العدد 14 -

السنة الثانية – العدد الثاني – ذو القعدة 1408هـ، الموافق تموز 1988م

سؤال وجواب

س: إذا أصدر فقيه ما فتوى، وكان ظاهر الفتوى يتصادم مع النصوص الشرعية، وكانت غالبية أهل العلم تعترض على الفتوى. فهل يحل للمقلِّد أن يأخذ بالفتوى، ضارباً عُرْضَ الحائط بالنصوص وبأقوال أهل العلم؟

ج: لقد سبق وأجبنا على مثل هذا السؤال في هذه المجلة (العدد الخامس) وفي هذا الباب. ونجيب مرة أخرى، ومن زاوية جديدة، لأن الموضوع هام.

لقد اتفق أكثر الأئمة، وعند جميع المذاهب الإسلامية من سنة وشيعة على أن التقليد يجوز في فروع الدين الاجتهادية الظنية، وأنه لا يجوز في أصول الدين، ولا يجوز في الأحكام الشرعية المعلومة من الدين بالضرورة.

أصول الدين هي العقائد التي بها يصبح المرء مسلماً، أو بدون بعضها يغدو كافراً. وهذه العقائد لا يجوز أن يتطرق إليها الشك، لأن الشك فيها كفر يُخرج من الإسلام. فهي لا بد أن تكون يقينية ولا يكفي فيها غلبة الظن. ولذلك فلا يجوز فيها التقليد لأن التقليد لا يوصل إلى اليقين، بل هو يوصل إلى غلبة الظن في أحسن الأحوال. ومن هنا جاءت القاعدة: (العقائد لا تؤخذ إلا عن يقين)، وجاء الحكم الشرعي: (لا يجوز التقليد في العقائد)، وجاء الحكم الشرعي: (لا يجوز التقليد في الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة).

ومن المسائل القطعية المعلومة من الدين بالضرورة أن المسلمين يتبعون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا يتبعون أحداً سواه، قال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ)، وقال: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)، وقال: (وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا). والرسول صلى الله عليه وآله وسلم آتانا الكتاب الكريم والسنة الشريفة. ونحن نأخذ الأمر والنهي والحلال والحرام منهما فقط، قال تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) وهذه المسألة هي من الأصول اليقينية، وليست من الفروع الظنية.

وإذا كان يجوز للمسلم أن يقلّد المجتهد في فروع الدين الاجتهادية الظنية، فهو ينوي في نفسه أن يتبع كتاب الله وسنة رسوله، ويعتبر المجتهد الذي يقلده مجرد دليل يدله على الكتاب والسنة. فمثلاً المسلم الذي يقلد الشافعي رضي الله عنه رأى فيه من العدالة والورع والتقوى ما يجعله مؤتمناً على الدين فلا يفتي بغير علم، ولا يحرف الكلم أن يتبع الهوى. وهكذا كل من يقلد مجتهداً فهو لا يتبع ذلك المجتهد لذاته بل لأنه يراه طريقاً يوصله إلى الكتاب والسنة. فإن وجد في حالة من الحالات أن هذا المجتهد قد أخطأ، أو انحرف في مسألة ما عن الكتاب والسنة فإنه سرعان ما يترك تقليد هذا المجتهد في هذه المسألة، لأن الله يقول: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ).

ونعود إلى نص السؤال: إذا أصدر فقيه ما فتوى، وكل ظاهر الفتوى يتصادم مع النصوص الشرعية، فهل يحل للمقلِّد أن يأخذ بالفتوى؟

والمثل المقصود في هذا السؤال هو الفتوى التي عمل بموجبها (حزب الله) أثناء قتاله مع (حركة أمل) في الضاحية الجنوبية من بيروت. وقد حاولنا الحصول على نص الفتوى فلم نتمكن، وحاولنا أن نعرف من هو الفقيه الذي أصدر الفتوى فلم نتمكن.

نعم إن ظاهر هذه الفتوى يتصادم مع النصوص الشرعية. لأن هذا القتال هو قتال فتنة، والنصوص كثيرة وواضحة (عند السنة وعند الشيعة) وهي تحرم اقتتال المسلمين، وتحرم الدفاع عن النفس بالسلاح، وتأمر المسلم المعتدى عليه أن يكون كابن آدم.

وقد أدانت غالبية العلماء هذه الفتوى بأنها ليست شرعية.

كيف يفعل المسلم في مثل هذا الموقف: مرجع تقليده يعطيه فتوى، غالبية العلماء تطعن في شرعية الفتوى، النصوص الشرعية أمامه تتصادم مع الفتوى؟

إذا تغلّب عند جانب التقوى فإنه يتوقف عن العمل بهذه الفتوى، وإذا تغلّب عليه جانب الهوى فإنه سيجمع ما يكفيه من المبررات للقفز فوق النصوص وتأويلها.

إن مثل هذه المواقف الحرجة هي المحَكّ الذي يميّز بين العصبية الحزبية وبين التمسك بأحكام الشرع. إن الغريزة تدفع الإنسان للانحياز إلى فرقته، فأفراد الأسرة ينحازون إلى بعضهم، وكذلك أفراد العشيرة وأفراد الحزب. ولذلك رأينا رواة الحديث كانوا يتوقفون عن أخذ الحديث إذا كان فيه مديح للفرقة التي منها الراوي. وكذلك رأينا الشريعة لا تقبل شهادة الأقارب لأقاربهم، لأنهم محل تهمة أن ينحازوا لأقاربهم بدافع الغريزة.

وإذا تمسك أفراد حزب ما بفتوى قائدهم (المخالفة للنصوص) فإن تمسكهم هو محل تهمة، وليست طاعة للشرع بل هي طاعة للقائد في مسألة توافق الهوى. ولا يقال بأن هذا القائد هو أعلم مني بالشرع وأنا أقلده وتقليدي له مبرئ لذمتي عند الله. لا يقال ذلك لأن هذا يقال في المسائل التي تتصادم صراحة مع النصوص فإن المسلم التقي لا يجرؤ أن يضرب بكلام القرآن وكلام الرسول عُرض الحائط ليأخذ بفتوى مرجع كائناً من كان هذا المرجع. الرجال تُعرف بالحق وليس يعرف الحق بالرجال، وخاصة في المسائل الجليّة.

وإذا صار المسلمون يتركون النصوص الصريحة ليعملوا بأقوال الرجال، فما الفرق عندئذ بينهم وبين اتباع البابا وما الفرق بينهم وبين الذين قال الله فيهم: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ)، قالوا: يا رسول الله إنهم لم يعبدوا أحبارهم ورهبانهم. قال: «لقد أحلوا لهم الحرام وحرّموا عليهم الحلال فاتبعوهم، فتلك عبادتهم».

وفي جوابنا السابق كنا ضربنا أمثلة عن التقليد الذي يبرئ الذمة عند الله. مثلاً، الشخص الذي يطلق امرأته ويرجعها ثم يطلقها ويرجعها ثم يطلقها الثالثة ويحاول إرجاعها. فلو أفتاه الفقيه برجوعها، فهل يحل له أن يأخذ بهذه الفتوى؟ كلا لأن حكم هذه المسألة واضح ومعلوم من الدين بالضرورة.

ولو أفتى الفقيه بزواج المسلمة من النصراني، فهل يحل أخذ هذه الفتوى؟

وكذلك لو أفتى الفقيه بإباحة الربا (وما أكثر الذين صاروا يفتون بذلك) فهل يحل للمقلد أكل الربا بهذه الفتوى؟

وإذا أفتى فقيه بإباحة الاقتتال بين المسلمين في غير الحالات المشروعة، فهل يحل تقليد هذه الفتوى؟

وإذا أفتى فقيه بالقعود عن العمل لإقامة الدولة الإسلامية التي تحكم بما أنزل الله، والرضا بنظام الكفر، فهل يحل أخذ هذه الفتوى؟

نسأل الله العافية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *