العدد 315 -

السنة السابعة والعشرون ربيع الثاني 1434هـ – شباط 2013م

الفقه على مذهب أوباما :مصر المخطوفة، إلى أين؟

بسم الله الرحمن الرحيم

الفقه على مذهب أوباما :مصر المخطوفة، إلى أين؟

   محمود عبدالكريم حسن

تُعرفُ الأممُ بهويتِها، بها تتميزُ وتتمايز، فإذا تغيَّرت هويتُها تغيَّرت، وإذا اندثرت اندثرتْ. وهويةُ الأمة الإسلامية الإسلامُ، بعقيدتِه التي يؤمنُ بها أفرادُ الأمة وتقومُ على أساسِها دولتُهم، وبشريعتِه التي تنظمُ علاقاتِهم وتَحكمُ أعمالَهم وترعاها دولتُهم وتنفذُها.

وتتجسَّدُ هويةُ الأمةِ في فقهائها ومفكريها ومثقفيها وقضاتها. والأمةُ الإسلاميةُ إنما يجسِّد هويتَها فقهاؤها والعلماءُ الحقيقيون فيها، فهم مجتهدوها ومفكروها والعلماءُ بما شرع الله لها من أحكامٍ وأنظمةٍ، وبطريقةِ عيشها وغايتها في الحياة، وهم العلماء الذين قال فيهم صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الأنبياءَ لم يُورِّثوا درهماً ولا ديناراً وَرَّثوا العِلْمَ فَمَنْ أَخَذَه أخذَ بِحَظٍّ وافِرٍ». رواه أبو داود وغيره. وقال تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ).

وإنَّ من أهم الأخطارِ على الأمة أن تصبحَ الأفكارُ القطعية عندها والقضايا المحسومةُ موضعَ بحثٍ ونظر، أو محلَّ تخصيصٍ أو تقييد، فتصبحَ محكوماً عليها بأفكارٍ من خارجها بدل أن تكون حاكمةً على غيرها ومقياساً له، فتنفي كلَّ فكر دخيلٍ وتردُّ كلَّ بدعةٍ وتحريف. هذا خطرٌ تضيع معه هويةُ الأمة فتنصهرُ في غيرها، وهو من عوامل الاندثار أو الانفصال عن الأمة.

ومن أمثلة ذلك أن يصبح شيءٌ ما مقدماً على هذه الهوية، فيُقال مثلاً إن الحرية مقدمةٌ على تطبيق الشريعة، فتصبح هذه الحرية أصلاً حاكماً على النصوص الشرعية ودلالاتها، أو أن يقال بالمساواة بين الرجل والمرأة، ويُتَّخذُ هذا أصلاً، فَتُؤَوَّلُ به ولأجله المعاني الشرعية، وتُرَدُّ نصوصٌ بحجة أنها أخبارُ آحادٍ لا تفيد القطع. ولقد جدَّفَ غيرُ واحدٍ من المحسوبين في صف العملِ الإسلامي فجادلوا في قطعياتٍ تشكيكاً بها، كيف لا وقد جَعَلوا للشريعة مقياساً من غيرها حاكماً عليها.

وليس معنى هذه الحرية في الحقيقة إلا حرياتِ الحضارة الغربية المتناقضة مع الإسلام، تُقَدَّم للناس مُجَمَّلةً بتعبير الحرية لتسهيل الخدعة، ويؤدي هذا القول إلى لازمِهِ الحتمي لتصبح أفكارُ الإسلام وأحكامُه مشروطةً بأفكار من خارجه، فيصبح حكم الردة – مثلاً – موضع بحث، بل يلزم ردُّه لأنه يتعارض مع الحريات، ويصبح حكم الكافر للمسلمين حقاً مشروعاً، وتصبح الدعوة إلى الكفر حقاً للأفراد والأحزاب، ويصبح الربا كما السياحة الخليعة ضرورةً لتحقيق النمو ولحماية الاقتصاد من الانهيار، ويصبح الفن الساقط والسفه الإعلامي والتعدي على المقدسات الإسلامية إبداعاً يجب احترامه وتشجيعه. بل يصبح حكم الشعب وتشريع الشعب مقدَّما على حاكمية الله تعالى أو شرطاً لها، فيُسوَّغُ الاستفتاءُ على أحكام الله سبحانه، ويبرَّر ذلك بتفاهة أن الشعبَ مسلمٌ فسيختار الشرع بطبيعة الحال، ويُخادعُ المسلمون ليقبلوا بالديمقراطية تارةً بالتلبيس المفضوحِ بأنَّ المرادَ بها آلياتُها وليس سيادة الشعب، وتارةً بأنها الشورى، وتاراتٍ بما تتفتَّقُ عنه عبقرياتُ أهلِ المصالحِ والأهواء.

وليستْ تلك المساواةُ بين الرجل والمرأة إلا من بهيمية الفكر الغربي وضلاله وشذوذِه. أليسَ من أبلغِ الضلالِ وأشدِّ العَمى في البصر والبصيرة أن لا يجد المرء فرقاً بل فروقاً بين الرجل والمرأة فيقول بالتساوي! ثم تُنقضُ آيات المواريث وتُحرَّفُ كثيرٌ من الأحكامِ بمقتضى تلك المساواة.

هذه أمثلة وغيرها كثير، إذا مضت واحدةٌ منها يرتاضُ الناس فيسهلُ بعدها أن يمضي ما هو أكبر، تحت عناوين الحرية الشخصية وحرية الرأي، والفن والإبداع وحقوق المرأة وغيرها…

 نعم، هذا طريقُ ضياعِ الأمةِ واندثارِها، أو هو سبيلُ الانفصال عن الأمة. وأنَّى للأمة أو الجماعة أن تكون إسلاميةً إذا كان تطبيق الإسلام مشروطاً عندها برضا الناس، وكيف تخضعُ حاكميةُ الله تعالى لتصويت الناس مسلمين وغير مسلمين! إنه سبيلُ الردة والاندثار.

والأخطرُ مما سبق أن تُروِّجَ لهذا حركاتٌ تعدُّ إسلاميةً، وأن يجري بأيدي وألْسِنَةِ علماءٍ ينبغي أن يكونوا ورثةَ الأنبياء، فإذا بهم يُحَرِّفون أحكامَ الشرعِ ، متوسلين إلى ذلك بتخويفِ الناسِ من أخطار يكبِّرونها في أذهانهم، وبالاعتماد على جهلهم، وعلى تعابيرَ وألفاظٍ ذاتِ صلةٍ بالمباحثِ الشرعية يضعونها في غير مواضعها. فالحرياتُ العامةُ – مثلاً – المنبثقةُ عن العلمانية والتي هي من مقاصد التشريع الغربي تصبحُ عند هؤلاء مقاصدَ للشريعة الإسلامية. ومقولةُ أميرِ المؤمنين عمرَ رضي الله عنه: «متى استعبدتُم الناسَ وقدْ ولدتهم أمهاتُهم أحراراً» يجعلونها دليلاً على هذه الحريات التي هي كفر بحاكمية الله تعالى وانعدامُ أخلاقٍ وسعارُ جنسٍ وشذوذ، في حين كانت مقولته رضي الله عنه نقضاً صارخاً لتلك الحريات ولعبوديةِ الإنسانِ للإنسان ولاستعباد الأميرِ للرعية أو ظلمِهم بسلطته. أفليس هذا من تحريف الأحبار للدين؟

ليس هدفُ هذه المقالةِ تعدادَ هذه الرزايا أو تفنيدَها، وإنما المرادُ بها التحذيرُ من خطر عظيم، فعندما يكون هذا هو واقعَ علماء الأمة وهذا هو مستوى علمِهم وهذه هي حكمتَهم فالنتيجةُ الطبيعيةُ هي الضياعُ والاندثارُ. والجماعة التي تنقاد لهم مآلُها الانفصالُ عن جسم الأمة والتيهُ في سبلِ الضلال. قال تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ). وقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعاً يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِماً اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤوساً جُهَّالاً فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» متفقٌ عليه.

وإنه وإن كانت هذه الظاهرة ملحوظةً اليوم في بلاد المسلمين إلا أن تأثيرَها الأكبرَ وخطرَها الأعظمَ هو في مصر، وذلك أنها مفضوحةٌ ممجوجة بشكل جيد في عموم بلاد المسلمين إلا مصر حيث الأمرُ على العكس من ذلك، فهذه التَّحريفاتُ لها رأيٌ عامٌ في مصر حيث يُدافِعُ عنها عامَّةُ الناسِ ومنهمُ الداعون لتطبيق الشريعة، ونجد الفتاوى من مشاهير العلماء هناك ومن أعلى مستوياتِهم تبرِّرُ ما يتعارضُ مع قطعيات الإسلام كالديمقراطية بذريعة آلياتها، أو الحرية كما أسلفنا، أو تدعو إلى التصويت بـ «نعم» على دستور يعجُّ بكفر الديمقراطية ومنكرات الحريات بذرائع التدرُّجِ في تطبيقِ الشريعةِ أو أهونِ الشَّرَّين، بينما لا نجد في هذا الدستورِ أثراً لحصر الحاكمية بالله تعالى وحده، ولا التزاماً بالإسلام في طريقة التشريع وسن القوانين، ولا في أحكامِ نظامِ الحكمِ ولا العلاقاتِ السياسية، ولا في أحكامِ الاقتصادِ أو أسبابِ الملكيةِ أو التصرفِ بها وإنفاقِها أو تنميتِها، ولا في الأخلاقِ الإسلامية وما يترتبُ على انتهاكها، ولا في أحكامِ المرأةِ ولا الحدودِ والعقوباتِ الشرعية… وكذلك تبرِّرُ (هذه الفتاوى) أو تسكُتُ على السياساتِ والمواقفِ المنكرةِ تجاه أميركا و(إسرائيل) وتجاه ما يجري للمسلمين وعليهم في العالم وهي أوضح وأشهر من أن ندلِّلَ عليها.

وأؤكِّدُ إنَّ حِدَّةَ هذا الخطر على مصرَ وأهلِها هي أنه يحصلُ باسم الإسلام، ويُرَوِّجُ له علماء ومشايخ، ويدافعُ عنه عموم المتدينين في مصر بانقيادٍ أعمىً لهذه الجهالات، وأنه يجري في بلدٍ إسلاميٍّ اختار أهله ثلاثةَ أرباع ممثليهم باعتبارهم شخصياتٍ إسلاميةً ومن روَّاد: تطبيق الشريعة، والإسلامُ هو الحل، والحاكمية لله، والبراءة من الشرك والمشركين.

لقد خرجت جموعُ المصريين بالملايين وبشكل متصاعد وبوتيرةٍ سريعة، في صورةٍ من أندر صور التاريخ البشري، مثبتين أن مصر هي كنانة الرجال، في صورةٍ جعلت قلوبَ مسلمي العالم تهفو إليهم وتدعو الله أن يهيّئ لهذه الجموع الهائلة قيادةً واعيةً مخلصةً لله تعالى، تُقيمُ حكمَ الله ليس في مصرَ وحدها بل في العالم كله.

ولكنَّ التبريراتِ التي أشرنا إليها، والناتجةَ عن ضعفِ الإيمان واليأسِ من روح الله، وعن المسارعةِ في الكافرين لإرضائهم، وفتاوى الرؤوسِ الجهَّال الذين أشار إليهم الحديثُ الشريف؛ تلك التبريراتِ التي ليست إلا من تخويفاتِ الشياطين: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)، وهذه التبريرات هي من مثل: لا نستطيع، مصرُ جائعة، مصرُ مَغْزُوَّة بالفقر والبطالة، مصرُ عاجزة، فيها علمانيون، الكفرُ قويٌّ ويحاربُنا… ثم الخداعُ والتلبيسُ بمغالطاتٍ وتحريفات، كمغالطةِ التدرج حيث يبررون تطبيقَ الحرام بذريعة أنه تدرج في السير نحو تطبيق الشريعة، في حين كانت مقولته رضي الله عنه استنكاراً، ويحرِّفون معنى الصبر في القرآن الكريم الذي هو الصبرُ على البلاءِ والمصائبِ والأذى، ومن ذلك على مشاقِّ وتبعاتِ وتكاليفِ الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكر والثباتِ على دين الله تعالى، فيجعلونه بمعنى إعطاء وقتٍ أطولَ لفاعل المنكرِ وللحاكمِ بالكفر، ومساندتِه في منكره والدفاعِ عنه وعن منكراته في مواجهةِ الدعاة إلى الله المنكرين للحكم بغير ما أنزل الله، وما هذا من الصبر في شيء. ويلبِّسون بمقاصد الشريعة التي هي من شأن أهل الفقه الحقيقيين ذوي الباع فيه، ويجهلُها عامةُ الناس، فيقدِّمون لهم مقاصدَهم ورؤاهم وأهواءَهم على أنها مقاصدُ الشريعة. وإذا ما آن أوان ما يُحبُّ الناسُ سماعَه عن تطبيقُ الشريعة، تجاوزوا الأمرَ مسرعين إلى مبادئ الشريعة وكلياتِ الشريعة وقواعدِ الشريعة واستلهامِ الشريعة وما إلى ذلك من تلبيساتٍ واحتيالات. فلماذا مبادئُ الشريعة وكلياتُ والشريعة ومقاصدُ الشريعة وحكمةُ  الشريعة وليس الشريعة ذاتُها، لماذا؟!

 كل ذلك خطف الثورةَ في مصر وخدع أهل مصر، ورجع بهم إلى الأوضاع التي ثاروا عليها بل إلى ما هو أسوأ، إذ إن هذه الأوضاع تتكرَّس هذه المرة تحت عنوان انتصار الشريعة والإسلام المعتدل وتقف على رأسها عمائمُ ولِحىً.

هل حقاً اختُطفت الثورة المصرية؟

ليس هذا فحسب، لقد اختطفتِ الثورةُ المصريةُ واختطفتْ مصرُ معها. ووُضِعت مصر بعد الثورة كدولة وشعب – وليس فقط كدولة – في قطار العلمانية الأميركية في مقطورة اسمها الإسلام الوسطي أو المعتدل. والفضلُ الكبيرُ في ذلك يرجع إلى إخوانها وسلفييها وإلى كبارِ علماءِ أزهرِها وفضائياتها، ولا ننسى دور علمانييها العلنيين في ذلك، فهو سابقٌ وإن كانوا في هذا العصر أعجزَ من أن يقوموا بهذا الدورِ أو بعُشره.

لقد جاء أوباما إلى رئاسة أميركا وهو يحمل هدفَ سلفه بوش في الاستعمار وضرب الإسلام، ولكنْ باستراتيجيةٍ وأساليبَ مختلفةٍ عنه، تُبْطِنُ الخطرَ الأعظمَ على الإسلام وتظهرُ الودَّ والإنصاف. ولم يكن مصادفةً اختيارُ أوباما مصرَ وجامعةَ القاهرة لإلقاء خطابه الموجهِ إلى العالم الإسلامي في 4 حزيران 2009م، والذي ضمنه نظرتَه إلى الإسلام واستراتيجيتَه تجاهه. وكان واضحاً وحاسماً في تقرير نظرته في أن هناك نسختين للإسلام، الأولى هي التي ترفض الديمقراطية وتواجهها، وترفض الحريات العامة وحقوقَ المرأة وما توصَّلت إليه الحضارة الغربية الأميركية، وأعلن أن هذا النمطَ من الإسلام يجب على دول العالم وعلى مصر محاربتُه والقضاءُ عليه. أما النسخةُ الثانية من الإسلام عند أوباما فهي الإسلامُ الذي هو جزء من أميركا ومن حضارتها، بناءً على أن أميركا هي موئلُ الحضارات، فكلُّ جيدٍ وواعدٍ تقبلُه أميركا وتستوعبُه وتصهرُه في جملةِ ما لديها لتخرجه من بوتقتها جديداً وفي شكلٍ آخرَ هو الأرقى والأعلى في مسيرة التطور الإنساني، وهو الحضارة الأميركية. وأعلن أوباما حينها صراحةً أن هذا الإسلام لا يمكن أن تكون أميركا في حرب معه، وقال حرفياً: إنه جزءٌ من أميركا.

إذن، أعلن أوباما من القاهرة اجتهادَه ومذهبَه في الإسلام، وهو الإسلامُ الأميركي، العلماني، الديمقراطي، الذي مصدرُه أميركا وترضى عنه أميركا، ويتخِّذُ شِرعة الأمم المتحدة والمواثيقَ الدولية في سيادة الشعب وحقوق الإنسان والحريات العامة وحقوق المرأة والمساواة بين الجنسين وتطور الأخلاق، وفي محاربة الإسلام وعدِّه جموداً وتخلفاً، وتسميته تطرفاً وإرهاباً، ويسمح بالنيل من مقدسات الإسلام بناءً على أصل الحرية… وهذا الإسلام هو الذي يُقدَّم للمسلمين من خلال علمائه المذكورين –وأمثالٍ لهم في بلاد أخرى– باسم الإسلام المعتدل والإسلام الوسطي، أو المرونة والتجديد…، وما صَعُبَ تقديمُه وتمريرُه لوضوحه ووقاحة مظهره استعملوا فيه التضليلَ والتلبيسَ المذكورَيْن آنفاً، بذرائعَ أو رخصٍ لا محل لها شرعاً كالتدرج أو الضرورات، وبقواعد يجهلون أو يتجاهلون مواضعَ تطبيقِها أو شروطَها، كقواعد أهون الشرين أو جلب المصالح ودرء المفاسد.

 ولعلَّ مجادلاً يقول إنهم لا يقصدون هذا التحريفَ والانحرافَ، فأقول: تبقى الحقيقةُ جليةً في أن هذا هو واقعُ أقوالِهم ومضمونُها ومآلُها، والواقعُ المحسوسُ أثبتُ وأصدقُ من أوهامِ الظنون. وصدقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: « …قيل ما الرويبضةُ يا رسولَ الله؟ قال: الرجلُ التافهُ يتحدَّثُ في أمرِ العامَّة». أخرجه ابن ماجه والإمام أحمد والحاكم، وصحّحه الذهبي وغيره.

هذا هو مذهب أوباما أو إسلام أميركا التي توسلت إليها حركاتٌ ومشايخُ ليُثبِتوا لها أنهم أهلٌ للقيام به، وأنهم أوْلى بذلك من العلمانيين المنبوذين، وأقدرُ منهم على حفظ مصالحها،  لِتَقْبَلَهُم أدواتٍ لها ولِتُوصِلَهم إلى الحكم بدلاً من أولئك الذين انتهت صلاحيتُهم.

وهذا هو أحدُ أهم أسبابِ الصراعِ المحمومِ الذي شهدناه ونشهدُه بين العلمانيين ودعاةِ تطبيق الشريعة – ظاهريَّاً – على دستورٍ علمانيٍّ ينقض قطعيات الإسلام، ويزدحمُ بالكفر والمنكرات، ويستعد علماء ومشايخ وأتباعُهم للتضحية بأنفسهم للدفاع  عنه وكأنهم يدافعون عن دين الله ومقدساته! فإلى أين يا مصر؟ إلى أين؟

لا يحتمل المقامُ تفنيدَ منكرات هذا الدستور، ولكنني أذكر منه مادتين فقط. فالمادة 5 تنص على: «السيادة للشعب يمارسها ويحميها…». والمادة 6 تنص على: «يقوم النظام السياسي على مبادئ الديمقراطية والشورى…». فهل يقبلُ هذا مسلمٌ وهو ينقض قولَه تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ)، وغيرَها مما هو قطعيُّ  الثبوتِ والدلالة؟ وهل لأجلِ هذا الدستور وما في هذا الدستور يستبشرُ أحدُ كبار هؤلاء العلماء ويقول منتشياً: «وقالت الصناديقُ للدينِ نعم»! هل هذا هو الدين حقاً؟! هل هذا هو الإسلام؟! مرةً أخرى أقول محذراً: إلى أين يا مصر، يا علماءَ مصر، ويا أزهرَ مصر، ويا أهلَ مصر؟

وكذلك لا يسعنا أن نبين هنا كلَّ أخطارِ ما صدر عن الأزهرِ على هوية مصر، وهو ليس أقلَّ خطراً من هذا الدستور ومن هؤلاء العلماء وبخاصةٍ وهو يصدر عن هذا الصرح. فمما جاء في نص وثيقة الأزهر الصادرة في حزيران2011م: «دعم تأسيس الدولة الوطنية الدستورية الديمقراطية الحديثة، التي تعتمد على دستور ترتضيه الأمة…» وجاء فيها: «اعتماد النظام الديمقراطي…» وجاء فيها: «الالتزام بمنظومة الحريات الأساسية في الفكر والرأي، مع الاحترام الكامل لحقوق الإنسان والمرأة والطفل…» وجاء فيها: «تأكيد الالتزام بالمواثيق والقرارات الدولية، والتمسك بالمنجزات الحضارية في العلاقات الإنسانية، المتوافقة مع التقاليد السمحة للثقافة الإسلامية والعربية…». وإنَّ هذا لكافٍ لمن كان له قلبٌ أو ألقى السَّمعَ وهو شهيد.

إن المراوغة باديةٌ في هذه المحاولات، إذ كيف يجمع كلٌّ من هذا الدستورِ وهذه الوثيقةِ بين جعل التشريع للشعب والالتزامِ بالمواثيقِ والقرارات الدولية وحقوق الإنسان والمرأة والطفل…وبين أحكامِ الشريعة الإسلامية وهما متناقضان في القوانين والأحكامِ وفي مصادرها! كيف يوفِّقون بل يطابقون بين الإسلام والكفر! وما هي المنجزات الحضارية في العلاقات الإنسانية؟ إن أهم خصائصِ هذه النصوص أنها عموماتٌ زئبقيةٌ وأظهرَ ما فيها الغموضُ والتناقضُ، والغموضُ وسيلةُ المخادع وصفتُه، والتناقض حالُ الكاذبين ومآلهم. وهذا ليس من الإسلام، وإن سمِّيَ بذلك تضليلاً فهو إسلامٌ على مذهبِ أميركا وذوبانٌ في هويتها.

نعم، إن مصر اليوم مخطوفةُ في قطار أميركي، وهي إما أن تذهبَ أبعدَ من ذلك فتصبح كطائرةٍ أميركيةٍ بلا طيار، تضربُ بها أميركا الإسلامَ هنا وهناك باسم محاربة الإرهاب، وحينئذٍ ستكون تكاليفُ عودةِ مصرَ لتكون كنانةَ الأمة الإسلامية وكنانة الله في أرضه صعبة جداً وداميةً جداً، وإما أن يتذكَّرَ من له في الأمر قولٌ أو باع، ويتَبصَّرَ أولو التقوى والنظرِ ممن لهم تأثيرٌ وأتباع، فترجعَ مصرُ عاصمةً للإسلام وأمَّتِه في زمنٍ أقرب وبتكاليفَ أقل.

 وإنَّ الأملَ لمعقودٌ على ثُلَّةٍ من المؤمنين العاملين أن يفتحَ الله سبحانه وتعالى عليهم وينصرَهم ويجزيَهم خيرَ الجزاء، وعلى خيريَّةِ أهلِ مصر أن تتَّقدَ وتشتعلَ فتقلبَ الأمورَ رأساً على عقِب.قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ).q

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *