العدد 15 -

السنة الثانية – العدد الثالث – ذو الحجة 1408هـ، الموافق آب 1988م

الفتنة في الحرم

 في مثل هذه الأيام من السنة الماضية ـ أيام الحج سنة 1407هـ ـ وقعت فتنة دموية في الحرم المكي قُتِلَ فيها ما يزيد عن 400 شخص، ما عدا الجرحى واتلاف الممتلكات.

وقد جرّت هذه الفتنةُ، وما زالت تجرّ، ذيولاً كثيرة.

– من هذه الذيول أن مؤتمر القمة العربي الذي انعقد في عمان خلال (8 ـ 11 تشرين الثاني 1987) اتخذ قراراً بأن لا يزيد عدد الحجاج من أي قطر عن نسبة واحد بالألف من عدد سكانه. فمثلاً إيران عدد سكانها 45 مليوناً، فلا يحق لها أن ترسل أكثر من 45 ألفاً.

– ومن هذه الذيول أن السلطات السعودية المشرفة على شؤون الحج صارت تمنع من كانت سِنُّه أقل من أربعين سنة من الذهاب إلى الحج.

– ومن هذه الذيول أن إيران أعلنت أنها إمّا أن ترسل 150 ألفاً إلى الحج وإمّا أن لا ترسل أحداً.

– ومن هذه الذيول أن السعودية عقدت مؤتمراً للعلماء لإدانة إيران وتبرئة ساحتها، وأن إيران عقدت مؤتمراً للعلماء لإدانة السعودية وتبرئة ساحتها. وأخذت وسائل الإعلام السعودية تنعت إيران بالشغب والكفر، وأخذت وسائل الإعلام الإيرانية تنعت السعودية بالكفر والتبعية لأميركا.

– وقبل هذه الفتنة وبعدها كانت إيران تطالب بتنحية آل سعود عن الإشراف على الأماكن المقدسة ووضعها تحت إشراف لجنة دولية من المسلمين.

– وإذا أراد المسلم أن يعرف الحق في هذه المسائل، وأن يعرف حكم الشرع فيها دون أن ينحاز انحيازاً عاطفياً أو مصلحياً إلى إيران أو السعودية، فكيف له ذلك؟ لقد جندت السعودية عدداً كبيراً من العلماء ليدافعوا عن مواقفها، وجندت إيران عدداً كبيراً من العلماء ليدافعوا عن مواقفها، حتى أصبحنا لا نسمع طرفاً يبحث عن الحق، ويقول الحق، ويقول للسعودية وإيران معاً: أنتما في باطل، وأنتما تخالفان شرع الله.

– لا يحل شرعاً للسلطات السعودية ولمؤتمرات القمة أن تمنع من كان تحت سنّ الأربعين من أداء فريضة الحج، ولا يحل لهم أن يحددوا نسبة واحد بالألف ويمنعوا ما يزيد على ذلك. وهذه بدعة يبتدعها المشرفون على الحج الآن ولم يقل بها عالم في السابقين ولا في اللاحقين. وهذا واقعه صدٌّ عن المسجد الحرام. وما دام الله سبحانه يقول: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ)، وما دام الحج ركناً من أركان الإسلام بقوله صلى الله عليه وسلم : «بني الإسلام على خمس… وحج البيت من استطاع إليه سبيلا» فلا يجوز لأحد أن يمنع من يريد أداء هذه الفريضة.

أما إذا كان المشرفون على الحج يزعمون أنهم لا يستطيعون تأمين المرافق الكافية إلا لعدد محدود من الحجاج، فإن زعمهم هذا مردود عليهم. فالمرافق متوفرة من حيث الواقع، ويستطيع المشرفون أن يوفروا المرافق لأضعاف عدد الحجاج الذين يذهبون، فالأرض واسعة والخيرات كثيرة، والأموال وافرة، خاصة وأن الدولة المشرفة تأخذ من الحجاج رسوماً تفوق ما تدفعه هي. وبعد ذلك إذا زعم هؤلاء المشرفون أنهم عاجزون عن تأمين المرافق وخدمة الحجيج عليهم أن يطلبوا المعونة أو أن يتنحوا لغيرهم، فليس من الشرع أن يبقى العاجز مستأثراً بأمر هو عاجز عنه.

والحقيقة أن السعودية بحثت عن سبب لتقليص عدد الحجاج الإيرانيين، وهذا واضح.

وننتقل إلى الجانب الآخر. هل يجوز شرعاً للسلطة في إيران أن تمنع 45 ألفاً من أداء فريضة الحج بحجة أنها تريد أكثر؟ لا يحل لها شرعاً ذلك. إن موقفها في ذلك يشبه موقف السعودية. هذه تمنع ما يقل عن 45 ألفاً وتلك تمنع ما يزيد عن 45 ألفاً، والنتيجة هي منع المسلمين من أداء فريضة الحج. فالموقفان يتصادمان مع النصوص الشرعية القطعية الثبوت القطعية الدلالة.

أما طلب إيران بأن تُشكل لجنة دولية للإشراف على شؤون الحج والأماكن المقدسة، فإنه طلب غير شرعي. إذ أن المسلمين، على اختلاف مذاهبهم، هم أمة واحدة ويجب أن تكون لهم دولة واحدة، تحت حكم خليفة واحد. طلب إيران هذا ينطلق من الإقرار ببقاء المسلمين ممزقين إلى دويلات، وتنظيم شؤونهم على هذا الأساس. وهذا يصطدم بالنصوص الشرعية.

وهذا لا يعني أننا نطالب ببقاء الإشراف السعودي على الأماكن المقدسة، بل نحن نسعى لإقامة خليفة للمسلمين يحكم بما أنزل الله ويوحد بلاد المسلمين ويبسط إشرافه على السعودية وعلى إيران ويتولى شؤون الحج وجميع شؤون المسلمين.

ونعود إلى ما حصل من فتنة وقتل في الحرم في السنة الماضية.

إيران تقول أنها تريد أن تقوم بالمسيرات والهتافات في الحرم المكي أثناء الحج. والسعودية تريد أن تمنع هذه المسيرات. ذهب المسؤول عن الحجاج الإيرانيين إلى المسؤول عن الأمور الأمنية في مكة وأعلمه بأمر المسيرة يوم الجمعة، واتفقا على أن تسلك المسيرة شوارع معينة وتصل إلى نقاط محددة ثم تتفرق. وفعلاً انطلق المسيرة، وحين وصلت إلى النقاط المحددة حاولت المسيرة أن تجرف قوى الأمن لتدخل إلى المسجد الحرام بشكل مسيرة. وهنا حصل الاصطدام فانطلقت زخات من الرصاص، واستعملت الهراوات، وتدافعت موجات الناس فمعس بعضهم بعضاً، وقتل بعضهم بالرصاص وبعضهم بالهراوات، وسيطرت الشرطة ولم تستطع المسيرة أن تصل إلى المسجد الحرام لتعلن منه مقررات كانت معدة سلفاً

السعودية ومن لفّ لفها أنحت باللائمة على إيران، وإيران ومن لفّ لفها أنحت باللائمة على السعودية.

والواقع أن الطرفين آثمان ومخالفان لشرع الله.

أما مسؤولية السعودية، وإثمها فأمر واضح، فإنها قَتلتْ وسفكت الدم بإطلاق النار وبالهراوات في الشهر الحرام في البيت الحرام. قال تعالى عن البيت الحرام: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا)، وقال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا)، وقال: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ @ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)، حتى أنه من تحريمه حرمةُ اصطياد صيده وتنفيره عن أوكاره، وحرمة قطع شجره وقلع حشيشه. جاء في الصحيحين، واللفظ لمسلم، عن أبي شريح العدوي أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة: أئذن لي أيها الأمير أن أحدثك قولاً قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم  الغد من يوم الفتح، سمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلم به، إنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال: «إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك به دماً، أو يعضد به شجرة، فإنْ أحدٌ ترخّص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم  فيها فقولوا له: إن الله أذن لنبيه ولم يأذن لكم، وإنما أذِنَ لي فيها ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب».

وروى مسلم عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم  يقول: «لا يحل لأحد أن يحمل السلاح بمكة».

وأما قوله تعالى: (وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ) فإنه عن الكفار الذين يقاتلون المسلمين في المسجد الحرام. والإيرانيين ليسوا كفاراً ولم يقاتلوا في المسجد الحرام. والمسيرة ليست قتالاً والهتافات والشعارات ليست قتالاً، بدليل أن السعودية سمحت لهم بالمسيرة والهتافات والشعارات ضمن حدود معينة من الحرم المكي.

وأما مسؤولية إيران وإثمها فأمر واضح أيضاً. فهي قد خالفت شروط المسيرة المتفق عليها، وبدل أن تتوقف المسيرة عند حاجز قوى الأمن حسب الاتفاق حاولت اختراقه بل جرفه، وتسببت في حصول الصدام. قال تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ). جاء في تفسير ابن كثير: “الفسوق ههنا السِّباب، قاله ابن عباس وابن عمر وابن الزبير ومجاهد والسدي وإبراهيم النخعي والحسن، وقد يتمسك لهؤلاء بما ثبت في الصحيح: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر»” وقد يكون الفسوق ههنا جميع المعاصي، فهي تشمل السباب ونقض الاتفاقات.

وأما الجدال في الحج فهو منهي عنه في الآية سواء كان معناه الجدال في وقت الحج في مناسكه كمن يقول هو عبادة سياسية أو سياسة عبادية ولا يتم إلا بالمسيرات والشعارات والهتافات، أو يقول بأن هذه الأمور لا دخل لها بالحج وما هي إلا ذرائع لإيجاد الفوضى وتحريض الناس ضد المشرفين على الحج.

أو كان معناه المخاصمة. عن ابن مسعود رضي الله عنه أن قوله تعالى: (وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ) قال: أن تُماري صاحبك حتى تغضبه. وكذلك قال جمع كبير من الصحابة والتابعين بأن الجدال ههنا هو المراء والملاحاة والمنازعة والسباب حتى يغضب المسلم.

وما حصل من إيران هو أكثر من الجدال. علماً أن إيران كانت تقيم العلاقات الدبلوماسية مع السعودية وتعترف بإمارتها على شؤون الحج وتنسق معها في هذه الشؤون وغيرها، فالأمر يتطلب من إيران أن لا تثير هذا الموضوع أثناء تأدية فريضة الحج لأن هذا سيولد الفوضى ويخيف الناس ويجر إلى ما لا تحمد عقباه. وها نحن نسمع إيران تصرّ هذا العام على إرسال ما يزيد على 150 ألف حاجاً، وتريد أن تقوم بما قامت به العام الماضي، أي لا مانع لديها أن تتسبب من جديد في المذابح في الشهر الحرام في البيت الحرام.

رب قائل يقول: أن التبعة تقع، في مثل هذه الحال، على السعودية وليس على إيران. والجواب: بلى إن التبعة تقع على إيران كما تقع على السعودية، لأنها تعرف أن السعودية جادة في إنذارها، فإذا لم تتدارك هي الأمر كان المسؤولين في البلدين مشتركين في الإثم.

وحقيقة الأمر أن أميركا (ومعها دول الكفر الأخرى) تريد إيجاد هوه واسعة بين السنة والشيعة من خلال إيجاد الصراع على الأماكن المقدسة بين السعودية وإيران. وأميركا يسُرّها أن تعقد السعودية مؤتمرات للعلماء للهجوم على إيران، وأن تعقد إيران مؤتمرات للعلماء للهجوم على السعودية. ويسرها أن ينشط إي إعلام كل منهما في تكفير الطرف الآخر. وبذلك تكون أميركا قد حفرت خنادق واسعة لتفريق المذاهب الإسلامية عن بعضها، وخاصة بعد بروز عوامل الصحوة الإسلامية.

وكانت أميركا (ودول الكفر الأخرى) أوجدت هوة واسعة من خلال الحرب العراقية ـ الإيرانية بين الفرس والعرب.

شرخ من منطلق مذهبي وشرخ من منطلق قومي. فأين أنتم ومكائد الشيطان الأكبر؟q

أسرة (الوعي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *