العدد 374 -

السنة الثانية والثلاثون، ربيع الأول 1439هـ، كانون الأول 2017

مع القرآن الكريم

مع القرآن الكريم

وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لَّا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)).

 

جاء في كتاب التيسير في أصول التفسير لمؤلفه عطاء بن خليل أبو الرشته أمير حزب التحرير حفظه الله في تفسيره لهذه الآيات ما يلي:

في سـيـاق بيـان الله سـبحـانه لعـدد من الأحكام، فإن الله يبـين في هذه الآيات ما يلي:

  1. ينهى الله سبحانه عن أن يقسم أحد يمينًا على عدم فعل خير ما، وأن يتخذ التمسك باليمين وعدم الحنث به حجة له في عدم فعل ذلك الخير ظناً منه وجوب البر بالقسم في هذه الحالة وإلا عصى الله.

وهكذا يبين الله – سبحانه وتعالى – أن حلف اليمين لا يصحّ أن يمنعه من البر والتقوى والإصلاح بين الناس، بل عليه أن يفعل الخير ويكفر عن يمينه كما جاء في الحديث: “من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها، فليكفر عن يمينه ويفعل الذي هو خير[1].

وروى الكلبي أنها نزلت في عبد الله بن رواحة حين حلف على ختنه بشير بن النعـمـان أن لا يدخل عليه أبدًا، ولا يكلمه، ولا يصلح بينه وبين امرأته بعد أن كان طلـقـهـا وأراد الرجـوع إليها والصـلح معها. وفي سبب النزول ما يدل على أنه لا ينبغي للمؤمن أن يمنعه يمينه عن فعل الخير الذي حلف أن لا يفعله.

وفي خاتمة الآية الكريمة يبين الله سبحانه أنه سميع لأيمانهم عليم بأحوالهم ومقاصدهم، لا يعزب عنه مثقال ذرة، وهو سبحانه يعلم سرهم وجهرهم ( اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ).

عُرْضَةً ) على وزن فُعلة مثل (غرفة) من عرض الشيء يعرض أو يعرُض من باب نصر وضرب بمعنى جعله معترضاً أي حاجزاً.

(وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ ) أي لا تجعلوا الله تعالى حاجزًا، لأجل حلفكم به، عن البر والتقوى والصلاح، بمعنى عدم جعل الحلف بالله مانعًا لأن تفعلوا البر والتقوى والإصلاح بين الناس الذي حلفتم ألا تفعلوه.

فاللام في الآية (لِّأَيْمَانِكُمْ) للتعليل، أي لأجل أيمانكم و( أَن تَبَرُّوا ) في تقدير (لأن تبروا).

  1. في الآية الثانية يبين الله فضله على هذه الأمة، فلقد تجاوز لنا عن اللغو في الأيمان أي التي تجري على اللسان دون قصد اليمين كما روي عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: “أنزلت هذه الآية (لَّا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ) من قول الرجل: لا والله، وبلى والله”[2] وقد روي عن أبي قلابة: لا والله، وبلى والله، لغة من لغات العرب لا يراد بها اليمين، وهي من صلة الكلام، ولقد عفا الله سبحانه عن مثل هذا اللغو في اليمين، ولم يؤاخذنا إلا بما كسبت قلوبنا، أي بما قصدته من أيمان؛ حيث يوافق فيها لفظ اليمين ما استقر في القلوب.

وهذه المؤاخذة منها ما تجبره الكفارة فيؤديها صاحبها ولا شيء عليه لا في الدنيا ولا في الآخرة، ومنها ما لا تنفع فيه كفارة ولا تجبره، بل عليه عقوبة تعزيرية شديدة من الدولة الإسلامية في الدنيا أو عقوبة عظيمة في الآخرة.

أما الأولى، فهي الأيمان المنعقدة والتي لا ينفذها صاحبها ويحنث فيها، وهي التي ينشؤها صاحبها ولا ينفذها كأن يقسم لأفعلن كذا ثم لا يفعل، ففيها الكفارة كما بينته سورة المائدة (وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الْأَيْمَانَ ۖ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ۖ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ۚ) المائدة/آية89 وتنـفـيذ الكفارة يعـفـيه من أي شيء بعدها لا من قبل الدولة الإسلامية في الدنيا ولا في الآخرة.

والثانية الأيمان الكاذبة المتعمدة فيقسم المرء على حدوث شيء وهو يدرك أنه كاذب، وهي المسماة باليمين الغموس التي تغمس صاحبها في نار جهنم، فتقتطع بها الحقوق وينشر بها الفساد.

وهذه الأيمان لا يجبرها كفارة، فلا كفارة فيها بل عقوبة تعزيرية شديدة في الدنيا من قبل الدولة الإسلامية يقدرها القاضي محققًا فيها الزجر لصاحبها ولمن يسمع بها لشدتها، فإن لم يصل خبره إلى الدولة الإسلامية فقد توعده الله بعذاب شديد شديد كما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر قال: “جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما الكبائر؟ فذكر الحديث، وفيه اليمين الغموس. وفيه قلت: وما اليمين الغموس؟ قال: الذي يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها كاذب[3].

وعن أبي هريرة قـال: “قـال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خمس ليس لهن كفارة: الشرك بالله، وقتل النفس بغير حق، وبهت مؤمن، والفرار يوم الزحف، ويمين يقتطع بها مالاً بغير حق[4] أي اليمين الغموس.

ولقد ختم الله الآية بأنه سبحانه لا يؤاخذنا باللغو، بل بما كسبت قلوبنا كما بيناه، فهو سبحانه ( غَفُورٌ) حيث لم يؤاخذنا باللغو (حَلِيمٌ )فلم يعجل العقوبة لمستحقيها. و(الحليم) من حَلُمَ يَحلُم حِلْماً إذا أمهل بتأخير العقاب.

[1] مسلم: 3113، ابن حبان: 10/196

[2] البخاري: 4247، 6170

[3] البخاري: 6409

[4] أحمد: 2/362

ص347

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *