها حتى منه لصرفها عن حمل رسالتها للعالم، ويوقعها في حبال دوامة من الأفكار والأعمال للتحرير تؤدي إلى زيادة قيودها إلا إلى حلها، وإلى تثبيت سيطرته عليها لا إلى تحريرها من سيطرته ونفوذه، ولذلك فإن انشغال الأمة بنفسها عن حمل الدعوة إلى العالم لإنقاذه، هو وسيلة من وسائل صرفها عن دعوتها، ووسيلة من وسائل تثبيت هذه السيطرة، وتطويل أمد بقائها فوق بلاد الإسلام. ومن هنا كان من الخطأ والخطر على الأمة أن تنشغل بنفسها عن دعوتها، وأن يلهيها شأنها عن العمل لإنقاذ بني الإنسان.

أما كونه جهلاً بطبيعة المسلمين وعدم إدراك لمدى قوة الإسلام، فإن الإسلام إذا حل من الإنسان في مركز العقيدة، ووجدت بذرته في النفس البشرية، حولت الإنسان إلى شخص أقوى من القوة، وأسمى من السمو، وأعلى كعباً من الفرسان والحكماء والمفكرين. ولا أدل على ذلك من نقل العقيدة الإسلامية للعرب والعجم، من شعوب وقبائل إلى أمة عظيمة تقتعد الذرى وتتبوأ القمة في الوجود. ثم تجربة الحروب الصليبية كشفت عما في طبيعة المسلمين من قوة خارقة تنزل على المسلم فجأة، تنقله من عبد إلى سيد، ومن مهزوم إلى منتصر، ومن أسفل درك الانحطاط إلى أعلى درجات العلى والمجد، وما نور الدين زنكي، وصلاح الدين الأيوبي، إذا إلا مثل خالد ابن الوليد، وسعد بن أبي وقاص، على ما يفصل بين صدر الإسلام والحروب الصليبية من فواصل الزمن، ومختلف الأحداث. فأصالة المسلمين أصالة أعمق من الزمن، وأثبت من الثبات أمام الحدثان. فطبيعتهم طبيعة الأصيل، والأصيل يظل أصيلاً مهما لحقه من جور، ومهما ناله من عسف واضطهاد، فهذا الإسلام الذي يفعل في النفسية هذا الفعل، والذي يوجد الأصالة في الجيل الذي يعتنقه ويحمله، ويعمقها في الأجيال مهما طال الزمن، ومهما حصل من ركود، فإن مدى تأثيره يتجاوز رؤية البصيرة والإدراك، بل يتجاوز رؤيا البصيرة والإدراك، بل يتجاوز رؤيا الرؤى والأحلام. ولذلك لا يطلب من الأمة الإسلامية أن تحرر نفسها، وإنما يطلب منها أن تحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم لنشر الهدى فيه، وإنقاذه مما يحيق به من سيطرة وذل واستعباد، وظلم وكفر وضلال. ومن هنا كان لزاماً أن يطلب من الأمة إنقاذ الناس، لا أن تحرر نفسها فقط. فإنها مسؤولة عن الناس ومسؤولية عن نشر الهدى بين بني الإنسان.

أما كيف تحرر نفسها وتنقذ الناس، فإن ذلك يجب أن تحكيه الأفعال الفعالة، لا الأقوال المكتوبة، والأعمال العظيمة، لا الأفكار المسطرة. يجب أن يراه الناس كائناً، لا أن يقال لهم كيف يكون. وأن يفهموه من لغة الإسلام التي تسطر فعالاً، ومن هدى الإسلام الذي يشع على الناس نوراً وضياءاً. فالسؤال ليس عن الكيف، وإنما السؤال عن الرؤية، عن الأبصار والرؤية، وعن مشاهدة الواقع الذي سيكون أكبر من الخيال.

إن ما يجب على الناس ولا سيما المسلمين أن يدركوه أن الأمة الإسلامية أقوى من قوى الشر مهما اجتمعت، وذلك لسببين اثنين: أحدهما أنها تملك فكرة كلية عن الكون الإنسان والحياة لا يملكها أحد غيرها، وهي فكرة دينامية جبارة، وهي في نفس الوقت تعطي الصورة الحقيقية عن العالم، وعن الناس، وعن الدول، وعن المجتمعات، وتعطي في نفس الوقت الطريقة الصحيحة للتغلب على دول الكفر مهما كانت، ولذلك ليس غريباً على من يملك هذه الفكرة الكلية أن تكون قواه قوى لا تغلب. ثانيها: أن الأمة الإسلامية تملك من القوى المادية ما لا يملكه سواها، وهي قوى جبارة هائلة لا تصل أية قوة إلى مستواها، وهي ملكها وتحت تصرفها ولذلك فإن النصر مكفول لها مهما كان وضع الصراع الذي تدخل فيه، ومهما كانت القوى التي تصارعها.

إن الموضوع هي موضوع واحد لي غير، ألا وهو الأمة الإسلامية. فالأمة الإسلامية متى تحركت كان التحرير ومتى اندفعت يكن الإنقاذ، ومتى زمجرت خر الجبابرة ساجدين. فالمسألة كلها أن تتحرك، ثم تندفع، ثم تزمجر، فتكون السعادة والهناء، وتكون الطمأنينة والاستقرار، ويعم الناس التقدم والازدهار. فالأمر كله أن تتحرك الأمة الإسلامية في هذا الوجود.

إن الأمة الإسلامية وهي تؤمن عن تصديق جازم مطابق للواقع عن دليل، إيماناً جازماً بوجود الله، وأنه حقيقة لا فكرة، فإنها تفهم معنى الحياة، وتدرك واجب الحياة، وهي تعتقد بأن محمداً نبي الله ورسوله، وأنه رسول الله إلى الناس كافة، تفهم واجبها نحو نفسها، ومهمتها تجاه بني الإنسان. وهي وقد آمنت بكتاب الله وعرفته، واعتقدت بسنة محمد وسيرته وعرفتها، فإنها تفهم معنى السياسة والحرب، وتعرف كيف تصارع قوى الكفر، وكيف تزلزل عروش الطغيان. فهي تعرف موقعه بدر، وتدرك معركتها وتحييها في قلبها. فلا غرو أن تترك التجارة المال، وتصارع قوى البطر والكفر ولو كانت أضعاف أضعافها، وهي تقرأ قوله تعالى: ]الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ[ فتعرف أنه فرض عليها أن تقاتل عدوها إذا كانت قوته ضعفي قوتها، وأن هذا أخف ما فرض، فلا تتردد في مهاجمة قوى الشر متى كانت لا تزيد عنها ضعفين.

وهي تعرف غزوة الأحزاب، وكيف تجمعت قوى الكفر على المسلمين من قبائل شتى لتمحو الإسلام من الوجود. فليس عجيباً أن تقف وحدها في وجه العالم كله، وأن تسلك السياسة إلى جانب الحرب، والدهاء والحيلة إلى جانب الأعداد والقوة. وهي تقرأ قوله تعالى مخاطباً الرسول عليه السلام: (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ) تدرك أنها في حالة الدفاع يجب أن تقاتل عدوها مهما بلغت قواه من القوة، ومهما بلغت هي من الضعف، حتى تدفعه عن نفسها أو تفنى عن بكرة أبيها.

وهي تقرأ عمرة الحديبية، وكيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بلغه مفاوضات خيبر مع قريش لإيجاد حلف بينهما يهاجمان به محمداً في المدينة فيمحونها من الوجود. وأنه حين بلغه ذلك، صمم على العمرة لمصالحة قريش ومعاهدتها، وكيف أنه بعد عاهدها وأمن شرها رجع إلى يهود خيبر فحاربهم ومحاهم ككيان من الوجود. إنها وهي تقرأ ذلك، تعرف كيف تصنع إذا تكتلت الدول ضدها لتمحوها، وكيف تضرب أعداءها لتحول بين تكتلهم وتتقي شرهم وتقضي عليهم. وهي تقرأ قوله تعالى: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ) تدرك أنها لا تكون أسيرة المعاهدات والاتفاقات، وأنها مع كونها مأمورة بالوفاء بالمعاهدات، فإنها إذا أحست بالشر تسارع بنبذ هذه المعاهدات.

إنها وهي تدرك أن مكة قد فتحت بالحرب والصلح معاً، وتعرف ما فعله الرسول عليه السلام بعد دخوله مكة حين قال اهتفوا لي بالأنصار، ثم لما حضروا قاله لهم: إن قريشاً وبشت أوباشها فاحصدوهم حصداً، وسحق إحدى كفيه بالأخرى، تدرك أن الجيوش إذا دخلت بلداً سلم أهلها، ثم أحست أن ذلك البلد يفكر بالحرب، فإنها يجب أن تسحق ذلك البلد سحقاً، وأن تمضي حتى تقضي على القوة القضاء الأخير. والأمة الإسلامية حين تقرأ ]فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ[ تعرف أن استقامة العدو شرط لاستقامة المسلمين، وأن المؤمن كيّس فطن، وأنه لا يغفل عن تحرك عدوه ولو استسلم له، ولو عاهده.

والأمة الإسلامية وهي تعرف أن مكة فتحت في السنة الثامنة، وأن الرسول سمح للمشركين أن يحجوا، وسمح لهم أن يطفوا بالبيت عرياً، واضطر إلى عقد معاهدات معهم، وتعرف أن ذلك صار أذى في نفوس المسلمين، وصدر عن مراعاة لضعف قوته عن قوى المشركين، وعن وهن كان لدى المحاربين. وكيف أنه في السنة التاسعة نزلت عليه سورة براءة أو سورة الحرب، فأمر بوضعها بلا بسملة، وأمر علياً أن يلحق بأبي بكر أمير الحج ليبلغ سورة التوبة للناس، وليعلن الأوامر الثلاث المشهورة: لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان معاهداً إلى أجل فهو إلى أجله. وأنه بعد أربعة أشهر يجب أن يسلم المشركون أو يقاتلون حتى يفنوا: فالإسلام أو الحرب. إن الأمة الإسلامية وهي تعرف ذلك كله، تدرك أنها إن أعطت تنازلات مشينة من جراء عوامل اضطرارية، فإنه لا يصح أن تسكت عليها، بل يجب أن تنقضها في أقصر وقت ممكن بعد تحضير القوة الماحقة لمن يقف في وجهها. كما تدرك أنه لا يصح أن يكون بينها كيان، ولا أن يبقى في داخلها أو في داخل أي بلد منها قوة حرة في أي مفهوم من مفاهيم الحياة، وأنه لا يرتفع صوت في الأمة سوى الإسلام. وهي حين تقرأ قوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) تعرف أن لا عزة لغير الإسلام في بلاد الإسلام.

إن الأمة الإسلامية حين تقرأ ذلك وغيره من الكتاب والسنة والسيرة النبوية، لا شك أن السياسة والحرب لا يتكون من معارفها فحسب، ولا تكون من دراستها واختباراتها ولا تتبع من حاجاتها فقط، وإنما تكون أفكاراً من عقائدها، وأحكامها من شريعتها، ومتغلغلة في حنايا نفسها، ومتأصلة في دمها وتكوينها. فهي إذا درست سياسة الدول الكبرى فإنما تدرسها كواقع لتعاجله بأفكار الشرع وأحكامه وتقاومه بما يتطلبه من سياسة وحرب، وتدرك كيف تسير، وتعرف أين الدرب. وهي ترى أن إنجلترا إنما تستعمرها كشعب، وأن فرنسا إنما تغزوها ككيان، وأن روسيا إنما تسيطر عليها كأمة، وأن روسيا إنما عليها كأمة، وأن روسيا إنما تبسط نفوذها كأمة واحدة وإن كانت شعوباً. حين ترى ذلك تدرك أنها هي بوصفها أمة هي الهدف من ذلك الاستعمار والغزو والسيطرة والنفوذ، وأن استغلالها وغزوها والسيطرة عليها بوسط النفوذ فوق ربوعها لا يتم إلا بتجزئة بلادها إلى دول، وبتفرقة صفوفها إلى شعوب، وسحب سر قوتها بإقصاء دينها عن الحياة.

فاستعمار الأمة الإسلامية، وغزوها، والسيطرة عليها، وبسط النفوذ فوق ربوعها، ليس المقصود منه الوجه المادي، وإن كان هو الحاصل، ولا نهب خيرات البلاد الإسلامية وإن كان هو الجاري. بل المقصود الأساسي، والدافع الأصلي، هو بعد تمت هزيمتها في ميادين الحرب والفكر، هو الحيلولة دون أن تعود مرة أخرى لحمل رسالتها إلى العالم، والخوف منها من أن تحطم قوى الشر، وتدك صروح الطغيان. هذا هو الأساس، وهذا هو الأصل، وهذا هو وجه القضية كلها. فالموضوع إذن ليس الاستعمار فحسب، بل الموضوع هو تحطيم هذه الأمة تحطيماً تاماً ومحوها من الوجود بوصفها أمة إسلامية، حتى لا تعود مرة أخرى لحمل رسالتها إلى العالم. وإذا كان التاريخ، وواقع ما يجري من التضليل للمسلمين، يكفي برهاناً على أن هذا وجه القضية وليس الاستغلال ونهب الخيرات، ولكنه يمكن أن يستأنس لرؤية الواقع الحقيقي لوجه القضية بالبصيرة والبصر، بما حصل لألمانيا، وبواقع قضية ألمانيا، بعد الحرب العالمية الثانية، وانتصار العدوين اللدودين: الدول الشيوعية والدول الرأسمالية على ألمانيا. فها هي ذي ألمانيا، الأمة العظيمة، والقوة المرهوبة، فد وقفت منها القوى الشيوعية والقوى الرأسمالية، موقفاً واحداً هو الحرص على عدم عودتها أمة عظيمة كما كانت، حتى لا تشكل خطراً على الجميع. فالدول الرأسمالية من مصلحتها أن تعود ألمانيا قوة مرهوبة لتقف في وجه الشيوعية وتحرس أوروبا من غزو روسيا، وقد رأت هذه المصلحة جليه بعد الحرب العالمية الثانية وحتى أواخر الخمسينات، ولكن إصرار روسيا على استمرار خضوع ألمانيا والحيلولة دون رجوعها أمة كبرى، وخوف فرنسا من ألمانيا، وذبذبة موقف إنجلترا، وخشية أميركا من فقدان التوازن بين دول أوروبا، كل ذلك جمع كلمة العالم القوي، على الحيلولة دون أن ترجع ألمانيا أمة عظيمة أو أمة كبرى. فالغاية من ذلك ليس استعمار ألمانيا، ولا نهب خيراتها، وإن كان فرض السيطرة وبسط النفوذ واستغلال الاقتصاد الألماني والجهد الألماني حاصلاً فعلاً، فإن الدافع الأساسي هو اتقاء خطر ألمانيا، ومحافظة كل دولة من هذه الدول المتفقة ضد ألمانيا على بلادها وأمنها ودولتها. وهذا بالنسبة لألمانيا وهي لا تملك فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة تهدد تلك الأمم، ولا تحمل دعوى سامية إلى العالم، فكيف بالأمة الإسلامية التي هي أقوى من ألمانيا بالقوة والعدد والثروة، وهي تملك أقوى فكرة، وتحمل أعظم دعوة. إن هذا المثل وحده، كاف للاستئناس فضلاً عن التاريخ لإدراك حقيقة الاستعمار والغزو والسيطرة والنفوذ، الواقع على الأمة الإسلامية. لذلك فإن من المحتم أن توضع قضية البلاد الإسلامية في موضعها الصحيح، وأن تبسط حسب وجهها الحقيقي، وأن يعمل لها على أساس أمة إسلامية ليس غير. [يتبع]

من كتاب «نظرات سياسية لحزب التحرير» لتقي الدين النبهاني.   

بطن الأرض خير من ظهرها

عن أبي هريرة عن البني صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كانت أمراؤكم خياركم، وأغنياؤكم سمحاءكم، وأموركم شورى بينكم فظهر الأرض خير لكم من بطنها. وإذا كانت أمراؤكم شراركم، وأغنيائكم بخلاءكم، وأموركم إلى نسائكم، فبطن الأرض خير لكم ظهرها» [رواه الترمذي]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *