العدد 13 -

العـدد الثالث عشر – السـنـة الثانية – شوال 1408هـ – حزيران 1988م

إثبات وجود الله

إعداد: مروان الهشلمون

«إن كل من كان له عقل، يدرك من مجرد وجود الأشياء التي يقع عليها حسّه، أنّ لها خالقاً خلقها، لأن المشاهد فيها جميعها أنها ناقصة، وعاجزة ومحتاجة لغيرها، فهي مخلوقة لخالق».

إن الأشياء التي يدركها العقل ويقع عليها الحس هي الكون والإنسان والحياة، وهذه الثلاثة محتاجة ومحدودة وبالتالي مخلوقة لخالق خلقها من العدم والدليل على ذلك:

أولا- الكون:

أن الكون هو مجموعة من الأجرام الكواكب، وكل جرم أو كوكب منها يسير بنظام مخصوص معين لا يمكن أن يغيره بتاتاً، وهذا النظام لا يمكن أن يكون غير واحد من هذه الثلاثة:

1- إما أن يكون جزءاً منه.

2- وإما أن يكون خاصة من خواصه.

3- وإما أن يكون شيئاً آخر مفروضاً عليه فرضاً.

أما كونه جزءاً منه فباطل لأن سير الكواكب يكون في مدار معين لا يتعداه، والمدار كالطريق هو غير السائر، والنظام الذي يسير به ليس مجرد سيره فقط، بل تقيده بالسير في المدار ولذلك لا يمكن أن يكون هذا النظام جزءاً منه ولو كان كذلك أي لو كان النظام جزءاً من الكواكب لظهرت آثار الجزئية تلك على المدار، كظهور خطوط الطباشير على اللوح بعيداً عن الطبشورة ذاتها، وأيضاً فإن السير نفسه ليس جزءاً من ماهية الكوكب بل هو عمل له، وبذلك فلا يكون النظام جزءاً من الكوكب.

وأما كونه خاصة من خواصه فباطل لأن السير من حيث هو سير خاصية للسائر، أما المقيد بوضع محدد ليس بخاصية، وعليه فالنظام ليس هو سير الكواكب فحسب، بل هو سيره في مدار معين، فالموضوع إذن ليس السير وحده بل السير في وضع معين. ولو كان السير خاصة من خواصه لاستطاع أن يغيره كيفما يشاء كما يستطيع الإنسان تغيير سيره كيف يشاء، وبما أن الكوكب لا يستطيع تغيير المدار الذي يسير عليه لذلك فإن هذا الوضع مفروض عليه فرضاً وليس النظام إذن خاصة من خواصه، إذ لو كان النظام من خواصه لنظم خطوط سير أخرى.

وما دام النظام ليس جزءاً من الكوكب ولا خاصة من خواصه فهو غيره قطعاً، فيكون الكون قد احتاج إلى غيره أي احتاج الكوكب إلى نظام وبالتالي احتاج الكون كله إلى النظام الذي يسيره.

ويسير بحسبه، فهو إذن محتاج قطعاً.

وأيضاً فالكون محدود لأنه مجموعة كواكب وكل كوكب منها محدود ومجموع المحدوديات محدودة بداهة، فإضافة محدود إلى محدود ينتج محدوداً حتماً، وعليه فالكون محدود.

ثانياً- الإنسان:

إن المشاهد المحسوس يدل قطعاً على أن الإنسان محتاج لطعامه وشرابه وما شابه ذلك، فهو قد عجز عن إيجاد ما يحتاج إليه، وعجزه ذلك يدل على أنه لا يستطيع إيجاد الأشياء من عدم، وبالتالي فهو محتاج لمن يوجد له ما احتاج إليه، وعليه فالإنسان محتاج.

وكذلك بالنسبة للمحدودية، فالإنسان محدود لأن كل شيء فيه ينمو على حد ما لا يتجاوزه، فهو ينمو إلى طول معيّن وحجم معين ويرى إلى مسافة معينة، فكل شيء في الإنسان محدود حتى حياته فله يوم ميلاد يبتدئ وجوده منه وله يوم وفاة ينتهي أجله فيه، وهذا ينطبق على كل إنسان لأن ما ينطبق على الفرد ينطبق على الجنس كله، إذ أن صفة الجنس كلها تتمثل في الفرد تمثلاً كاملاً، وعليه فالإنسان محدود.

ثالثاً- الحياة:

المقصود بالحياة هو ما يدرك في التفريق بين الكائن الحي والميت، فالكائن الحي فيه حياة والميت لا حياة فيه، هذه الحياة التي أدركنا وجودها في الأحياء من خلال إدراكنا لمسارها مثل النمو والحركة والتنفس، هذه الحياة محتاجة ومحدودة.

أما كونها محتاجة فواضح احتياجها للماء والهواء أو الغذاء في الكائنات الحية، والحياة تنتهي بدون الماء أو الهواء أو الغذاء. وهي لا تستطيع إيجاد ما تحتاج إليه من عدم فهي محتاجة.

وأما كونها محدودة، فلأنها تنتهي في الكائن، إذ لها نقطة ابتداء ونقطة انتهاء، فكل الأحياء تموت وبالتالي فالحياة تنتهي وذلك يثبت أنها محدودة، والحياة مظهرها فردي، فإذا انتهت في فرد فإنها تنتهي حتماً في الجنس ككل لأن الماهية ممثلة في الفرد الواحد كلياً وهي تدل دلالة قطعية على الجنس وبالتالي فجنس الحياة محدود والحياة محدودة.

وبهذا نستطيع أن نقول: أن الكون والإنسان والحياة محدودة وفي حالة احتياج دائم، أو بمعنى آخر نستطيع القول أن الكون والإنسان والحياة ثبت عليها وصف الاحتياج والمحدودية.

ومدلول كلمة محتاج تعني مخلوق، إذ أن احتياجها إلى غيرها في النظام التي تسير عليه يدل على احتياجها إلى الغير في وجودها من باب أولى، وبمعنى آخر فهي إذا كانت محتاجة في سلوكها وتصرفاتها إلى غيرها، فهي في وجودها ابتداء من العدم تكون محتاجة، أي تكون محتاجة إلى من أوجدها بعدما كانت عدم أو بعدما لم تكن.

ولا يقال هنا أن الأشياء المدركة المحسوسة احتاجت لبعضها ولكنها في مجموعها مستغنية عن غيرها، لا يقال ذلك لأن الحاجة إنما تبين وتوضح للشيء الواحد وتدرك عقلاً ولا تفرض فرضاً، وعقولنا لا تبحث في الواقع المحسوس، والبحث في الفرضيات هو وهم أو تخريف لأنه بحث في شيء غير موجود أو هو بحث في شيء تخيل له وجود، وليس بحثاً في شيء موجود فلا يقال مثلاً أن النار احتاجت لجسم فيه قابلية الاحتراق ولو اجتمعا معاً لاستغنيا ولم يحتاجا إلى غيرهما لا يقال ذلك لأن هذا فرض نظري فالحاجة للنار وللجسم القابل للاحتراق هي حاجة لشيء موجود ومحسوس، والنار والجسم لا يوجد من اجتماعهما شيء يحصل منه الحاجة أو الاستغناء فالحاجة والاستغناء متمثلة في الجسم الواحد، ولا يوجد شيء يتكون من مجموع ما في الكون حتى يوصف بأنه مستغن أو محتاج. وإذا قيل أن مجموع الأشياء في الكون مستغن أو محتاج، فإنه وصفاً لشيء متخيل الوجود لا لشيء موجود. والبرهان يجب أن يقوم على حاجة شيء معين موجود ومحسوس في الكون، لا مجموعة أشياء يتخيل لها اجتماع يتكون فيه شيء واحد ويعطي له وصف الحاجة أو الاستغناء. فالمحتاج إذن هو مخلوق لأنه احتاج في نظامه وفي وجوده ابتداء من العدم إلى غيره، هذا الغير يجب حتماً أن لا يكون محتاجاً لأنه ل كان كذلك لكان مخلوقاً وبهذا يكون هذا الغير هو الخالق لهذه المخلوقات من عدم غير محتاج أي مستغن.

هذا بالنسبة للاحتياج. أما المحدودية فحين النظر إلى المحدود نجده حادثاً أي ليس أزلي لأن الأزلي هو ما أول له ولا آخر، إذ وجود آخر يقتضي وجود أول، لأنه محدد البدء لا يكون إلا من نقطة يعني أن النهاية لا بد منها ما دام قد حصل البدء من نقطة سواء أكان ذلك في المكان أو الزمان أو الأشياء.

والأزلي هو الذي يستند إليه الأشياء المحدودة ولا يستند هو إلى شيء، ولهذا فيجب أن تكون هذه المحدودات وهي الكون والإنسان والحياة تستند إلى الأزلي غير المحدود لأنه لو كان محدوداً لما كان أزلياً وبالتالي لكان يستند إلى غيره في وجوده.

وبما أن هذا الغير مستغن ـ غير محتاج ـ وأزلي ـ لا أول ولا آخر ـ وتستند إليه الأشياء ولا يستند هو إلى شيء. فيجب أن يكون واحداً أحد لأنه لو كان أكثر واحد لكان محدوداً ومحتاجاً وبالتالي لكان مخلوقاً.

والوجود كله لا يخرج عن خالق ومخلوق فما كان خالقاً فهو غير مخلوق، وما كان مخلوقاً فهو غير خالق، وعليه فإن الكون والإنسان والحياة هي مخلوقات خلقها الخالق من عدم وهذا الخالق الأزلي المستغن الواحد هو الله سبحانه وتعالى.

ولا يقال هنا من خلق الخالق؟ أو من أوجد الله؟ لا يقال ذلك لأن الخالق إما أن يكون مخلوقاً لنفسه أو مخلوقاً لغيره أو أزلياً واجب الوجود، أما كونه مخلوقاً لنفسه فباطل لأنه لا يمكن أن يكون خالقاً ومخلوقاً في نفس الوقت، وأما كونه مخلوقاً لغيره فهو يعني أنه ليس خالقاً وهذا باطل إذ أثبتنا له وصف الخلق أو الإيجاد من عدم، وبهذا فلا يبقى إلا أن هذا الخالق أزلي واجب الوجود.

إلا أن هناك أناساً من البشر يأبون البساطة ويعقدون الأمور فمنهم من يقول بقدم العالم وأنه أزلي لا أول له، ومنهم من يقول بقدم المادة وأنها أزلية لا أول لها ويستدلون على قولهم هذا بأن العالم غير محتاج إلى غيره بل هو مستغن بنفسه لأن الأشياء الموجود في العالم عبارة عن صور متعددة للمادة، فهي كلها مادة. فاحتياج بعضها للبعض الآخر ليس احتياجاً. لأن احتياج الشيء لنفسه لا يكون احتياجاً بل هو مستغن بنفسه عن غيره وعليه تكون المادة أزلية لا أول لها، لأنها مستغنية بنفسها عن غيرها أي أن العالم أزلي قديم مستغن بنفسه عن غيره.

والجواب على ذلك موجود في وجهين: أحدهما أن هذه الأشياء الموجودة في العالم ليست عندها القدرة على الخلق والإبداع من عدم، سواء أكانت مجتمعة أم متفرقة، فالشيء الواحد عاجز عن الخلق والإبداع من عدم، وإذا كمله غيره من ناحية أو من عدة نواح فإنه يبقى هو وغيره معاً عاجزين عن الخلق والإبداع من عدم وهذا ظاهر محسوس وهذا يعني أنه غير أزلي، لأن الأزلي الذي لا أول له يجب أن تنفى عنه صفة العجز ويجب أن يكون متصفاً بالقدرة على الخلق والإبداع من عدم، أي يجب أن تستند الأشياء الحادثة في وجودها إليه حتى يكون أزلياً. ولذلك يكون العالم غير أزلي وليس بقديم لأنه عاجز عن الخلق والإبداع فعدم وجود القدرة في الشيء على الخلق من عدم دليل يقيني على أنه ليس أزلي.

