العدد 374 -

السنة الثانية والثلاثون، ربيع الأول 1439هـ، كانون الأول 2017

أثر الإرادة السياسية على نهوض الدول، وطريقة الإسلام في اكتسابها (3)

أثر الإرادة السياسية على نهوض الدول، وطريقة الإسلام في اكتسابها (3)

 

  إن دقةَ العمل السياسي لاكتساب إرادة المسلمين السياسية توجب على العاملين لاستردادها، والمسلمين معهم، بعد أن تبين للقاصي والداني صدق طريقة حزب التحرير في العمل، توجب عليهم إنزال الفكر على الواقع، أي ممارسة العمل السياسي وخوض غماره تأسيًا واتباعًا للنبي – صلى الله عليه وسلم – في الطريقة التي أوجد بها دار الإسلام ودولة الإسلام، دون حيدٍ قيد شعرة عنها. ونحن لا نتحدث اليوم عن تأسيس حزب سياسي وإيجاد نقطة انطلاق ينطلق منها، فقد انطلق حزب التحرير وتوسع وانتشر،والحمد لله، حتى بات مشروعه يشغل الساحة السياسية الدولية.

  ومع ذلك، فالعقبات وإن قلَّت ما زالت موجودة، ووجودها يقضي بوجوب تعديها أو تذليلها. إن منهجية العمل السياسي الصحيح لتغيير واقع فاسد انطبق عليه وصف دار الكفر، يعني فيما يعني تحديد الفئات المتحكمة بالواقع، والمؤثرة فيه سلبًا أو إيجابًا، بما في ذلك تحديد القوى السياسية المناهضة والمحاربة للفكرة وحامليها، وتحديد الجهات التي تملك مفاتيح التغيير في المجتمع، وتعيين الوسائل والأساليب الناجعة لكسب المسلمين، وتحميلهم الفكرة من أجل تبنيها والوثوب بها إلى سدة الحكم.

  وبالاستقراء فإن أي مجتمع قائم اليوم لا يمكن أن يخرج تكوينه عن الفئات التالية:

الفئة الأولى: الطبقة السياسية الحاكمة (الأنظمة الحاكمة)

  وهي تشكل قمة هرم المجتمع، ولا يخفى على أحد أن الطبقة السياسية بيدها مقاليد الأمور، فهي التي ترعى شؤون الناس عدالةً أو جورًا، إخلاصًا أو إنقاصًا، سيادةً أو تبعيةً. كما أنه ثبت بما لا يدع مجالًا لمشكك، أن الأنظمة الحاكمة في بلاد المسلمين، أنظمة تابعة للدول الكبرى، تأتمر بأمرها، وتنتهي بنهيها، سلمٌ على أعداء المسلمين، حربٌ عليهم، بدلوا نعمة الله كفرًا وأحلوا أمتهم دار البوار. فهم لا يحكمون بما أنزل الله، ولا تحدثهم أنفسهم بذلك ولو حديث النفس للنفس؛ ولذلك فقد حقَّ عليها الوصف بأنها أنظمة كفر، وحقَّ عليها القول بوجوب خلعها والإطاحة بها، وإجراء حكم الله عليها على أعين الناس، فترتاح الأرض من نتنهم، وتشفى صدور المسلمين الذين ضاقوا بهم ذرعًا.

  إن كفاح هذه الأنظمة التابعة سياسيًا من طريقة الإسلام في التغيير، وليس الحديث اليوم كما أشرنا أعلاه، عن نصح هذه الأنظمة رجاء صلاحها ورجوعها عن غِيِّها، أو تبنيها للإسلام والحكم به، كلا، ليس هذا مدار البحث. وهل يُرتجى القوتُ من الجيفة؟ وهل يُجتنى الثمر من القتاد؟ ولكن الحديث اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، يدور حول مزيد من فضح لهذه الأنظمة، وهتك حجب خيانتها للأمة، وإشهار تواطئها مع أعداء المسلمين، وتحطيم ما بقي من علاقة بينهم وبين الأمة، هذا إن كان قد بقي شيء من رباط يصلهم بشعوبهم.

  إن كفاح الأنظمة سياسيًا يوجد الوعي لدى الأمة على حقيقتها، حتى تصير في عزلة من الشعوب، فتتحفز هذه الشعوب إلى الزمجرة الواعية عليها، ومن ثم الإطاحة بها. ومن الكفاح السياسي لها أن تُهتك حجب الخيانة عنها إن كان قد بقي منها ما هو من وراء حجاب.

الفئة الثانية: الوسط السياسي.

  لقد حرص الكافر المستعمر على إحاطة عملائه من حكام المسلمين بسياج من السياسيين والمفكرين والإعلاميين وعلماء السوء، وكذلك من الأحزاب السياسية الموالية والمعارضة على حد سواء، من حيث يدرون أو لا يدرون. ونظرًا لأهمية الوسط السياسي وتأثيره المركزي في الحياة السياسية، فقد تم تدجينه وإلزامه بثقافة سياسية علمانية منسجمة مع الوضع السياسي العام في البلاد، لا تخرج عن طوعه، ولا تغرد خارج سربه، فالقول ما يقوله الزعيم، والفكر ما يفكر به الرئيس، والصواب ما ينطق به الملك، والرأي ما يراه هؤلاء صالحًا للبلاد والعباد، وليس على المسلمين إلا أن يدفنوا رؤوسهم في الرمل، ويرضوا بهذا الذل ويطمئنوا به.

  لقد بات الوسط السياسي بوقًا للأنظمة ينعق باسمها، ويسبح بحمدها، فالإعلام عين النظام على الأحداث السياسية الجارية، يصوغها داخل غرفه السوداء كذبًا وتضليلًا للرأي العام، يُشغل الناس بملاهي أفلام هوليود ولياليها الحمراء، ويستنفر شباب المسلمين إلى ساحات كرة القدم بدل أن يستنفرهم إلى ساحات الجهاد في سبيل الله… والسياسيون بطانة الحاكم وخاصته التي انتفشت من قوت الناس وثروات البلاد… والمفكرون أصحاب الأقلام المضبوعة ببريق حضارة الغرب الزائف… وأما علماء السوء، فليسوا أقل فسقًا من أولئك، بل زادوا عنهم درجات عندما باعوا دينهم بدنيا حكامهم… وأما الأحزاب السياسية، فمنها الموالي المشارك في الحكم في دولة الحزب الواحد أو الحزبين أو الثلاثة، أو أكثر من ذلك أو أقل أو سَمِّ ما شئت، ومنها المعارض الخاضع للآلية الدستورية للنظام السياسي المنضوي تحت مظلته، يصرخ من بعيد رجاء تحقيق حصة في الحكم، كاملة أو منقوصة، إما بالمصالحة مع النظام، وإما بانقلابه عليه بمساعدة ومباركة الدول الكبرى…

  هذا هو واقع الوسط السياسي في بلاد المسلمين وللأسف، ومع عمق الفساد الذي بلغه، إلا أن مريدي التغيير ملزمون بتغييره وإعادة صياغته على غير الأساس الذي نشأ وترعرع عليه، وخطوات تغييره أو تحويله ناحية الاهتمام بقضايا المسلمين، وتبنِّيها يحتاج إلى عمل دؤوب يصلح ما أفسدته الأيادي الآثمة، ومن ذلك:

1 – الاتصال بالإعلاميين والتأثير عليهم لينحازوا إلى قضايا المسلمين؛ لأنهم جزء من الأمة، وهم كغيرهم مسؤولون أمام الله عن الكلمة التي يكتبونها أو يذيعونها عبر وسائلهم الإعلامية، عن أبي هُريرَةَ  رضي الله عنه قال: قالَ رَسولُ اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: “إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمةِ من سُخطِ اللَّهِ، لا يَرى بِها بَأْسًا، فَيَهوي بِها في نَارِ جَهَنَّمَ سَبعينَ خَرِيفًا” [سنن ابن ماجة] وكذلك دعوتهم إلى تناول الأحداث السياسية وتحليلها من زاوية العقيدة الإسلامية، والنظر إلى المشاكل السياسية والأزمات التي تعصف بالأمة نظرة شرعية تستند إلى شرع الله وإلى مصالح الأمة.

2 – دعوة السياسين بكل قوة وجرأة إلى ترك ما هم عليه من معاونة للحكام على باطلهم، وانحيازهم إلى قضايا الأمة، وقطع ارتباطهم بكل جهة أجنبية ذات تأثير استعماري على المسلمين. فإن أبوا، وجب التشهير بهم وفضح تواطئهم وكشفهم على أعين الناس. عن جابِرِ بنِ عبدِ اللَّهِ رضي الله عنه أَنَّ رَسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قالَ لِكَعبِ بنِ عُجرَةَ: “يا كَعبَ بْنَ عُجرةَ، أَعاذَنَا اللَّهُ مِن إِمَارَةِ السُّفَهاءِ، قَالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَما إِمَارةُ السُّفَهاءِ؟ قَال: أُمَراءُ يَكُونُونَ بَعدي، لا يَهتَدونَ بِهَدْيِي، وَلا يَستَنُّونَ بِسُنَّتي، فَمَن صَدَّقَهُم بِكِذْبِهِم وَأَعانَهُم عَلى ظُلمِهِم، فَأُولَئِكَ لَيسوا مِنِّي وَلَستُ مِنهُم، وَلا يَرِدوا عَلَيَّ حَوْضِي” [صحيح ابن حبان]

3 – إبراز قوة أفكار الإسلام وعظمتها أمام المفكرين المتأثرين بأفكار الكفر، وقيمه، ومدنيته، وطراز عيشه، وبيان زيف هذه الأفكار التي أضرَّت بهم وبالأمة معهم، حتى أصبحوا دعاةً للباطل على أبواب جهنم. عن حُذَيفَةَ بْنِ اليَمانِ رضي الله عنه قال: “كَانَ النَّاسُ يَسْأَلونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الخَيرِ، وَكُنتُ أَسأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخافَةَ أَن يُدرِكَني… فَقُلتُ: هَل بَعدَ ذَلِكَ الخَيرِ مِن شَرٍّ ؟ قالَ: نَعَم، دُعاةٌ عَلَى أَبْوابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُم إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيها، فَقُلتُ: يَا رَسولَ اللَّهِ، صِفْهُم لَنا؟ قَالَ: نَعَم، قَومٌ مِنْ جِلدَتِنا، وَيَتَكَلَّمونَ بِأَلسِنَتِنا، قُلتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ، فَما تَرى إِن أَدرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: تَلزَمُ جَماعَةَ المسلِمينَ وَإِمامَهُم، فَقُلتُ: فَإِنْ لَم تَكُن لَهُم جَماعَةٌ وَلا إِمامٌ؟ قَالَ: فَاعْتَزِل تِلكَ الفِرقَ كُلَّها، وَلَو أَن تَعَضَّ عَلى أَصلِ شَجَرَةٍ حَتى يُدرِكَكَ المَوتُ” [صحيح مسلم] .

4 – مخاطبة علماء الأمة النزيهين خطابًا حكيمًا يظهر فيه أدبُ حامل الدعوة وحكمته، ودعوتهم للعمل مباشرةً لإقامة الخلافة، ومناصرة العاملين وتأييدهم بما فتح الله عليهم من علم اختصهم الله به. وكذلك مخاطبة علماء السوء بالقول البليغ المؤثر، فإما أن يعتدلوا ويصلح حالهم، وإما أن يستمروا في غِيِّهم فيكونون هم والحكام سواءً، فيجري عليهم ما يجري على أسيادهم من فضح وتشهير. قال الله تبارك وتعالى: (أولَئِكَ الَّذينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما في قُلوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ في أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَليغًا) [النساء/63].

5 – توجيه الأحزاب السياسية بالكلمة القوية الحكيمة، والنصيحة الصادقة البليغة، نحو ممارسة العمل السياسي وفق منهجية الإسلام التي أباحت تعدد الأحزاب، وأوجبت عليها الدعوة إلى الإسلام وتطبيقه في معترك الحياة، واستفزاز وتحفيز المخلصين من أبنائها لمحاسبة قادتهم المعترفين بالطبقة السياسية الحاكمة، ومحاسبة الحكام أنفسهم على ما هم عليه من تبعية للكافر المستعمر، وتفريط ببلاد المسلمين ومقدساتهم وثرواتهم، وتبصيرهم إن كان على عيونهم غشاوة بالواقع الاستعماري للدول المهيمنة على بلاد المسلمين، وأن هذه الدول دول كافرة، عدوة للإسلام والمسلمين، وأن حكام المسلمين ظِلُّ هذه الدول، وركائزها التي اتخذوها ضرارًا وكفرًا وتفريقًا بين المؤمنين، وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله من قبل.

الفئة الثالثة: جماهير المسلمين.

  وهذه تعتبر من أهم مكونات المجتمعات قديمًا وحديثًا، ولا يجوز تهميشها أو التقليل من شأنها بذريعة انقيادها لكل من تولى أمرها، بل إن أثرها في عملية التغيير مركزي لا يتعداه إلا كل جاهل بالفكر السياسي، ولا يتحداه إلا كل مهووس متغطرس يغامر بالبلاد والعباد كما فعل (أدولف هتلر) ولا يتنكَّر له إلا كل مارق متآمر، كما يفعل حكام الضرار في بلاد المسلمين.

  ولا يوجد على وجه الأرض نظام سياسي مثل الإسلام أبرز لجماهير الناس أثرهم العظيم في بناء المجتمع وديمومة نهضته؛ فهم في نهاية الأمر مَن يُفرزون القادة والسياسيين والعلماء والمفكرين والعسكريين، وهل كان صلاح الدين الأيوبي – رحمه الله – إلا ابنَ أُمِّهِ التي أنجبته وأرضعته لِبان العزة، وابنَ أمتِه التي قفزت به من نطاق القومية الكردية الضيقة، حتى جعلت منه محرر الأقصى وكاسر الصليبيين؟ ومَن ذا الذي أنجب السادة والقادة والعلماء الذين تركوا في ذمة التاريخ بصمات عزة وفخار محفورة بماء الذهب عبر ثلاثة عشر قرنًا من الزمان؟ من هنا نجد أن الإسلام قد أَولى جماهير المسلمين وسوادهم أهمية عظيمة أنزلها المنزلة اللائقة بها، ومن ذلك:

1 – خاطب المسلمين جميعًا – أفرادًا وجماعات – وكلفهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم وأبرز الأعمال السياسية، قال تعالى: (وَالْمُؤْمِنونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، يَأْمُرونَ بِالْمَعْروفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقيمونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتونَ الزَّكاةَ وَيُطيعونَ اللَّهَ وَرَسولَهُ، أولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ.ء إِنَّ اللَّهَ عَزيزٌ حَكيمٌ) [ التوبة/71].

2 – اعتبر سكوت المسلمين عن المنكر وتهميشهم له هلاكًا للمجتمع بأسره، فعن النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: “مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا، وَنَجَوْا جَمِيعًا” [صحيح البخاري]

3 – كما أن النبي صلى الله عليه وسلم عَنِيَ بإيجاد قاعدة شعبية تحتضن الإسلام وتؤمن به؛ حيث كان يخاطب الناس جماهيريًا في أماكن تجمعاتهم في مكة المكرمة قبل الهجرة. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: “لَمَّا نَزَلَتْ: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) [الشعراء/214] وَرَهْطَكَ مِنْهُمُ المخْلَصِينَ، خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى صَعِدَ الصَّفَا فَهَتَفَ: “يَا صَبَاحَاهْ” فَقَالُوا: مَنْ هَذَا؟ فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ: “أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا تَخْرُجُ مِنْ سَفْحِ هَذَا الجَبَلِ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟” قَالُوا: مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا، قَالَ: “فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ” [صحيح البخاري].

4 – وكذلك في المدينة المنورة، وبعد بناء المجتمع الإسلامي، وقيام دولة الإسلام، كان عليه الصلاة والسلام، كلما عَرَضَ لهُ أمر ليس فيه تشريع، وكان مما جاز فيه إبداء الرأي، جمع المسلمين في المسجد يخبرهم بما عرض له ويستشيرهم فيه، ولا أجد هنا مثالًا أحسن استدلالًا من حادثة الإفك، تلك الفتنة التي أصابت بيت النبوة. حيث جمع الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين بعد أن تأخر نزول الوحي؛ ليستشيرهم في أمر تلك الفتنة. عَن عَائِشَةَ رضي الله عنها قالَت: “… فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مِنْ يَوْمِهِ فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَنِي عَنْهُ أَذَاهُ فِي أَهْلِي؟ وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا خَيْرًا، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا، وَمَا يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا مَعِي. قَالَتْ: فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ – أَخُو بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ – فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْذِرُكَ، فَإِنْ كَانَ مِنْ الْأَوْسِ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا مِنْ الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا أَمْرَكَ. قَالَتْ: فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْخَزْرَجِ –  وَكَانَتْ أُمُّ حَسَّانَ بِنْتَ عَمِّهِ مِنْ فَخِذِهِ، وَهُوَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَهُوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ – قَالَتْ: وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلًا صَالِحًا وَلَكِنْ احْتَمَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ، فَقَالَ لِسَعْدٍ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ، لَا تَقْتُلُهُ، وَلَا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ رَهْطِكَ مَا أَحْبَبْتَ أَنْ يُقْتَلَ. فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ – وَهُوَ ابْنُ عَمِّ سَعْدٍ – فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ: كَذَبْتَ، لَعَمْرُ اللَّهِ، لَنَقْتُلَنَّهُ، فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ. قَالَتْ: فَثَارَ الْحَيَّانِ – الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ – حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ، قَالَتْ: فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا وَسَكَتَ… “[صحيح البخاري].

   لذلك فإن على العاملين للتغيير، أن يدركوا هذه الحقيقة، حقيقة كون الشعوب محضن التغيير المنشود، لو أرادت هذه الشعوب لأرادت، ألم ترَ كيف أجبر أهل بيت المقدس – وبلا سلاح – كيان يهود على فتح أبواب المسجد الأقصى؟ ألم تر كيف أسقطت الشعوب طواغيتَ من العيار الثقيل في مصر وليبيا وتونس واليمن؟ ولولا بقيةٌ من حثالةٍ التفت على ثورات الأمة فأفسدتها، لما بقي من الملك الجبري زاعقٌ ولا ناعق، ولكن الثورة مستمرة، وتحتاج إلى تصويب وتوجيه، وتيار الأمة جارف، وهو حاسم في التغيير.

   وليس حال المسلمين اليوم كالأمس، إن وصول سواد الشعوب إلى مستوى اتخاذ قرار الحياة أو الموت، وكسر حاجز الخوف الذي لطالما ثبَّط عزيمتهم، وأقعدَ حِراكَهُم؛ لهُوَ أكبر دليل على أن التغيير المنشود يجب أن يدخل من بوابة جماهير المسلمين، دخولًا سِياديًا يستند إلى إرادتهم؛ لأن إرادة الدولة السياسية من إرادة شعوبها، وقوة الدولة أو ضعفها مظهر من مظاهر إرادة الشعوب، بقدر ما تكون فيه الأمة محتضنة للقيادة السياسية، مطيعة لها ومدافعة عنها؛ بقدر ما تكون الدولة بارزة سياسيًا بين دول العالم، والعكس صحيح.

  والحاصل اليوم، أن الهوة بين الشعوب الإسلامية وبين حكام المسلمين واسعة جدًا، بل وآخذة بالاتساع أكثر وأكثر، حتى صار الناس إلى فُسطاطين: فسطاط إيمان لا نفاق فيه، تَحَيَّزَ إليهِ سوادُ الناس في مجملهم. وفسطاط نفاق لا إيمان فيه، تترَّسَ خلفه حكامُ الأمة الخونة، ومعهم الحثالة التي ملأت الكروش من مِغرَفتِهِم، وجلدت الناس بِسياطِهم. إن هذا التمايز البائن بينونة كبرى لم يأتِ من فراغ، ولم يظهر على حين غِرة بلا مقدمات سابقة له ومؤثرة فيه… إن عقودًا من العيش السقيم تحت وطأة الملك الجبري، وما تخلل ذلك من قهر وعَوز وحرمان من أدنى حقوق الرعاية؛ حيث السيادة كلها للكافر المستعمر، والإرادة كلها لأميركا وأوروبا وروسيا ويهود… أما المسلمون، فأغرابٌ في دارهم، لا إرادة ولا سيادة لهم، يتوقون إلى الحكم بما أنزل الله فلا ينعمون ببركته، يتحسرون على نهب ثرواتهم الطائلة التي تُنهب على أعينهم، ويتفرجون كيف يُساقون إلى مصارعهم كما تُساق النعاج؛ فلا حامي لهم، ولا حاقن لدمائهم!… كل ذلك وغيره أوصل سواد المسلمين إلى حالة الانفصام عن حكامهم، ونبذهم وبغضهم والاستشاطة عليهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *