العدد 15 -

السنة الثانية – العدد الثالث – ذو الحجة 1408هـ، الموافق آب 1988م

الرابطة القومية

يقول الله تعالى في كتابه العزيز: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات:13]، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم : «الخلق كلهم عيال الله، فأحبهم إليه أنفعهم لعياله».

إنّ موضوع الرابطة القومية هي من الأفكار الدخيلة على الأمة الإسلامية، وكما عبّر عن ذلك واحد من كتاب الغرب الكفرة وهو (برنارد لويس) في كتابه (الغرب والشرق الأوسط) والذي قال فيه: “في هذه الإمبراطورية (يعني الدولة الإسلامية) كان ولاء المسلمين الأساسي للإسلام وللدولة التي تجسد واقع الإسلام، وللخلافة التي اكتسبت الصفة الشرعية بالمبايعة على مرور الزمن، والتي كانت تسوس أمور الناس وكان المعارضون والمتمردون والثائرون يسعون لتغيير الوزراء أو الحكام أو حتى الخلافة الحاكمة كلّها، ولكنهم لم يسعوا أبداً لتغيير أساس الولاء لدولة الإسلام ولوحدة هويته. كان هذا هو الموقف في الشرق الأوسط حتى القرن التاسع عشر، وربما حتى القرن العشرين، ولقد كانت فكرة قيام الدولة على أساس الأرض والوطن القومي غريبة وأجنبية بالنسبة للمسلمين، وكذلك الأتراك لم يخترعوا كلمة تركيا إلا حديثاً، وهي من أصل أوروبي، أما العرب فلم يخترعوا تعبيراً جديداً، بل اكتفوا بالتعبير الذي يدل على جزيرة أو شبة جزيرة العرب، وبقي هذا الوضع سائداً إلى أن بدأت الأفكار الأوروبية الجديدة (تلغم) الأساس المتين للرضى والقبول اللذين كان يستند إليهما ذلك الوضع، وبدأ تأثير الغرب. وكان نفوذ الأفكار والأعمال الغربية مشجعاً على أفكار سياسية جديدة تؤثر على شكل السلطة في الدولة، وعلى القاعدة التي ترتكز عليها وحدة المواطنين. وفي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين تعددت وتغيرت الولاءات التي كانت قائمة للخلافة الإسلامية القديمة، والتي كانت تحكم العرب والعجم والترك، وحلّت محلّها أفكار ممزقة مبعثرة أوروبية، وهي مزيج من الوطنية والقومية ونظريات خيالية عن الوطن والقوم حَجَبَت الحقائق القديمة الواقعية في الدولة والعقيدة…، واليوم انعزلت فكرياً أكبر الشعوب الثلاثة في الشرق الأوسط عن بعضها، وكل شعب شغل بمفرده في حواره مع الغرب”.

هذا ما قاله برنارد لويس الغربي شامتاً على المسلمين، وفي قوله هذا توجد نقطتان لكل منهما دلالتها الملموسة في واقعنا اليوم:

النقطة الأولى: التأثير على شكل السلطة، والقاعدة التي ترتكز عليها وحدة المسلمين. وهذا ما نشاهده الآن واقعاً ملموساً في الأشكال المختلفة للحكم في العالم الإسلامي، خلافاً للشكل الإسلامي المطلوب، كذلك محاولة التأثير على العقيدة الإسلامية، والتي هي القاعدة التي ترتكز عليها وحدة المسلمين بكل أجناسهم.

النقطة الثانية: الأفكار الممزقة المبعثرة (الأوروبية)، والتي هي مزيج من الوطنية والقومية ونظريات خيالية عن الوطن والقوم. وهذا ما يتأكد لدينا إذا رجعنا إلى أصحاب هذه الأفكار وما قالوه.

(1) تعريف القومية عند ميشل عفلق مؤسس حزب البعث العربي هو: “القومية كفلسفة شائعة تنطلق من مفهوم غيبي للحياة، وتؤدي في حال وضوحها إلى مفهوم مثالي للأمة، وبذلك تصبح الأمة في نهاية المطاف العقائدي، وهذا يؤدي إلى إقصاء الجهد الفكري عن تفاعله المستمر مع الواقع، فتتغذى النـزعة الانطوائية، وتتفاعل وسائل التفاعل الإنساني”.

فمثل هذه الجمل التي تشبه هذيان المجانين والبلهاء يستحيل أن توجد فكراً واضحاً، فضلاً عن أن يقوم عليها تكتل صحيح.

(2) ويقول عبد الرحمن البزاز في كتابه (الدولة الموحدة والدولة الاتحادية): “إن الوحدة والاتحاد أشكال دستورية لا يجب أن ترقى إلى مستوى العقائد الثابتة، إنها وسائل قابلة للتجدد والتطور. وأكثر من هذا إن وحدتنا العربية يمكن أن تقوم على شكل جديد نبتكره نحن أبناء الأمة العربية، بحيث يلائم أوضاعنا الراهنة، ويحقق أهدافنا العليا، دون التزام صارم بشكل معين من أشكال الدولة المعلومة نجمد عليه ، ولكن هذا لا يعني بحال من الأحوال لزوم التسليم بالأوضاع الراهنة، واعتبار الحدود القائمة نهائية، إن دعوة التكتل والتجمع أساسية لكل قومية، وهي ضرورة حياتية للقومية العربية ذاتها، ولكن الخلاف حول شكل هذا التكتل وطريقته، لا يجب أن يؤدي إلى خلاف جدّي حول ماهية القومية العربية وحقيقة دعواها لوحدة العرب”. ويقول أيضاً: “إن من واجب المفكرين القوميين العرب عموماً، والمختصين بالشؤون القانونية خصوصاً أن يضعوا أنموذجاً كاملاً للصورة التي يجب أن يقوم على أساسها بنيان الكيان العربي العام المشترك، وذلك لكي تبرز أمام الأنظار صورة واضحة لهذا الذي تدعو القومية العربية إليه، ولتستبين إمارات ذلك الكيان في تحديد علاقات الأقطار العربية بعضها ببعض على أساس واقعها وحاجتها من جهة، وإدراك كامل لغايات القومية العربية وأهدافها العليا من جهة أخرى”.

فهذان مثالان لكاتبين أحدهما نصراني والآخر مسلم، وكل منهما يدعو إلى فكرة لم تكن واضحة حتى لديه هو شخصياً، فكيف بغيره أن يخرج منها بحقيقة واضحة يستند إليها. وعدم الوضوح في هذه الفكرة الذي أدى إلى البحث عن قاعدة تستند عليها، وهذا قول أحدهم: “إن الوحدة العربية لا تتم إلا بمضمون تقدمي من الناحية الفكرية، ومضمون اشتراكي من الناحية الاقتصادية، وإن الاشتراكية هي النظام الملائم لمطلب الوحدة العربية من الناحية العملية، وان الاشتراكيين الصادقين من العرب هم صناع الوحدة العربية المنشودة، وان واقع الوطن العربي، والمرحلة التاريخية التي يجتازها تجعل الوحدة والاشتراكية وجهين لشيء واحد وان الدعوة للوحدة العربية على غير الأساس الاشتراكي دعوة فاقدة للفعالية، ومتخلفة عن العصر وعاجزة عن تعبئة الجماهير في سبيل غاية مزدوجة، هي الوحدة والاشتراكية معاً”. وهذه الفكرة، فكرة إضافة (لزقة) للقومية العربية يقوم عليها أحزاب في العالم الإسلامي. وهذا التيار القومي الإقليمي سواء ليس رداء الوطنية أو الاشتراكية، فهو تيار مأمون تمضي مصالح القوى الاستعمارية معه في يسر وأمن وسلام، وما دام هذا التيار قوياً ومسيطراً، فإن اتجاه التبعية شرقياً كان أو غربياً سيكون هو السائد والمسيطر، لأن اتباع هذا التيار لا يعرفون لهم في الحياة طريقاً إلا طريق الغرب أو الشرق، وما دام هذا التيار قوياً ومسيطراً فسوف يستمر تفتت هذه الأمة، وسوف تستمر الحاجة دائماً إلى الاستعانة بالشرق أو الغرب، والاحتماء بالشرق أو الغرب من المتنازعين والمتنافسين والمتصارعين على السيادة والنفوذ والحكم من قادة هذا التيار، ولأنه طالما كان هذا التيار قوياً ومسيطراً، فإن عامل الوحدة الوحيد والذي يمكن أن يجمع شتات هذه الأمة ـ وهو الإسلام ـ سيظل غائباً عن الساحة. ولكن ما نشاهده الآن من صحوة تنتظم معظم العالم الإسلامي، ومن انتفاضة إسلامية في الأرض المحتلة، هل هي مصادفة، أم دليل على تحرك المارد النائم؟

إن التيار الذي يتحرك في المنطقة الإسلامية هو تيار إسلامي، لذلك فهو تيار مخيف لأعداء الإسلام، لأنه يذكّر الأمة الإسلامية بحقيقتها التاريخية، ويذكّرها بأساس وحدتها وعامل وقتها، وأداتها للتخلص من ذلّ التبعية والقهر، فالإسلام هو الذي جمع بين أتباعه وجعلهم أمة واحدة من دون الناس، هي خير الأمم، أمة موحدة الأفكار والمشاعر، متينة البنيان وطيدة الأركان ثابتة الكيان، يشد بعضها بعضاً، وقد ألّف الله سبحانه وتعالى بين قلوب المسلمين بالإسلام، برباط وثيق من المودة في الله سبحانه وتعالى، فوجدت الألفة والمحبة والاخوة في الله بين كل الشعوب الإسلامية على اختلاف أعراقها، وكان مقياس التفاضل بينها التقوى وليس غير، قال تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)، وقال صلى الله عليه وسلم : «لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى».

والإسلام الذي جمع بين أبي بكر العربي وبلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي قادر الآن وفي كل وقت أن يجمع بأفكاره الصافية ومفاهيمه الصحيحة بين المسلم الأفريقي والمسلم الروسي والمسلم الصيني والمسلم الأميركي وأن يجعلهم من أمة الإسلام الواحدة.

نسأل الله الكريم أن يجعلنا جميعاً معشر المسلمين من المبرئين من الزيغ والضلال، وأن نتمسك بحبل الله المتين الذي ارتضاه لنا، إنه نعم المولى ونعم النصير.

الخرطوم ـ يوسف صديق 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *