الجهاد في سبيل الله والغزو الفكري ضده
1988/09/05م
المقالات
2,790 زيارة
تتمة المنشور في العدد الماضي
بقلم: أحمد المحمود
طرابلس ـ الشام
محاربة الجهاد بتفريغه من معانيه وبواعثه وغاياته
لجأ الأعداء إلى محاربة الجهاد تبفريغه من معانيه ومن بواعثه وغاياته. فصوروا للمسلمين أن الجهاد هو قتال لآخرين اعتدوا عليهم وعند مقاتلة المسلمين لأعدائهم راحوا ينفثون فيهم نتن العصبية وحمية الجاهلية، وأحلوا محل الغاية الإسلامية غاية الدفاع عن الوطن أو القوم، واستبدلوا بآيات القرآن أناشيد وطنية وقومية. فبدل أن كانت سورة الأنفال هي النشيد الحربي الذي يتلوه المسلمون كلما اشتد الكرب وحمي الوطيس، أصبحت «موطني… موطني…» و«بلاد العُرْبِ أوطاني» وغيرها من الشعارات التي ليسَ لها أصل في النفوس، ولا جذور في العقول، من أجل ذلك نكب المسلمون بأجبن خلق الله، واليهود، مع أن رسالتهم تعدهم لأن يكونوا خير الأمم وأرقاها وأوسطها، تشهد على الناس يوم القيامة بدعوتها ويزوي لملكها مشارق الأرض ومغاربها.
قلب الحقائق
هذه الصورة التي أراد الكفار الغربيون أن يُظهروا فيها فرضية الجهاد في الإسلام بشكل مشوّه ومفترى عليه، تنطبق في الواقع على حقيقة دوافعهم وأهدافهم حين يقومون بعملية القتال، إذ أنهم يريدون أن يحققوا من خلال قتالهم لغيرهم تسخير الشعوب أو الحصول على مصادر الثروات أو بغية الحصول على المال. هذه الأهداف المتدنية القائمة على الاستعمار والاستغلال بأبشع صوره، هي أهداف لازمة للفكرة القائمة على أساس فصل الدين عن الدولة وعلى أساس النفعية التي تتحكم في نظرة وتصرفات الغربي. وكعادتهم في التضليل لبسوا صوف الحمل ليستروا ما في داخلهم من غدر الذئب ومكر الثعلب.
ولقد استعمل الغرب كلمة انتداب مكان الاستعمار زاعماً أنه إنما يفعل ذلك لتهيئة الشعوب لتصبح أهلاً لتقود نفسها. ولو عدنا للواقع لوجدنا أنهم كانوا في فترة انتدابهم يمصون دماء الدول المغلوبة وينهبون خيراتها ويهيئون رجالاً عملاء لهم، وكانوا يسلمونهم الحكم ويفرضونهم فرضاً مع زبانية لهم على الآخرين، ثم يخرجون من البلاد مدّعين وفاء العهود.
وهكذا تحول مظاهر الاستعمار من استعمار مباشر إلى إيجاد عملاء له، وهذا هو حال معظم دول العامل: لها صورة الدول المستقلة وهي في حقيقتها تابعة.
وراح بعدها الغرب العامر يخوض الحروب ويحقق أهدافه وأطماعه بواسطة عملائه ونواطيره وليس بواسطة جيشه، فهو إن خسر تقع خسارته على العملاء وشعوبهم وإن ربح فله الربح والغنيمة.
وصراع الدول الكافرة فيما بينهما على النفوذ والثروات لا يباشرونه بأنفسهم في أرض المعركة. فلا تهاجم روسيا أميركا مثلاً أو العكس بل يوجد الروس حكاماً لهم في أفغانستان وبالمقابل تحد أميركا الثوار عن طريق الدول العربية أو مباشرة، مع وجود بعض المخلصين الذين لا يملكون وحدهم القدرة على تقرير مصير البلاد. وهكذا يظهر الصراع أنه داخلي أما في الحقيقة فهو صراع دول الكبيرة على أراضي الغير ووقوده السلمون وغيرهم من الشعوب المستضعفة.
وصراع التشاد مثلاً هو في حقيقته بين فرنسا وأميركا من جهة وبريطانيا من جهة ثانية يقوم به نيابة عنهم عملاء لكلا الطرفين. فلا يظهر للعلن إلا خلاف بين الدول المتخلفة، أما الدول الكبيرة الكافرة فتظهر بمظهر الدول المتحضرة التي تشجب هذه الحروب وتحاول كل منها أن تتدخل لتحسم المعركة سياسياً لمصلحتها بحجة وقفها، ولا يخرج الصراع والحرب المدمرة بين العراق وإيران عن هذا الإطار ففي الظاهر مسلمون يستبيحون دماء بعضهم البعض وهذا من أكبر الكبائر، بينما هو صراع ترعاه الدول الكافرة الكبيرة لتحقيق أهداف غير معلنة ولكنها مفهومة.
ومجلس الأمن الذي هو صنيعة للدول الكافرة الكبيرة وخاصة أميركا يشجب إيران أو العراق ولا يحرك أصابع الاتهام ضد المسببين الحقيقيين لهذه الحرب.
– وإن أي مقاومة مسلحة تنشأ في بلد ما ضد عميل من عملائها أو يشكل تهديداً لمصالحها تصوره للناس بأنه إرهاب.
– وصارت الدول الكافرة الكبيرة تتخذ كذلك أساليب جديدة غير القتال بهدف الاستغلال والاستعمار.
فهي عن طريق البنك الدولي وما تقدمه من ديون للدول الفقيرة تحاول أن تتحكم في اقتصاد بل في سياسة هذه الدول.
وهي عن طريق مجلس الأمن الدولي تحاول حل مشاكل الدول المتنازعة بحسب مصلحتها لا بحسب مصلحة الدول المتنازعة. وإن لم ترضَ عن الحلول المطروحة تستعمل (الفيتو) حق النقض.
وفكرة السلام العالمي نادوا بها ليفرضوا السلام الذي يناسبهم.
وكعادة الكافر الغربي في تزوير الألفاظ وتزويقها بأدوات للتجميل من صنعه، وكما سمى العاهرة فنانة والربا فائدة، كذلك فقد بطَّن استعماره هذا واستغلاله للشعوب وسماه استقلالاً وكأنه يطلق اللفظ ويريد ضده. فلبنان مثلاً دولة مستقلة في الظاهر ويطلب حل مشكلته من أميركا، والدول العربية المستقلة ظاهرياً تريد حل قضية فلسطين عن طريق مؤتمر دولي ترعاه الدول الكافرة الكبيرة. وأي دولة لفلسطين هذه ستنشأ وزعماء المنظمة يركضون وراء رضى الدول الكافرة الغربية لتمنحهم فيما بعد دولة محددة النظام والحدود والمسؤولين، وتسمى فيها بعد مستقلة. فكل الحروب التي تنشأ اليوم في بلاد المسلمين هي برسم الدول الكافرة وتخفي وراءها أطماعاً شيطانية لا تخفي على من لديه أدنى بصيرة.
هذه هي حقيقة دوافع الدول الكافرة الكبيرة، وهذه هي حقيقة الحروب التي تشعل العالم اليوم وهذه هي غاياتهم.
نعم لقد حاولوا أن يتهموا الإسلام والمسلمين بما هم فيه وبما هو منه براء.
فأين هذا من الفتوحات الإسلامية حيث لم يشهد التاريخ فاتحاً أرحم من المسلمين ولا حكماً أعدل من حكمهم.
ولعمري إن هذا الواقع الأليم الذي تعيشه الشعوب: غالبها ومغلوبها لهو بأمس الحاجة إلى الفتح الإسلامي من جديد وإلى الحكم الإسلامي العادل لتحل كل المشاكل العالقة على ضوء الكتاب والسنة، وما أكثر هذه المشاكل ولا حل لها صحيحاً إلا بالإسلام.
الجهاد شرع للدفاع
إن الجهاد يوجد في الواقع على صورتين: مبادأة وهو الأصل ويكون لنشر الإسلام، ودفاعاً ويكون لردع المعتدين. ففي الحالة الأولى يحتاج وجوده إلى دولة تعد عدته، وتقوم بتحقيق كل بواعثه وغاياته. وفي الحالة الثانية لا يتوقف وجوده على وجود الدولة الإسلامية. فحيثما وجد اعتداء على المسلمين وجب عليهم أن يعدوا العدة التي يكون من شأنها أن تطرد العدو ويكون فرض عين على أهل المحلة التي احتلت وعلى من بقربهم إن عجزوا. وفي هذه الحالة يخرج المدين بغير إذن دائنه، والعبد بغير إذن وليه، والمرأة بغير إذن زوجها والولد بغير إذن والديه. فمثلاً جهاد المسلمين للروس في أفغانستان، وجهاد المسلمين لليهود في فلسطين يجب أن يقوم شرعاً ويجب أن يكون في سبيل الله لا في سبيل عروبة أو وطنية.
وما يحدث الآن من انتفاضة إسلامية في فلسطين تعيد الأمل إلى النفوس بقرب عودة الجهاد ضد اليهود وخطوة أولى تظهر تشوق المسلمين جميعاً إلى القيام بما فرضه الله عليهم من مقاتلة اليهود والقضاء عليهم.
والذي يجدر ذكره في هذا الباب أن فرضية الجهاد في سبيل الله في فلسطين والتي يجب أن تقوم إنما يمنع من إقامتها حكام المسلمين. لذلك يجب على المسلمين أن يزيلوا كل عائق يمنع من إقامة هذا الفرض والتغيير عليهم، وتنصيب من يقوم بأمر المسلمين بالكتاب والسنة وإقامة أحكام الدين وإعلان الجهاد والقضاء على إسرائيل.
وإذا استطاع المسلمون أن يجاهدوا اليهود من الأراضي الإسلامية قبل قيام الدولة الإسلامية لكان عملهم هذا قياماً بالفرض وقعودهم عنه يجعلهم آثمين.
الجهاد شرع للهجوم والمبادأة
أما الجهاد الذي ارتبط وجود بوجود الدولة الإسلامية فإنه طريقة للدعوة:
– ويترتب عليه حكم الكفار بالإسلام وأخذ الجزية منهم وهذا لا يكون إلا من خلال دولة ووجود دار إسلام. فكيف نحكم غيرنا أو نطلب منهم أن نحكمهم ونحن لا نستطيع حكم أنفسنا بالإسلام.
– ويترتب عليه الإعداد على أعلى المستويات وجعل المسلمين كلهم تحت السلاح وإنشاء مصانع الأسلحة ومختبراتها، وحيازة كل أنواع الأسلحة وهذا لا يمكن أن يقيمه على صورته المطلوبة إلا دولة إسلامية. يقول سيد قطب عند تفسيره لآية: (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) «إن الجاهلية تتمثل في مجتمع ووضع سلطة فلا بد كي يقابلها هذا الدين بوسائل مكافئة أن يتمثل في مجتمع ووضع وسلطة ولا بد بعد ذلك أن يجاهد ليكون الدين كله لله فلا تكون هناك دينوية لسواه».
– ويترتب عليه أن كل ما ينشأ عن الجهاد من علاقات خارجية متعلقة بالصلح أو الهدن أو المعاهدات بأنواعها هي من العلاقات التي تباشرها الدولة الإسلامية وتشرف عليها.
ارتباط الجهاد بالدولة الإسلامية
والدار لا تخلو في الأرض من أن تكون إما دار كفر وإما دار إسلام. والجهاد ماضٍ في الدارين كما ذكرنا.
والدعوة في دار الإسلام يحملها المسلمون ودولتهم عن طريق الجهاد، أما في دار الكفر فيحمل المسلمون الدعوة لاستئناف الحياة الإسلامية بالطريقة التي حملها الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة وليس عن طريق الجهاد حيث عمل لإقامة الحكم بما أنزل الله وحينها كان مأموراً بالكف عن مقاتلة الكفار وقد لخص الإمام ابن القيم سياق الجهاد في الإسلام في «زاد المعاد» في الفصل الذي عقده باسم: «فصل في ترتيب هدية مع الكفار والمنافقين من حين بعث إلى حين لقي الله عزَّ وجلَّ. فقال: أول ما أوحي إليه ربه تبارك وتعالى أن يقرأ باسم ربه الذي حلق وذلك أول نبوته فأمره أن يقرأ في نفسه ولم يأمره إذ ذاك بتبليغ، ثم أنزل عليه: (يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ @ قُمْ فَأَنذِرْ) ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين، ثم أنذر قومه، ثم أنذر من حولهم من العرب ثم أنذر العرب قاطبة ثم أنذر العالمين. فأقام بضع عشرة سنة بغير قتال ولا جزية، ويؤمر بالكف والصبر والصفح ثم أذن له في الهجرة وأذن له في القتال ثم أمره أن يقاتل من قاتله ويكف عن عمن اعتزله ولم يقاتله ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله».
ولنا بالرجوع إلى حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته أكبر الأسوة للخروج مما نحن فيه من عنت الحياة وضنك العيش وذلك بإقامة شرعه ومن ثم الجهاد في سبيل الله لإعزاز دينه ونشره.
وإن ما نلفت النظر إليه أن الجهاد لم يشرع لأجل الجهاد والقتل وإما شرع كطريقة للدعوة بواسطته يتمكن المسلم من جعل كلمة الله هي العليا. وهو قتال من وقف في وجه الدعوة حاجزاً انتشارها ومانعاً من فرض نظامها. وعليه فإن محبة هداية الناس ونشر دين الله هو الذي يقف وراء الجهاد. وإنما الكره والضيق هو للكفر ولمن يقاتل المسلمين نظراً لما يتصفون به من إصرار على منع أمر الله.
والأمر الثاني الذي يلفت النظر إليه هو أن الكلام عن جهاد المبادأة وتعلقه بوجود الدولة تعلقاً قوياً لا ينقص من قيمة الجهاد بل يطلعنا نضع الأمور في نصابها فنحرص على إيجاد الدولة الإسلامية والتي تقوم بعدها بكل ما يتطلبه هذا الجهاد من إعداد وحسن قيام به، وتحقيق غايته.
هذا هو الجهاد، وهذه هي أهدافه، وهكذا يكون الإعداد له، فلنع ذلك ولنقيّم المفاهيم الإسلامية الصحيحة في نفوسنا حتى يسهل بعدها إقامتها في واقعنا.
والله نسأل أن يعيننا لأن نقيم هذه الفريضة العظيمة ونحقق الغلبة والنصر لدين الله ونضع حداً لظلم الكفار وحكم الطغاة.
قال تعالى: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ @ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)
1988-09-05