تلبيس الحق بالباطل: (لن يكون صلح الحديبية دليلًا شرعيًا على الاستسلام… إنه فتح مبين)
2017/11/17م
المقالات
14,603 زيارة
تلبيس الحق بالباطل:
(لن يكون صلح الحديبية دليلًا شرعيًا على الاستسلام… إنه فتح مبين)
دارين أم مصعب-سوريا الشام
يقولون: “ما أشبه الأمس باليوم”، ويتكنَّون بصلح الحديبية الذي هو فتح عظيم لرسولنا الكريم وصحابته الميامين. والمخلصون فقط الذين باعوا أنفسهم لله هم الذين وصلوا لهذا الصلح العظيم.
بداية هو صلح كان بين كيانين مختلفين أي دولتين، وما وصل الرسول الكريم إلى صلح الحديبية إلا بعد عناء وجهد جهيد في إقامة الدولة الإسلامية التي كان مركزها المدينة المنورة، أي بعدما أصبح له كيان مستقل له صبغة خاصة، لا يشبه كيانًا آخر، ولا يشبهه كيان آخر، ولا ينسجم منهج التفكير عنده مع غيره، منهج صافٍ نقيٍّ، لا يعكِّره دخنٌّ من مصلحة، ولا نزعة من هوى، ولا تحكُّمٌ من عقل، منهج منضبط بالشرع، تسير عليه الدولة الإسلامية الأولى التي أمر المسلمون بأن يكونوا على مثل ما كان عليه رعيلها الأول، منهج تنسجم فيه عقيدته القائمة على توحيد الله مع أصوله الشرعية التي تضبط عملية فهم النصوص الشرعية التي تترجم بشكل عملي وحقيقي تطبيق الحاكمية لله وحده.
فصلح الحديبية هو حدث مهم في حياة المسلمين، ويشكل منعطفًا بارزًا في مسيرتهم الدعوية، ولم يؤدِّ إلى موالاة الكفار مطلقًا، ولم يستند إلى قوانينهم، ولم يخالف شريعة الإسلام قيد أنملة، ولا تجاهل ولا تنازل عن فرض واحد من أصول الشريعة، وكل ما تم تغييره في الصحيفة هو بدل “بسم الله الرحمن الرحيم” وضع “باسمك اللهم”، وبدل “محمد رسول الله” وضع “محمد بن عبد الله”، وبدل حجِّهم في عامهم هذا، تأخر عامًا واحدًا فقط… إنه فتح جعل الله فيه نصرًا مؤزرًا للإسلام.
والملاحظ في صلح الحديبية أن المشركين وأهل الفجور، عندما جلسوا ليتفاوضوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم، كانوا إذا طلبوا أمرًا فيه تعظيم لحرمات الله تعالى، كان يعطيهم إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن الزهري قال: قال صلى الله عليه وسلم: “لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها“. أما ما يحدث الآن فواضح للعيان كيف أنهم في الغرب يخططون لهدم الإسلام واجتثاثه من جذوره، والطرف الآخر يصفق له ويتنازل عن أهدافه، وما كان يريد الوصول إليه، ومن ثم تراهم يُعْظمون الفرية على دينهم بقولهم: إن دليل تنازلهم هذا هو صلح الحديبية.
ومع أن بعض الصحابة الكرام لم يروا ما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الصلح إلا بعد فترة وجيزة من الزمان، ولكنهم أطاعوا رسولهم فيما أقدم عليه؛ لأنه كان وحيًا، ولو لم يطيعوه في ذلك لكانوا هلكوا؛ فقد أقبل عمر بن الخطاب على أبي بكر الصديق فقال يا أبا بكر أليس برسول الله؟ قال: بلى. قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى. قال: فعلامَ نعطي الدنية في ديننا؟ قال أبو بكر: يا عمر اِلزم غرزه، فإني أشهد أنه رسول الله. قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله. ثم أتى رسول الله فقال: يا رسول الله، ألست برسول الله؟ قال:”بلى”. قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: “بلى”. قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: “بلى”. قال: فعلامَ نعطي الدنية في ديننا؟ قال: “أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني“؛ مبينًا لهم أنه وحي، وأن عليهم إطاعته، وإلا هلكوا.
وما نراه ونسمعه اليوم من سوء استخدام لهذا المصطلح الشرعي (صلح الحديبية) إن هو إلا مغالطات شرعية، وليٌّ للنصوص الشرعية، وسوق لها لتشهد لمن يستخدمونه بما يريدون لا بما يريده الشرع، وتلبيس على هذه الأمة. فوالله لا يوجد شبه واحد فيما يستخدمونه مطلقًا، بل على العكس من ذلك، فيه ألف اختلاف واختلاف، كما يقال.
فإذا أمعنا النظر فيه، نجد أن أهم شرط ليكون مجالًا للمقارنة هو: “وجود دولة إسلامية” فمع عدم وجود دولة تمثل الإسلام لا يمكن أن نقارن صلح الحديبية بأي صلح كان، ولا حتى بالمقارنة البعيدة، فجماعة من المسلمين، أو أفراد منهم، أو علماء منهم، لا يمثل أحد منهم الدولة الإسلامية. ولا يحل محلها. صلى الله عليه وسلم: ” فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: “كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَهِيَ مَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ“. فالدولة الإسلامية قد أناط بها الشرع أحكامًا شرعية، ومنها إجراء الصلح، ومنه صلح الحديبية، فلا يحل أن يحل محلها لا أفراد المسلمين، ولا علماؤهم، ولا جماعاتهم من حيث الأصل، فكيف إذا كان أمثال هؤلاء تابعون في فتاواهم لدول تحكم بأنظمة الكفر، وتابعون في سياستهم لدول الكفر، تلك الدول التي تتربص بالإسلام شرًا، وبأهله قتلًا وتشريدًا…
ولعل السمة الأبرز في صلح الحديبية أنه كان وحيًا من الله، وهذا يدل على أنه فوق أهواء التساهل ورغبات التشدد. والرسول قد وصل به إلى الفتح المبين، كما ذكر رب العالمين. وحتى الصحابة الذين لم يفهموا ابتداء أنه وحي من الله، عادوا والتزموا غرزهم بعدما فهموا ذلك. أما في هذه الأيام العجاف فإننا نرى أن صلح الحديبية صار دليلًا على التنازل عن قضايا المسلمين، وفيه تمكين للكفار، ويجعل لهم سبيلًا على المؤمنين، سواء في سوريا أم في فلسطين…
أما النتائج التي يسعى إلى تحقيقها من يتخفى وراء صلح الحديبية أنهم يريدون الدخول في مفاوضات استسلامية، وتقديم التنازلات التي يرفض الإسلام تقديمها، والدخول في مرحلة اتفاق مع النظام السوري المجرم والمدعوم من النظام الدولي الأكثر إجرامًا، إنهم يريدون مفاوضة النظام، تحت رعاية دول العدوان على المسلمين، وعلى أعراضهم، وعلى بلادهم، إنهم يريدون التفاوض من موقع المغلوب، ومن هذا المنطلق صار صلح الحديبية يستعمل للتنازل في كل مكان يريد المسلمون أن يقدموا التنازل فيه، وما الاستدلال به في قضية الصلح مع يهود عنا ببعيد…
إن من يفكر باستعمال صلح الحديبية كدليل في هذا المقام، عنده مشكلة عميقة تتعلق بكيفية فهمه للدين، تتعلق بالأصول التي تضبط فهمه للدين، تتعلق بجعل الواقع مصدرًا لفهم الدين، وتتعلق بتحكم المصالح في فهمه للدين، إنه بكل بساطة يسير على طريقة الغرب في التفكير، وأمثال هؤلاء لا يرى الغرب أي غضاضة في قبولهم ممثلين للمسلمين؛ لأنه بواسطتهم يرى أنه يستطيع أن يحقق أهدافه، وأمثال هؤلاء هم أبعد ما يكونون عن الالتزام الشرعي الصحيح،
إننا نهيب بأبناء هذه الأمة المعطاءة بأن يعوا ما يحاك لهم، وأن يرفضوا كل الهدن والمصالحات التي ليس لها أية علاقة بالحكم الشرعي، وأن يعلموا أن ما يتذرع به هؤلاء من “فقه الواقع” ليبرروا لأنفسهم القبول بدليل “صلح الحديبية” ليعلموا أن هذا الواقع الذي يتكلمون فيه هو أصلًا من صنع الغرب، وهو يريد أن يحل المشكلة بناء على الواقع الذي فرضه على المسلمين بعد هذا الإجرام الكبير بحق المسلمين، وهو وجد ضالته في أولئك الذين يطالبون بما يريد ويحقق أهدافه؛ لذلك فإن من يطالب بذلك هو أبعد ما يكون عن الاستقلالية وعدم التبعية؛ ولذلك تراهم يخرجون بسهولة عن الحكم الشرعي وينصاعون لأوامر الدول الداعمة، ويحافظون على الخطوط الحمراء التي وضعها لهم، وينسقون معه، ويظاهرونه على المسلمين الملتزمين بالفهم الصحيح للشرع، ويشتركون معه في النظرة بأن هؤلاء الذين يرفضون حلوله أنهم متطرفون، ويدخلون معه حتى في مؤامرة تصفيتهم، إن هذا الموقف هو بالفعل موقف جد خطير.
إن أمثال هؤلاء قد اشتهروا في تاريخ عملهم السياسي بمواقفهم التنازلية، وبممالأتهم لأعداء الدين، ولطالما كانوا أحجار شطرنج على طاولة الغرب.
أيها المسلمون في سوريا، وعلى رأسهم إخواننا في قادة الفصائل… إنه لا يكفي أن نكون مخلصين فحسب، بل يجب أن نضع نصب أعيننا أننا يجب أن نطيع الله في كل ما أمر، وأن نتقيد بالكتاب والسنة وطريقة رسولنا الكريم، صلوات الله وسلامه عليه، في العمل للتغيير، وأن نفهم الوقع السياسي على حقيقته، وأن نعرف حقيقة ولاء الدول التي تطرح نفسها على أنها دول داعمة، وأن نعرف حقيقة الموقف الدولي، والموقف منا كمسلمين، ومن خيرات بلادنا، ونقول للمخلصين منكم: “عليكم أن تقفوا الموقف الذي كان يقفه المسلمون الأوائل عند مواجهة الأعداء والذي كان يتمثل بالقول المشهور عنهم “جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة”. عليكم ، عندما تدلهمُّ الأمور عليكم ويعظُم الخطب أن تحسنوا اللجوء إلى الله ليكشف عنكم الضيق والعنت، لا العكس. عليكم أن تكونوا منارة لكل الأجيال فتلتزموا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “لن أخالف أمره ولن يضيعني”.
هناك أمثلة عظيمة من الصحابة الذين ضحوا بأنفسهم، ولم يروا عزًا للإسلام ولا تمكينًا، ويكفينا أن نكون منارة على طريق الحق، وأول ذلك هو الالتزام الحق، وثانيه إخلاص النية، وثالثه الصبر على أمر الله وعدم الانهزام حتى يأتي أمر الله. قال تعالى: ( مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ رِجَالٞ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيۡهِۖ فَمِنۡهُم مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُۥ وَمِنۡهُم مَّن يَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبۡدِيلٗا ٢٣) [الأحزاب].
2017-11-17