أما الوجه الثاني: فهو ما تقرر من احتياج الشيء إلى النظام أو إلى نسبة معينة لا يستطيع أن يتعداها حتى يتأتى له سد حاجة غيره وبيان ذلك:-

أن (أ) محتاج إلى (ب) و(ب) محتاج إلى (جـ) و(جـ) محتاج إلى (أ) وهكذا، فإن احتياجها لبعضها دليل على أن كل واحد منها ليس أزلياً، وكون بعضها يكمل بعضاً دليل على أن كل واحد منها ليس أزلياً، وكون بعضها يكمل بعضاً أو يسد حاجة البعض الآخر لا يتأتى بشكل مطلق، وإنما تحصل وفق نسبة معينة، أي وفق ترتيب معين، ولا يمكنه أن يقوم بالتكميل إلا حسب هذا الترتيب أو يعجز عن الخروج عنه، فيكون الشيء المكمل لم يكمل وحده أي لم يسد الحاجة وحد بل سدها بترتيب فرض عليه من غيره، وأجبر على الخضوع له، فيكون الشيء المكمل والشيء الذي كمله قد احتاجا إلى من عين لهما الترتيب المعين حتى سدت الحاجة ولم يستطيعا أن يخالفاً هذا الترتيب، ولا يحصل سد الحاجة بغير هذا الترتيب، فيكون الذي فرض الترتيب عليها هو المحتاج إليه وبذلك تكون الأشياء في مجموعها ولو كمل بعضها بعضاً لا تزال محتاجة إلى غيرها، أي محتاجة إلى من أجبرها على الخضوع حسب الترتيب المعين. فمثلاً الماء حتى يتحول إلى جليد يحتاج إلى الحرارة فيقولون أن الماء مادة والحرارة مادة والجليد مادة، فالمادة حتى تحولت إلى صور أخرى من المادة  أي احتاجت إلى نفسها وليس لغيرها. ولكن الواقع هو غير هذا. فإن الماء حتى يتحول إلى جليد يحتاج إلى حرارة بدرجة معينة لا إلى الحرارة فقط. والحرارة شيء، وكونها لا تؤثر إلا بدرجة معينة أمر آخر، وهو غير الحرارة أي أن النسبة المفروضة على الحرارة حتى تؤثر، وعلى الماء حتى يتأثر، هذه النسبة ليست آتية من الماء، وإلا لاستطاع أن يتأثر كما يشاء، وليست آتية من الحرارة، وإلا لاستطاعت أن تؤثر كما تشاء أي ليست آتية من المادة نفسها وإلا لاستطاعت أن تؤثر وان تتأثر كما تشاء، بل لا بد أن تكون آتية من غير المادة. وعليه تكون المادة قد احتاجت إلى من يعين لها نسبة معينة حتى يحصل لها التأثر، أو يحصل فيها التأثر، وهذا الذي يعين لها هذه النسبة هو غيرها فتكون المادة محتاجة إلى غيرها. فهي إذن ليست أزلية لأن الأزلي القديم لا يحتاج إلى غيره فهو مستغن عن غيره، والأشياء كلها تستند إليه فعدم استغناء المادة عن غيرها دليل يقيني على أنها ليست أزلية فهي مخلوقة.

وإذن لا بد أن يكون الخالق موجداً الأشياء من عدم حتى يكون خالقاً وأن يكون متصفاً بالقدرة والإرادة، مستغنياً عن الأشياء أي لا يستند إلى شيء وتستند الأشياء في وجودها إليه.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *