العدد 13 -

العـدد الثالث عشر – السـنـة الثانية – شوال 1408هـ – حزيران 1988م

إلى أي حد يستطيع الحاكم غير المسلم إيقاع العقوبة في غياب الدولة

س1: يوجد في منطقتنا من يتاجر بالمخدرات ومن يتعاطاها. ويوجد في منطقتنا أيضاً أشخاص (ليسوا حكاماً) يستطيعون أن يعاقبوا أهل المخدرات، فإلى أي حد يوجب عليهم الشرع، وإلى أي حد يسمح لهم إيقاع العقوبة؟

ج1: إن الإجابة عن هذا السؤال مبنية في الجانب الأكبر منها على الحديث المشهور عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله r يقول: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان». متفق عليه.

هذا الحديث لم يجعل المنكر منوطاً بالحاكم وحده، بل أحاطه بجميع المسلمين، فهو يقول: «من رأى منكم» وأعطى الجميع، حكاماً وأفراداً، صلاحية التغيير باليد (أي بالقوة) للقادر عليها.

ولننظر كيف فهم كبار العلماء هذا الحديث، فهو يتضمن قاعدة هامة، وهي قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهذا الموضوع يحصل فيه التداخل بين صلاحية الحاكم وبين ما أعطاه الشرع من صلاحية للأفراد.

هنا من قال في شرح هذا الحديث بأن الأمراء هم الذين يغيرون باليد، وبأن العلماء هم الذين يغيّرون باللسان، وبأن العامّة هم الذين يغيّرون بقلوبهم (أي يقتصرون على كره المنكر في قلوبهم). وهذا الشرح ليس دقيقاً وليس صحيحاً، فالتغيير باليد جائز للعلماء وللعامة وليس فقط للأمراء، شرط أن يكون هؤلاء على علم بأن هذا منكر، وأن يكون من المنكرات المتفق عليها أنها منكر. أما إن كان من الأمور المختلف عليها فلا يجوز تغييرها باليد لا من العلماء ولا من الأفراد ولا من العامة، إلا في حالة تبني الخليفة منعها.

قال النووي، رحمه الله، في شرح صحيح مسلم ج 2/ص23: (قال العلماء: ولا يختص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأصحاب الولايات، بل ذلك جائز لآحاد المسلمين، قال إمام الحرمين: والدليل عليه إجماع المسلمين، فإن غير الولاة في الصدر الأول والعصر الذي يليه كانوا يأمرون الولاة بالمعروف وينهونهم عن المنكر مع تقرير المسلمين إياهم…).

وقوله  صلى الله عليه وآله وسلم: «فليغيره» هو أمر للوجوب باتفاق الأئمة. وهو فرض كفاية إذا حققه بعض الناس سقط الحرج عن الباقين، وإذا تركه الجميع أثم كل من تمكن منه بلا عذر ولا خوف، وقد يتعيّن إذا كان في موضع لا يعلم به إلا هو، أو لا يتمكن من إزالته إلا هو. وقد نقل النووي: (قال العلماء رضي الله عنهم: ولا يسقط عن المكلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكونه لا يفيد في ظنه، بل يجب عليه فعله، فإن الذكرى تنفع المؤمنين).

ونقل النووي عن القاضي عياض: (هذا الحديث أصل في صفة التغيير، فحق المغيّر أن يغيّره بكل وجه أمكنه زواله به قولاً كان أو فعلاً، فيكسر آلات الباطل ويريق المسكر بنفسه أو يأمر من يفعله إذا أمكنه… فإن غلب على ظنه أن تغييره بيده يسبب منكراً أشد منه… كفَّ يده واقتصر على القول باللسان والوعظ والتخويف. فإن خاف أن يسبب قوله مثل ذلك، غيّر بقلبه، وكان في سعة… وإن وجد من يستعين به على ذلك استعان ما لم يؤدّ ذلك إلى إظهار سلاح وحرب) ونقل عن إمام الحرمين: (ويسوغ لآحاد الرعية أن يصدّ مرتكب الكبيرة إن لم يندفع عنها بقوله ما لم ينته الأمر إلى نصب قتال وشهر سلاح، فإن انتهى إلى ذلك ربط الأمر بالسلطان).

وقد بيّن الماوردي، رحمه الله، في كتاب الأحكام السلطانية، حدود سلطة الأفراد، وحدود سلطة المحتسب في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. والمحتسب هو قاضي الحسبة، أي صاحب الولاية من قبل الخليفة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال في أحكام الحسبة: (الحسبة هي أمر بالمعروف إذا ظهر تكره ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله… وهذا إن صح من كل مسلم فالفرق فيه بين المتطوع والمحتسب من تسعة أوجه:

أحدها: أن فرضه متعيّن على المحتسب بحكم الولاية، وفرضه على غيره داخل في فروض الكفاية.

والثاني: أن قيام المحتسب به من حقوق تصرفه الذي لا يجوز أن يتشاغل عنه، وقيام المتطوع به من نوافل عمله الذي يجوز أن يتشاغل عنه بغيره.

والثالث: أنه منصوب للاستعداء (أي الشكوى) إليه فيما يجب إنكاره، وليس المتطوع منصوباً للاستعداء.

والرابع: أن على المحتسب إجابة من استعداه وليس على المتطوع إجابته.

والخامس: أن عليه أن يبحث عن المنكرات الظاهرة ليصل إلى إنكارها، ويفحص عما ترك من المعروف الظاهر ليأمر بإقامته، وليس على غيره من المتطوعة بحث ولا فحص.

والسادس: أن له أن يتخذ على إنكاره أعواناً لأنه عمل هو له منصوب وإليه مندوب ليكون له أقهر وعليه أقدر، وليس للمتطوع أن يندب لذلك أعواناً.

والسابع: أن له أن يعزر في المنكرات الظاهرة لا يتجاوز إلى الحدود، وليس للمتطوع أن يعزر على منكر.

والثامن: أن له أن يرتزق على حسبته من بيت المال، ولا يجوز للمتطوع أن يرتزق على إنكار منكر.

والتاسع: أن له اجتهاد رأيه فيما تعلق بالعرف دون الشرع، كالمقاعد في الأسواق وإخراج الأجنحة فيه، فيقر وينكر من ذلك ما أداه إليه اجتهاده، وليس هذا للمتطوع).

بعد هذا البحث نعود إلى السؤال لنستخلص الإجابة. السائل ليس حاكماً، وليس صاحب ولاية، بل هو من أفراد المسلمين الذين لهم قدرة على التغيير باليد (أي بالقوة). ومن كان كذلك فإن الشرع أعطاه صلاحية وأوجب عليه تغيير المنكر بيده، سواء كان في ظل دولة إسلامية أو في ظل دولة كفر. وسواء كان هذا المنكر من المخدرات أو المسكرات، أو الربا أو الزنا أو السرقة الغش أو ترك الفروض… الخ.

ولا يجوز للأفراد الذين يغيّرون المنكر أن يوقعوا أية عقوبة على مرتكب المنكر، فلا يقيمون عليه حدّاً ولا عقوبة تعزيرية، فلا يضربونه ولا يسجنونه ولا يأخذون منه غرامات مالية. بل لهم فقد أن يكسروا آلات الباطل ويتلفوا المخدرات والمسكرات…الخ.

[انظر ما قاله الماوردي في البند السابع، وما قاله القاضي عياض].

وإذا رأى هؤلاء الأفراد أن محاولتهم تغيير المنكر ستجر إلى منكر أشد فعليهم أن يتوقفوا. وإذا رأى هؤلاء الأفراد أن تغييرهم للمنكر سيؤدي إلى نصب قتال وشهر سلاح فعليهم أيضاً أن يتوقفوا لأن هذا يتجاوز حدود صلاحية الأفراد، وهو من صلاحيات السلطان.

[انظر ما قاله القاضي عياض وإمام الحرمين].

س2: جاء في نشرة بعنوان (قتال الفتنة) أن المعتدى عليه لا يحل له أن يدافع عن نفسه بالسلاح، وإن فعل فقد أصبح ظالماً كالمعتدي. والمشهور بين المسلمين أن المتعدى عليه يحل له أن يدافع عن نفسه وماله وعرضه، ولو بالسلاح؟

ج2: في الأبحاث الفقهية هناك حالات مختلفة، وكل حالة لها حكمها.

القاعدة الأولى والأهم في الموضوع هي أنه لا يحل لمسلم أن يقتل مسلماً متعمداً لقوله تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) ولقوله تعالى:(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَأً). وهذه القاعدة هي على عمومها وإطلاقها إلا من حيث يوجد نص يخصص أو يقيد.

والحالات التي ورد فيها استثناء (تخصيص) محدودة ومعدودة وهي:

1- النفس بالنفس، وهذا يتم بعد إجراء المحاكمة وصدور الحكم القضائي للتنفيذ.

2- المسلم الذي يرتد عن الاسلام ويصر على الارتداد. وهذا يتم قتله أيضاً بعد صدور الحكم عليه للتنفيذ، أو بأن يسيّر الخليفة جيشاً إليهم إذا كان جماعة قوية، كما فعل أبو بكر في حروب الردة.

3- إذا كان المسلم يقوم باعتداء على الأموال أو الأعراض أو النفوس للسرقة أو الغصب، (وهي غير حالة الفتنة). وهنا يجوز قتاله بالسلاح وقتله إذا لم يرتدع بأقل من ذلك.

4- إذا كان المسلم يقاتل في صفوف الكفار ضد المسلمين، سواء كان في صفوفهم مختاراً أو مكرهاً.

5- إذا خرج المسلم عن طاعة الخليفة باغياً. وهنا يحل قتال البغاة قتال تأديب لإخضاعهم ولو أدى ذلك إلى قتلهم.

6- إذا قام رجل وغصب سلطة الحكم من الأمة بالقوة جاز للأمة أن تقاتله وتقاتل أعوانه كما حصل في قتال عبد الله بن الزبير ليزيد بن معاوية، وقتال الحسين رضي الله عند ليزيد بن معاوية، حين فرض يزيد نفسه فرضاً على الخلافة دون رضى المسلمين.

7- إذا أظهر حاكم المسلمين الكفر البواح في دار الإسلام جاز للمسلمين أن يقاتلوه ويقاتلوا أعوانه لمنع ظهور الكفر، أو لعزله ولو أدى ذلك لقتله وقتل وأعوانه.

وهذه الحالات السبعة كلها وردت فيها نصوص خصتها من القاعدة الأصلية العامة، وهي ]وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ[.

وأما حالة الفتنة فالغالب أن يكون فيها طرف باغٍ، وطرف مبغي عليه، وطرف غير داخل في الصراع، وهم بقية المسلمين. ولا شك أن الإثم يقع على الطرف الباغي. وأما الطرف المبغي عليه فقد طلب منه الشرع أن لا يقابل السلاح بالسلاح، لأنه إن فعل صار في حكم الطرف الباغي، قال عليه وآله الصلاة والسلام: «إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار. قيل يا رسول الله: هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: كان حريصاً على قتل أخيه» وقال صلى الله عليه وسلم: «في الفتنة كسروا فيها قسيكم، وقطعوا أوتاركم، واضربوا بسيوفكم الحجارة، فإن دخل على أحدكم بيته فليكن كخير ابني آدم». وقال

صلى الله عليه وسلم

: «ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي. قال أرأيت إن دخل عليّ بيتي فبسط يده إليّ ليقتلني؟ قال: كن كابن آدم». وعن أبي ذر قال: قال r: «يا أبا ذر قلت: لبيك وسعديك، قال: كيف أنت إذا رأيت أحجار الزيت قد غرقت بالدم. قلت: ما خار الله لي ورسوله، قال: عليك بمن أنت منه. قلت: يا رسول الله، أفلا آخذ سيفي فأضعه على عاتقي؟ قال: شاركت القوم إذن. قلت: فما تأمرني؟ قال: تلزم بيتك. قلت: فإن دخل عليّ بيتي؟ قال: فإن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فألْقِ ثوبك على وجهك يبؤ بإثمك وإثمه».

هذه الأحاديث قطعية الدلالة أنه لا يجوز للمسلم، في حال الفتنة، أن يشهر سلاحاً في وجه أخيه المسلم، ولو كان أخوه معتدياً وظالماً، وكان هو معتدىً عليه ومظلوماً.

وهذا ليس فيه منقصة ولا عيب ولا ضعف ولا تخاذل، بل هو قمة التقوى والرفعة، قال تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) وقال: (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) المؤمن يفتخر أن يكون ذليلاً للمؤمنين وأن يدفع سيئتهم بالحسنة.

بالأمس (سنة 82) دخل اليهود بيروت ودخلوا مكاتب الميليشيات وأخذوا أسلحتها وقوبلوا بالاستسلام، ودخلوا صبرا وشاتيلا وذبحوا الناس بكل بساطة. لقد كنا حينئذٍ أذلة أمام الكافرين، ونحاول الآن أن نكون أعزة على المسلمين. فرحمتك اللهم بنا وخذ بأيدينا لما فيه رضاك.

أما الطرف الثالث، أي بقية المسلمين الذين لم يدخلوا في قتال الفتنة فإن عليهم أن يحجزوا بين المتقاتلين، وعليهم أن يصلحوا بينهم. فإذا بغت طائفة وأرادت الاستمرار في القتال، فعلى المسلمين أن يلقوا بثقلهم في وجه الفئة الباغية، ليس بقصد القتل ولكن بقصد إيقاف القتل والقتال.

وهنا فإن الذي لا يستطيع أن يعرف أين الحق فلا يجوز أن يقاتل مع طرف ضد طرف ولا يجوز له إلا الإصلاح إن استطاع، فإن لم يستطع عليه أن يعتزل.

وإن عرف الفئة الباغية عليه أن يقف في وجهها بسلاحه إن استطاع، وبلسانه، وبكل ما لديه.

والواقع الآن في حرب الضاحية الجنوبية من بيروت أنه قتال بين فئتين باغيتين، وكذلك القتال في المخيمات هو بين فئتين باغيتين. ونسأل الله العافية.

قاعدة شرعية

الحسنُ ما حسّنه الشرع

والقبيح ما قبّحه الشرع.

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *