العدد 373 -

السنة الثانية والثلاثين – محرم 1439هـ – تشرين الثاني 2017م

نظرة في ثورات الشعوبِ العربية على الحكام… تصحيح مسار

نظرة في ثورات الشعوبِ العربية على الحكامتصحيح مسار

عبد الكريم أبو مصعب – الجزائر

تعيش مجتمعاتُ العالم الإسلامي اليوم واقعًا مؤلمـًا يُشفَقُ عليها منه ولا تحسد عليه. وللأسف نُطلق عليه اسم العالم الإسلامي لمجرد انتماء شعوبه للإسلام؛ أما أنظمة الحكم فيه فإن النظرة البدهية البسيطة لواقع بلدان هذا العالم ترينا واقع الحكم بغير ما أنزل الله، والتمزق السياسي، والضعف الاقتصادي، والفساد الإداري، والتمزيق الممنهج – بحسب رغبة المستعمِر – الذي مزق هذا العالم الإسلامي ليصنع منه دويلاتٍ هزيلة، كل واحدة منها لها اسم وراية!. وإلى جانب ذلك نجد كل ذلك الغزو العقائدي، والثقافة الدخيلة، من خلال الغزو المادي والمعنوي (الفكري) من أعداء الإسلام.

ولو رجعنا إلى الوراء قليلًا لانكشفت لنا بعضُ المؤامرات الخبيثة التي صنعها الأعداء والتي أوصلتنا – من بين أمور أخرى – إلى هذه الحال المزرية. ففي عام 1905م أقيم مؤتمر «كامبل بنارمان» الذي استمرت جلساتُه حتى عام 1907م، بدعوة سريةٍ من طرف المحافظين البريطانيين للحصول على أكبر مكاسب لهم، والمحافظة عليها أطول مدة ممكنة، وضم المؤتمرُ كلًا من بريطانيا، فرنسا، هولندا، بلجيكا، إسبانيا، وإيطاليا. وفي نهاية المؤتمر خرجت هذه الدول الأوروبية بوثيقة سرية أطلق عليها «وثيقة كامبل» نصت على أن البحر الأبيض المتوسط هو الشريان الحيوي للاستعمار لوصل الشرق بالغرب، ولممراته الطبيعية التي تصل آسيا وأفريقيا. وأن هذه المنطقةَ تمتلكها دولة واحدةٌ فيها أمةٌ واحدة، ودين واحد، ولسان واحد، هي دولة الخلافة العثمانية؛ لذلك تقرر في المؤتمر إبقاء شعوب المنطقة مفككةً جاهلة متأخرة، وقسموا الدول في العالم إلى ثلاثة أنواع:

1- دول الحضارة الغربية المسيحية، وواجبهم تجاهها هو الدعم والمساندة.

2- دول لا تقع ضمن الحضارة الغربية المسيحية، ولكن لا يوجد أي تصادم حضاري معها، ولا تشكل أيَّ تهديد عليها، وواجبهم تجاهها هو الاحتواء، وإمكانية دعمها بالقدر الذي لا يشكل تهديدًا عليها وعلى تفوقها.

3- دول لا تقع ضمن الحضارة الغربية المسيحية، ويوجد تصادم حضاري معها، وتشكل تهديدًا لتفوقها (هي البلاد الإسلامية). وواجبهم تجاه تلك الدول هو حرمانها من الدعم والعلوم والمعارف التقنية، وعدم دعمها في أي مجال، ومحاربة أي توجه وحدوي فيها (بعد هدم دولة الخلافة العثمانية)؛ ولذلك دعوا إلى فصل القسم الآسيوي عن القسم الأفريقي بدولة فلسطين، التي أعطيت لليهود ليتم الفصل الكاملُ اقتصاديًا وسياسيًا وثقافيًا.

ولقد نجحت الدول الأوروبية في إنفاذ هذه التوصيات بشكل منقطع النظير؛ وذلك بعد الاستعمار المباشر وانتقال الغربيين إلى الاستعمار غير المباشر عبر عملاء تمت صناعتُهم. والباب في هذا المجال واسع وكبير، حيث يمكن أن يفرد لكل بلد إسلاميٍ مجلدات عن الخيانات، وعن طرقِ وأساليب النهبِ والتمزيق والدكتاتورية، وكل أنواع الاضطهاد وأصناف القمع والتآمر في ضرب الإسلام، ومحاولة حرفه عن مساره بشتى الوسائل، وصرف أنظار وأفكار الأمة إلى توافه الأمور، حتى صرنا نتنافس على إنجاز أكبر قرص «بيتزا»، أو أكبر طبق «كبسة»!.

بل حتى وصل الأمرُ إلى أن القسم الأعظم من الأمة وأغلب علمائها ومفكريها أصبحوا يحملون الفكرَ الغربي الملون بصبغة إسلامية! وقد اعتُمد في ذلك على تنصيب الأقليات والطوائف لتفكيك العالم الإسلامي،؛حتى أصبح فهم الدين ونظمُ التعليم الشائعة متطابقةً مع متطلبات الحكم الجبري تطابقًا تامًا، وغدا الاعتقاد والعبادة، والتفكير، والتأهيل، والثقافة، والتجارة، والاقتصاد، والسياسة، بل حتى الأحلام والرؤى غدت خاضعةً لما تفرزه تلك الحكومات الجبرية؛ ولذلك وبسبب ما تلقَّتـه الأمةُ من ثقافة وعلومٍ ومصادرة للفتوى عبر مشايخ السلطة المدرَّبين على بيع الدين مقابل فتات الدنيا؛ انقلبت المفاهيم؛ فأصبح الحاكم مستبدًا، والكافر مؤمنًا، والليبرالي مسلمًا، والماركسي شهيدًا، وأصبح المسلم الحق إرهابيًا؛ حتى وصل الحال إلى التهكم بأحكام الدين الإسلامي وآيات الله المحكَمات جهارًا نهارًا!!

وعلى حين غرة من كل هذا الكيد والقمع والاضطهاد، جاءت الثورات العربيةُ التي سميت بـ«الربيع العربي» على غير موعد، تطالب بفك القيد من الحكم الجبري. ولكن في الحقيقة لم تكن عند هذه الثورات رؤية متبلورة حول هدفها، إنما كانت شعبوية قائمةً على رفض الظلم. ولم تكن مسلحة؛ لذلك حاول الغرب جاهدًا احتواء هذه الثورات، والاعتماد على الدولة العميقة؛ فاستطاع أن يحرف بعضًا منها، وحوّل البعضَ الآخر إلى مواجهات مسلحةٍ؛ ليحتويها، وليُحكم سيطرتـَه عليها، وليَكبح توسعها.

ففي تونس بقيت سلميةً، ولكنها انتكست وأعلنت فشلَها عندما آلت إلى طرف علماني خبيث يعود إلى حقبة بن علي وما قبله، أخذ البلاد إلى ما هو أسوأ مما كانت عليه. وها هي الثورة المصرية التي كويت بالنار من طرف السلطة، وأطفئت من جذورها لتعود الأوضاع إلى أسوأ مما كانت عليه إبان حكم العسكر؛ حيث أصبحت البلاد تعاني الويلات الاقتصادية والسياسية، والفجور القضائي، والسخف السلطوي، وعادت إلى الحكم العسكري مرة أخرى. أما ليبيا فهي إلى الآن لا تستطيع أن تقيم حكومةً، ولا أن تحقق أمنًا، ولا أن تدبر شأنًا، وهي تحت وطأة الصراع الدولي، بل هي ذاهبة إلى حكم العسكر كما هو حال أختها مصر. وأما اليمن، الذي لم يعد سعيدًا، فهو ينتقل من مجزرة إلى أخرى، ومن مجاعة إلى أخرى، وهو يبدو أنه ذاهب إلى تقسيم البلاد إلى أقاليم مختلفة متنازعة، لتبقى نذرُ الحرب قائمةً، وحالة النزاع والفوضى دائمةً بين هذه الأقاليم المختلفة.

وها هي الثورة السورية التي أبدت مقاومةً أكبر، ودامت فترةً أطول، وتركت بصمة هي الأشد إيلامًا؛ هُدمت فيها المدنُ، وتكسرت فيها البنى التحتية، وتحول أفراد شعبها إما إلى شهيد، أو مهجَّر، أو معاق، أو جريح، أو نازح مشرد، ويبدو أنها ذاهبة إلى حكم شبه فدرالي يقسم البلاد إلى دويلاتٍ قابلة للانفكاك بأية لحظة، وأن تتبع هذه الدويلات لحكم مركزي في العاصمة…

بعد كل ما حدث، فهل نقول إن الثورات العربية نجحت؟ أم نقول إنها فشلت؟

في الحقيقة هي نجحت في أشياء، وفشلت في أشياء أخرى على الصعيد الداخلي، كما أنها تركت بصماتٍ واضحةً على الصعيدين الإقليمي والدولي.

فعلى الصعيد الداخلي: حتى نحكم على نجاحها أو فشلها لا بد من التطرق إلى النقاط التي يجب أو يفترض أن تحققها حتى نقول إنها ناجحة، وسوف نعرض بعض النقاط، منها:

1- إن الثورات نجحت في كسر حاجز الخوف عند القسم الأكبر من المسلمين، واقتلعت الجبنَ من قلوبهم.

2- أظهرت أن شعوب الأمة الإسلامية تعادي حكامها؛ لذلك كان أول شعار لها هو «الشعب يريد إسقاط النظام»، ونجحت معها في خلع بعض الحكام المستبدين الظلمة وإسقاط بعض الحكومات العميلة.

3- أوجدت إجماعًا على ضرورة تغيير الأنظمة الحاكمة الحالية، وهذا بحد ذاته يعبر عن رفض هذه الأنظمة ورفض من فرضها على المسلمين وهو الغرب الكافر الذي يدير الأمور من وراء حجاب، ويعتبر هو المسؤول الحقيقي عن كل هذه الأوضاع الشديدة.

4- أظهرت أن هذه الأمة لمَّت شمل المخلصين، والأشراف من أبناء الأمة.

5- حركت نفوسَ المخلصين من أبناء هذه الأمة لكي تضحي بما لديها لحماية دينها، وعرضها، وكرامتها، وبلادها. ونجحت في خلع بعض الحكام المستبدين الظلمة وإسقاط بعض الحكومات العميلة.

إن ما حدث، أذهل الغرب، وجعله يجمع أمره على إفشال الثورات بشكل يمنع امتدادها وتكرارها واعتبر ذلك همه الأول في السياسة الدولية واستعمل إجرامًا لا يوصف، ومكر مكرًا كبَّارًا، وسعى لأن يحدث تغيير شكلي يلامس القشور ولا يصل إلى اللب، ولكي يثني المسلمين عن العودة إلى الشارع والثورة عليه مرة أخرى مارسى أنكى العهر والإجرام بحقهم، وصوَّر لهم أن البلايا والرزايا قد حلت بهم جراء تجرئهم على القيام بثوراتهم، ومن ثم راح يسمها بالفشل حتى لا تتجرأ على ذلك مرة أخرى.

إنه يمكن القول إن هذه الثورات لم تحقق هدفها بما يليق بدينها وتاريخها؛ لأنها كانت تطغى عليها المشاعر وتفتقد للوعي السياسي وللقيادة الرشيدة التي تقودها، لذلك قادها عدوُّها بلَبوس ووجه آخر؛ فتحررت من نير لتضع مكانه نيرًا آخر، ولترتمي في حضن أسوأ، ولتذهب إلى مصير أكثر بشاعةً وحقدًا. ويمكن القول إن هذه الثورات:

1- فشلت لغياب الوعي السياسي عند كل أطياف الحراك المسلح وحتى التفاوضي منه، ولذلك لم يكن حرف الثورة عن هدفها عصيًا على أعداء الأمة، وكانت أدوات ذلك كثيرة.

2- لم تعمل هذه الثورات على الاستنصار بضباط الجيوش المخلصين منهم لمساعدتها في خلع الحكام وتغيير الأنظمة، فبقيت هذه الجيوش تأتمر بأوامر قادتها المأجورين المرتبطين بالحكام أو بالسفارات الغربية مباشرة؛ لذلك ظهر الموقف الفعلي للجيش (أو الجيوش)  أنه كان ضد الثورات بشكل ملحوظ، وهذا عائد إلى أن الغرب والحكومات الجبريةَ عرفت كيف تنشئ مثلَ هذه المؤسسات وترعاها، وهذا يدفع المخلصين من أبناء هذه الأمة إلى التفكير في الاستنصار بالجيوش على الطريقة التي أمر بها الشرع، وقام بها الرسول صلى الله عليه وسلم عندما استنصر بالأنصار رضي الله عنهم ونصروه.

إن هذه الثورات ليست هي الطريقة الشرعية المطلوبة للتغيير، بل الذي كان مطلوبًا فقط، بعد أن وصلت الأمة إلى أنها تريد التغيير، وأن الإسلام هو مطلوبها الأول، وبعد أن وجد فيها من يستطيع إقامة حكم الله فيها، وبالأخص حزب التحرير، أن تدفع أهل القوة من أبنائها ليكونوا أهل نصرة لدينهم؛ ليقوموا معهم في إسقاط الأنظمة، وإقامة شرع الله. أما وقد قامت هذه الثورات، وعلى الشكل الذي قامت عليه، فلا بد من بذل النصح لها لتصحح مسارها، وتركز على أهل القوة من أبنائها، وأن تتبنى قيادة سياسية مخلصة وواعية لها، تتبنى طريقة الإسلام الشرعية في إقامة الخلافة الراشدة، وبهذا يمكن للثورات أن تصحح مسارها، وأن تبلغ هدفها من توحد المسلمين جميعًا، سواء في البلدان التي ثاروا فيها، أم في تلك التي لم يثوروا فيها.

إن هذه الثورات ما زالت قائمةً رغم فتورها وإخفاقاتها، وما زالت تلتهب من حين إلى آخر، ولا يزال الصراع محتدمًا بين المخلصين من أبنائها وبين أعدائها في الغرب، ومعه من أبناء جلدتنا الذين باعوا كل شيء مقابل مكاسب رخيصة مؤقتة. ونتوقع أن تشهد ارتداداتٍ لها في البلاد الثائرة، وهي ما زالت فيها قابلية التمدد إلى غيرها؛ لأن الشعوب ما زالت تكتوي بنير حكامها؛ ولأن القيادات التي جاءت كانت أسوأ من التي تم إسقاطها، ولأن الذين قادوها تبين أنهم لم يكونوا جديرين بهذه القيادة ولم يكونوا على المستوى الذي كان يطمح له عامةُ المسلمين، إذ لم تكن لديهم رؤية سياسية، بل أصبحوا أسوأ مما كانوا عليه قبل الثورة. كما أن البلاد التي لم تَـثُر ليست بأحسن حالًا من تلك التي ثارت، فأهلها ينامون على وسائد الاستقرار الهش، وهذا لن يدوم طويلًا. وسوف يساعد في نمو تلك الارتدادات تدني مستوى المعيشة، والضغط القمعي الدكتاتوري المسلط عليهم ممن هم على سدة الحكم. وفوق هذا كله إن الغرب سيسوم المسلمين ذلًا أكبر، وتقسيمًا لبلادهم أسوأ، لأنه يريد أن يكسر إرادتهم في التغيير ويريد منهم أن يستسلموا له فلا يعودون إلى الثورات مرة أخرى.

أما على الصعيد الإقليمي: فهذه الثورات قد أسقطت عروشًا أربعة، وهي ما زالت قائمة في سوريا. وبالرغم من اجتماع طواغيت الأرض كلهم بكل أطيافهم، ودولهم الصغيرة والكبيرة؛ حيث نكاد لا نجد في التاريخ قضيةً اجتمع عليها العالـمُ بأسره مثلما حدث في سوريا. ولنذكر بعضَ ما تركته ثورة الشام من بصمات:

1- كشفت قواعدَ الدولة العميقة؛ ما أدى إلى كشف رجالات الغرب من العملاء، وكيف استخدمهم في احتواء وتغيير مسار هذه الثورات. وسوف نلمس تأثير ذلك في المستقبل القريب، وسوف تكون أوراق الحكام الجدد الذين سيأتون عقب هذه الثورات محروقة أيضًا إن شاء الله؛ لأنهم صنعوا في نفس مطبخ  من سبقهم.

2- انتهاء الدولة القومية، واضمحلال الفكرة الوطنية، وانفضاح اللعبة الطائفية والمذهبية والعرقية التي باتت آخر المكر، إن شاء الله، وباتت اللعبة الوسخة التي يبغضها المسلمون ويبغضون اللاعبين فيها لكونهم أقذر العملاء في نظر المسلمين، وهم إن كانوا ينفخون فيها فستحرقهم بكيرها متى قامت دولة الخلافة قريبًا إن شاء الله تعالى. وقد لا يكون ذلك ظاهرًا للعيان حاليًا؛ لأن الإعلام ما زال بيدهم، وهو يخفي الحراك والتغيير على مستوى الشعوب، ويُظهر الطبقة الحاكمة ومن والاها من المثقفين والمفكرين.

3- إن الشعوب وعت ولو بشكل عام أن ما رسمه الغربُ من صورة مشوهة لدولة الخلافة المزعومة ما هو إلا أكاذيب ومسرحية أسدل ستارها، وأن الإسلام بريء منها ومن قياداتها. وهذا الفشل، بإذن الله، سوف يصب في صالح من يحملون فكرةَ الخلافة كمنهج للتطبيق، وليس كشعارات واهية.(وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ).

4- هدمت أطروحةَ سيد المقاومة وأصحاب الممانعة بأنهم عملاء مأجورون مجرمون، وأن ادعاءهم بقتال يهود لعب ولهو، وإنما الجد كل الجد عندهم هو في قتل المسلمين وبث الفتنة المذهبية بينهم، واجتماعهم مع الأسد (معقل العلمانية الأخير في المنطقة) ومع الكافر الروسي وفي خدمة المشروع الأميركي في تفكيك هذه الأمة، وبعبارة أخرى كشفت الوجه الحقيقي لهذه الدول والدور الخفي لها.

5- هزَّت النظام الدولي والإقليمي هزّة قوية وتمت تعريته، ودفعت أصحابه إلى التصريح بما كان مستورًا عندهم. وتم التصريح جهارًا نهارًا من قبل بوتين ولافروف والمعلم أن الخلافة هي الهدف من هذه الثورات، حتى وصل الأمر بالسناتور الأميركي عن ولاية فيرجينيا  ريتشارد بلاك إلى القول: «إن سقوط النصيرية في دمشق ما هو إلا إعلان قيام دولة إسلامية، وبعد شهر من سقوط دمشق سوف تسقط باقي الدول»!

لذلك نجد أن خلاصة المشهد الإقليمي هو تشكل ثلاثة محاور رئيسية متصارعة هي:

1- المحور (الشيعي) بقيادة إيران وأزلامها وتوابعها.

2- محور الاعتدال (السني) بقيادة السعودية وأعوانها وبقايا محور الإسلام السياسي المتغير من الدول والجماعات الإسلامية التي تلحق بمحور الاعتدال.

3- محور حاملي المشروع السياسي الإسلامي متمثلًا بحملة المبدأ القويم، ومشروع الخلافة العظيم، وهو المحور الوحيد المرشح لأن يعوِّم تلك الثورات، ويصحح مسارها، ويأخذ بها نحو تحقيق أهدافها، والتي أولها إقامة الخلافة الراشدة.

وأما على الصعيد الدولي: فلقد تركت الثورات بصماتٍ كبيرةً قد تشعل العالم بأسره بثورات لا حصر لها، مما سوف يؤدي إلى انهيار المنظومة الدولية. وسوف نعرج على بعضها فيما يلي:

أولًا: عملية التهجير وتداعياتها على الموقف الدولي.

بلغ عدد المهجَّرين خلال 2015م حوالى 2 مليون مما أدى (في الغرب) إلى انقسام حول هذه المسألة بين الأحزاب اليسارية الداعمة للهجرة والقيم الإنسانية، وبين اليمين المتطرف والحركات القومية المناهضة للهجرة، والتي ترى فيها تهديدًا أمنيًا واقتصاديًا وديمغرافيًا. وقد اعتبرها بعض المفكرين قنبلةً موقوتةً ستغير وجهَ أوروبا على المدى القريب وليس البعيد؛ لذلك تم تسليط الأضواء ضد الهجرة خاصةً من الناحية الأمنية والسياسية؛ ولذلك سوف نشهد نفوذًا متزايدًا وارتفاعًا في صوت الأحزاب اليمينية المتطرفة التي تنادي بذاتية الدولة القومية والعرقية والدينية. وقد يؤدي هذا مستقبلًا إلى وصول الأحزاب اليمينية إلى سدة الحكم، مما سوف يفرض دكتاتوريةً غير مسبوقة في أوروبا، بل ويساعد على انتشار ثوراتٍ على غرار (الربيع العربي)؛ وبذلك تعود أوروبا إلى سابق عهدها، دولًا متناحرة وقومياتٍ متصارعةً. ومن بوادر ذلك على سبيل المثال:

– حصول حزب الشعب الدانمركي الأكثر تطرفًا في عام 2015م على٢١% من الأصوات.

– تبني حزب الجبهة الوطني الفرنسي أجندة انفصالية عن الاتحاد الأوروبي (علمًا أن هذه الأحزاب تحاول ربط الأحداث الإرهابية التي تحدث في أوروبا بالهجرة غير الشرعية للمسلمين حصرًا)

– تخوف الغرب من عودة المقاتلين الأجانب في تنظيم الدولة، والتنظيمات الجهادية الأخرى إلى بلادهم عبر الهجرة غير الشرعية. وهذا يدعم فكرة إلغاء فضاء «شينغن» في أوروبا للحد من حركة الأشخاص عبر الحدود الأوروبية الداخلية.

ثانيًا: تقهقر الموقف الأميركي بعد الثورات.

هنالك تحولات فرضتها الثوراتُ على الموقف السياسي الأميركي في المنطقة، ذلك أن (الربيع العربي) هو تهديد حقيقي للمصالح الأميركية خاصةً، والغربية عامةً، في حال تفلُّتِ أي منطقةٍ من التبعية، أو كانت عصيةً على الاحتواء، فكان أن تقلصت الخيارات المتاحة للولايات المتحدة في التعامل مع مستجدات المنطقة. كما أن طبيعة السياسة الأميركية هي التي سوف تفرض ظروفًا أخرى مستقبلًا؛ حيث إن أميركا تغدر دومًا بحلفائها بعد انتهاء الدور، أو عند تحولهم إلى حالاتٍ مستعصية أمام مخططاتها، وتحاول دائمًا الانتقالَ إلى الحليف الأقوى، فهي تساهم بذلك في هدم القواعد القديمة التي كانت لديها ركائز مهمةً في فترة من الفترات ويؤدي طردًا إلى عدم الاستقرار في المنطقة التي بدأ باب التغيير يفتح فيها، والتي لن تشهد الهدوء إلا في ظل الإسلام، أي في ظل دولة الخلافة الموعودة القريبة بإذن الله وعونه وتوفيقه…

ثالثًا: تحطم المنظومة الدولية الحقوقية بشقيها السياسي والإنساني.

يجب القول أيضًا – وفي نفس الوقت – إن هذه المنظومة من حيث إنها منظومة من صنع البشر هي ساقطة ومخفقة وقاصرة لقيادة العالم. ولكن بالرغم من أنها كانت تخفي قراراتِـها اللئيمة والخبيثة ضد المسلمين ومناطقهم وحقوقهم؛ إلا أنها تعرَّت بشكل منقطع النظير، فظهرت على أنها منظومة غير حقوقية وغير إنسانية، تخلت عن جميع مبادئها التأسيسية، وانكشفت أكثر كيف أنها عصًا غليظة بيد أميركا موجهة إلى البلاد الإسلامية خاصة، وإلى بلاد العالم عامةً دون أي قناع، ودون أي لبوس يغطي عورتها. فأين عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول؟ وأين حقوق الإنسان طبقًا للميثاق الدولي، وهي تشارك في قتل وتشريد ملايين البشر من بلادهم؟ فقد جاءت الثورات، وأسقطت ورقةَ التوت عن هذه المنظومة الكاذبة والمفلسة والمتعسفة حتى أصبح القاصي والداني، مسلمًا كان أو كافرًا، غربيًا أو شرقيًا، يعلم أن هذه المنظومة الدولية ما هي إلا وحش وضع لنهب وقتل وتشريد كل من لا يوافق الدول الكبرى الاستعمارية الكافرة على ما تريد.

أما الواقع الاقتصادي، والذي يعتبر من السمات الأساسية للنظام الرأسمالي، فهو يعاني معاناة كبيرة.  وإن هذه الثورات، ذات الكلفة الباهظة، أوقفت أو أخرت بوادر عملية الإصلاح أو الإنقاذ الاقتصادي إلى حد ما ولو كانت بسيطة. وهذا النظام الرأسمالي الجائر يفعل اليوم ما يفعله في بلاد المسلمين من قتل وتدمير للبنى التحتية للمدن حتى يقوم هو بما يمص دماء المسلمين من جديد عن طريق تعهد إعمارها بالاستغلال.

وفي الخلاصة نجد أنه من المبكر للغاية تقييم نتائج ثورات (الربيع العربي) وتداعياته، مع أن الإعلام يحاول وبشكل خبيث أن يصور لنا أن هذا الربيع لم يـجُرَّ على أهله إلا الويلات، وأننا كنا بخير فيما سلف، وأن أي تحرك لن يجدي، ولن يجلب إلا الموت والدمار للبلاد والعباد، متناسين ومتغافلين عن حكمة الله عز وجل في التغيير؛ حيث إنه يجب تصحيح المفاهيم الخاطئة، وإعادة الأمور إلى نصابها وفق ما يرضي الله سبحانه وتعالى، ويُرضي عبادَ الله المخلصين، ويخرج العبادَ من ظلم الأنظمة الكافرة إلى عدل الإسلام. وإن العملَ للتغيير إذا كان مخالفًا أو مناقضًا لأمر الله تعالى فحتمًا سوف يحصل التغيير، ولكنه نحو الأسوأ وليس نحو الأفضل. وهذا ما يجب أن يعي عليه المسلمون فيستفيدون منه في قابل الأيام.

فيجب علينا أن نعي حقيقةَ التغيير وطريقتَه، وأن نأخذ بأسباب التغيير نحو ما يرضي الله جل شأنه.  وأن نتمسك بمبدئنا – الإسلام – تمسكًا لا انفكاك عنه، وأن نتبع ما يرضي الله بخطوات تحدد كيفية التغيير الشرعية المنضبطة والمنبثقة عن الكتاب والسنة، وأن نعطي القيادةَ لأهلها، وأن نستنصر جيوشَنا وأبناءنا لنستأنفَ الحياة الإسلامية التي هي خير لكل العباد، ومنجاة عند رب العباد.

إن وعد الله بالتغيير يقرُبُ، إن شاء الله، وإننا بهذا الوعد الصادق نصدق أنه بعد هذا الحكم الجبري الذي نعيشه سيأتي، بعون الله وتوفيقه، الحكم بالخلافة الراشدة، ويتحقق فينا قول الرسول صلى الله عليه وسلم الذي رواه الإمام أحمد عن النعمان بن بشير t عن حذيفة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا عاضًا فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة»

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *