العدد 372 -

السنة الثانية والثلاثون، محرم 1439هـ، الموافق تشرين الأول 2017م

أثر الإرادة السياسية على نهوض الدول، وطريقة الإسلام في اكتسابها (1)

أثر الإرادة السياسية على نهوض الدول، وطريقة الإسلام في اكتسابها (1)

 

      شتان شتان ما بين دولة تبسط سيادة مبدئها وسلطانها على مساحتها الجغرافية القائمة عليها، وتحرس مياهها الإقليمية ومجالها الجوي، ترُدُّ عادية العدو وتدفعه إن اقتحم حماها، وتحفظ بيضتها وحرماتها ومقدساتها وثرواتها ومقدراتها من أن تمتد إليها أيادي الطامعين والعابثين، بل ولا ترضى بأقل من سيادة مبدئها وسلطانها على الأرض كل الأرض، قال الله تعالى: [ لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَأَنزَلۡنَا ٱلۡحَدِيدَ فِيهِ بَأۡسٞ شَدِيدٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥ وَرُسُلَهُۥ بِٱلۡغَيۡبِۚ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٞ ٢٥  ][الحديد: 25] تلكم هي دولة الخلافة الإسلامية صاحبة الإرادة السياسية التي أمرت أن يُنثر القمح على رؤوس الجبال، حتى لا يُقال جاع طير في بلاد المسلمين… وما بين دويلات كرتونية ليس لها من الأمر شيء سوى الدندنة والنعيق على ألحان أسيادها، فهي كالذي قال الله فيه: [۞ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلًا عَبۡدٗا مَّمۡلُوكٗا لَّا يَقۡدِرُ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَمَن رَّزَقۡنَٰهُ مِنَّا رِزۡقًا حَسَنٗا فَهُوَ يُنفِقُ مِنۡهُ سِرّٗا وَجَهۡرًاۖ هَلۡ يَسۡتَوُۥنَۚ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ ٧٥ وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا رَّجُلَيۡنِ أَحَدُهُمَآ أَبۡكَمُ لَا يَقۡدِرُ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوۡلَىٰهُ أَيۡنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأۡتِ بِخَيۡرٍ هَلۡ يَسۡتَوِي هُوَ وَمَن يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ ] [النحل: 75 – 76] تلكم هي دويلات الضرار القائمة في عالمنا الإسلامي الجاثمة على صدور المسلمين. وما أنسب أن يُقال فيها:

يا فَخاماتِ الطَّراطِيرِ التي  ****  فَخَّمُوها الأَمرَ فَخَّاً مَنصِبا .

يا سِياداتِ النَّواطيرِ التي  ****  سَوَّدوهَا الحُكمَ قَهرًا مَنقِبا .

يا جَلالاتِ العَكاكيزِ التي  ****  تَوَّجوها القَصرَ قَصرًا غَاصِبا .

خِبْتُمُ شاهَتْ وُجوهٌ طَلعُها  ****  طَلْعُ شَيطانٍ رَجيمٍ يا أَبا ؟

هَل عَلِمْتُم أَنَّ يَومًا قَد دَنا  ****  فيهِ حَزٌّ لِلرِّقابِ مَغرِبا .

      لقد أصبح مصطلح الإرادة السياسية اليوم من مُسلَّمات القوة السياسية المرادفة للدول التي تحترم نفسها، وتفرض وجودها عالميًا على الحلبة الدولية، خصوصًا بعد تشعب العلاقات الدولية وتعقِّدها، فبها – أي الإرادة السياسية – صار للعالم نظام اصطلح على تسميته بالنظام الدولي تعيَّنت بموجبه طبيعة العلاقات الدولية على أساس من التفرد أو المحاصصة الجائرة بين بضع دول كبرى احتكرت الإرادة السياسية لذاتها، في حين وَضعت باقي دول العالم في طوابير الدول المــُصطفة وراء فناء حدائقها الخلفية تحت جبروتها الذي طغى وبغى وأظهر في الأرض الفساد!

      والإرادة السياسية سلوك مكتسب للدول، فهو ليس من الأفعال التي تقع على العباد جبرًا عنهم، بمعنى أنه ليس قضاءً لا يُرد عن الدول الكافرة التي تتجبر به على شعوب الأرض، يمنع انتزاعه منها، ويُحتم هذه القسمة الضيزى بين الدول، فما كان منها دولًا كبرى ذات إرادة سياسية فهو كذلك أمر مفروض. وما كان منها دولًا تابعةً، فهي كذلك قدر مقدور، كلا ليس الأمر كذلك أبدًا، بل هي سلوك سياسي وعملي وواقعي، إذا وُجد في الأمة الإسلامية أصحاب الهمم العالية من السياسيين الجهابذة – وكثير ما هم – الذين يأبون الضيم لأمتهم؛ قلبوا الطاولة في وجوه من نصبوا أنفسهم على عرش الظلم والتجبر والطغيان في غفلة من الأمة. وصدق الله العظيم: [ لَّا تَجِدُ قَوۡمٗا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ يُوَآدُّونَ مَنۡ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَوۡ كَانُوٓاْ ءَابَآءَهُمۡ أَوۡ أَبۡنَآءَهُمۡ أَوۡ إِخۡوَٰنَهُمۡ أَوۡ عَشِيرَتَهُمۡۚ أُوْلَٰٓئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلۡإِيمَٰنَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٖ مِّنۡهُۖ وَيُدۡخِلُهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُۚ أُوْلَٰٓئِكَ حِزۡبُ ٱللَّهِۚ أَلَآ إِنَّ حِزۡبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ٢٢] [المجادلة: 22]

ويمكن للإرادة السياسية للدول أن تنشأ على أساس حب السيادة المجرد، ودولة الفرس نموذجًا. ويمكن أن تنشأ على أساس فكرة جزئية عن الكون والإنسان والحياة، والدولة البيزنطية نموذجًا. وكذلك يمكن أن تنشأ على أساس فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة، والدولة الإسلامية والاتحاد السوفياتي سابقًا وأميركا وبريطانيا وفرنسا وروسيا وألمانيا اليوم كلها نماذج للدول الكبرى التي نشأت على أساس فكرة كلية ونظرة شاملة عن الوجود، مع ضرورة التنويه إلى أن ليس كل فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة تعتبر فكرة صحيحة، فقد تكون فكرة كلية، ولكن ليس بالضرورة أن تكون فكرة صحيحة. فالعقيدة الإسلامية فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة، وعما قبل الحياة الدنيا وعما بعدها، وعن علاقة ما قبل الحياة بما بعدها، وهي فكرة صحيحة؛ لأنها تقنع العقل وتوافق الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ومن ثم ينشأ على أساسها كيان سياسي صحيح يمتلك مقومات الدولة المبدئية العالمية التي تستحق أن تصوغ نظامًا دوليًا جديدًا قائمًا على أساس الإسلام، دين الله تبارك وتعالى الذي جعله سبحانه ناسخًا للشرائع السابقة ومهيمنًا عليها. في حين أن الاشتراكية والرأسمالية فكرتان كليتان عن الكون والإنسان والحياة، لكنهما لم تقنعا العقل ولم توافقا الفطرة التي فطر الله الناس عليها. فهاتان الفكرتان فكرتان باطلتان، والكيانات السياسية التي نشأت عليهما كيانات باطلة وإن امتلكت الإرادة السياسية، فما كان أساسه باطل  فهو باطل لا يستحق قيادة البشرية، هذا فضلًا عن أن قيادة هذه الدول لم تجلب للبشرية إلا الشقاء والدمار.

والحاصل أن دول العالم اليوم تنقسم إلى دول كبرى تستأثر بالقرار الدولي وتحتكره، تتقدمها رأس الكفر أميركا المتغطرسة، وأخرى تدور في فلك هذه الدول، وثالثة تابعة ليس لها من الأمر شيء ولا من الإرادة السياسية حظ ولا نصيب. لقد نسجت هذه الدول بزعامة أميركا نظامًا معقدًا من العلاقات الدولية انقلبت فيه الموازين، واضطربت فيه المعايير، فالحق ما تراه هذه الدول حقًا، والباطل ما تراه باطلًا! 

لقد اجتمعت بريطانيا وفرنسا ومن سار في ركابهما على دولة الخلافة الإسلامية مطلع القرن الماضي فهدموها، وانساحوا في بلاد المسلمين يتقاسمون ميراث الخلافة، وكأنهم أصحاب الدار وأرباب القرار! ثم جاؤوا باليهود من شتى آفاق الأرض، وأنشؤوا لهم كيانهم المسخ في الأرض المباركة فلسطين، وأمدُّوه بالسلاح والمال والرجال، ثم أحاطوه بسياج من دويلات الضرار المارقة التي صنعوها على أعينهم لتحفظ لهذا الكيان أمنه وأمانه!

وها هي أميركا بعد أن وثبت على عرش السيادة العالمية، خصوصًا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ترى العالم كله مجالًا حيويًا لاستراتيجياتها وخططها السياسية الهادفة إلى إشباع نهمها الاستعماري. إنها حقًا دولة استعمارية بكل المقاييس، تملك أعتى ترسانة عسكرية عرفها التاريخ، تُحرم وتُجرم كل من يسعى لامتلاك السلاح مخافة أن يهدد مصالحها! تشعل الحروب وتدير الأزمات وتثير النعرات وتفتعل الصراعات؛ فيموت الناس ويتشردون هنا وهناك بلا مأوى يُقِلُّهم ويُظِلُّهم، ولا غذاء يُقيتهم، ولا كساء يستر سوءاتهم، ولا دواء يشفي عليلهم، ثم تتباكى عليهم بدموع التماسيح عبر مؤسساتها الاستعمارية – الأمم المتحدة وأخواتها – التي تدعي دجلًا وتضليلًا تَبَنِّيها للقيم الإنسانية… تمُد كيان يهود بالمال والسلاح، فيقتلون به عباد الله، يدمرون البيوت على ساكنيها، فتضيع براءة الطفولة تحت ركام الهدم والردم، فتعتبر أميركا ذلك حقًا لليهود ليس لأحد أن يُعاتبهم عليه ولو مجرد معاتبة، في حين ترى في حجرٍ يرميه طفل أعزل، أو في سكينٍ سلَّها شاب عندما عَزَّ السلاح، إرهابًا يجب أن يُقمع… ثم تغزو أفغانستان والعراق بلا جريرة ولا كبيرة، وها هي عبر سبع سنوات عجاف، تَحُفُّ عميلها بشار بن أبيه بالأحلاف والأشياع والأتباع، توكل لكُلٍّ دوره المرسوم، فيقتل بشار ويُدمر ويحرق ويشرد، وتقتل أميركا معه المسلمين في العراق والشام… تنهب الثروات وتستبيح الحرمات بل وتتبجح على رب الأرض والسماوات لأنه جعل النفط في مكامن الخليج العربي، بينما العالم المتحضر في مكان آخر، [ فَلَعۡنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ ٨٩] [ البقرة / 89 ] .

إن عزة الإسلام التي في صدورنا، تأبى علينا أن نرضى بهذا الذل ونطمئن به، وحاشى أن نكون ممن قال الله فيهم: [ إِنَّ ٱلَّذِينَ لَا يَرۡجُونَ لِقَآءَنَا وَرَضُواْ بِٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَٱطۡمَأَنُّواْ بِهَا وَٱلَّذِينَ هُمۡ عَنۡ ءَايَٰتِنَا غَٰفِلُونَ ٧] [يونس: 7]. أما وقد طفح الكيل، وبلغت الأمور مبلغها الذي لم يعد يُطاق؛ فقد صار لزامًا أكثر من أي وقت مضى أن تسترد الأمة عافيتها، وتقيم خلافتها صاحبة الإرادة السياسية على أنقاض هؤلاء الحكام المخنثين من الصبيان السفهاء، الذين أظهروا عداءهم للإسلام والمسلمين، وخيانتهم للأمة وقضاياها، وتواطؤهم مع الكفار المستعمرين جهارًا نهارًا دون أن يستحيوا من الله ولا رسوله ولا المؤمنين.

      إن الحديث عن وجوب استرداد الأمة الإسلامية إرادتها السياسية ليس بدعًا من القول، ولا حدثًا استحدث بعد أن لم يكن من قبل، فنحن المسلمين الذين علَّمْنا العالم كيف تكون السيادة، عندما أقام رسول الله – صلوات ربي وسلامه عليه – أول دولة مبدئية في العالم، في المدينة المنورة، تلك الدولة التي قتلت مَن قتلت من اليهود، وأجلت منهم من أجلت، تلك الدولة التي طهَّرت البيت العتيق من رجس الأنداد والأوثان وأعادت إليه عقيدة التوحيد، تلك الدولة التي غلبت الروم والفرس وألبَست سراقة بن مالك سواري كسرى بن هرمز، تلك الدولة التي قبَّلت حوافر خيلها شواطئ البحار والمحيطات، وفتحت الأندلس وبلاد السند والهند، تلك الدولة التي نالت شرف فتح القسطنطينية مدينة هرقل بشرى رسول الله – عليه الصلاة والسلام – تلك الدولة التي دفعت أميركا لعظمتها الجزية في مياه قادش بالجزائر عام 1210ه- 1795م ، دفعت بموجبها على الفور 642 ألف دولار ذهبي، و1200 ليرة عثمانية… وهذا غيض من فيض والقائمة تطول.

      إن طريقة الإسلام في استرداد الإرادة السياسية للأمة الإسلامية طريقة شرعية ثابتة لا مساغ لأحد في إنكارها أو التعدي عليها بتأويل يلوي النصوص بعيدًا عن دلالاتها الصحيحة، وثبات هذه الطريقة يأتي من وجهين:

الأول: طبيعة الإسلام وتميزه على كل شرعة ومبدأ، فالإسلام متميز في عقيدته القائمة على أساس العقل، متميز في أفكاره وأحكامه المبنية والمنبثقة من هذه العقيدة. فالعقيدة الإسلامية لم تفرض على الإنسان أمورًا غيبية أوجبت عليه الإيمان بها قبل أن تعطي العقل حقه ومستحقه في النظر والتدبر في الحوادث والموجودات، ومن ثم وصل بعد هذا التفكر وهذا التدبر إلى الحقيقة القطعية، حقيقة أن الله رب كل شيء، وخالق كل شيء، والمهيمن على كل شيء، وأنه سبحانه بعث محمدًا – صلى الله عليه وسلم – خاتمًا للنبيين بشريعة الإسلام التي نسخت كل الشرائع السابقة وهيمنت عليها، وبذلك يكون الإسلام الدين الأوحد على هذه الأرض الذي يُفرد الله تبارك وتعالى في ربوبيته وألوهيته وحاكميته؛ لأنه بعقيدته وأفكاره وأحكامه منهاج حياة يجب تطبيقه في معترك الحياة تطبيقًا سياديًا، وهذا المنهاج يستحيل أن يخضع لمبدأ آخر أو يتعايش مقاسمةً مع غيره من المناهج الباطلة، فإما أن يكون هو أو أن لا يكون… كيف لا وقد تنزَّل من لدن الخبير الحكيم القائل: [ إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُۗ وَمَا ٱخۡتَلَفَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُ بَغۡيَۢا بَيۡنَهُمۡۗ وَمَن يَكۡفُرۡ بِ‍َٔايَٰتِ ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ ١٩] [آل عمران: 19] .

الثاني: إن رسول الله – صلوات ربي وسلامه عليه – حمل الدعوة الإسلامية حملًا سياسيًا متميزًا، ظهرت فيه القوة والمفارقة بين الحق والباطل من أول يوم، تلك المفارقة التي أشعلت جذوة الصراع بين الكفر والإسلام إلى حد كسر العظم، فإما أن تكون الغلبة للإسلام دين التوحيد الجديد وأهله، وإما أن تكون الغلبة للكفر وأهله. ولو لم ينزل من القرآن إلا سورة (الكافرون) [ قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡكَٰفِرُونَ ١ لَآ أَعۡبُدُ مَا تَعۡبُدُونَ ٢ وَلَآ أَنتُمۡ عَٰبِدُونَ مَآ أَعۡبُدُ ٣ وَلَآ أَنَا۠ عَابِدٞ مَّا عَبَدتُّمۡ ٤ وَلَآ أَنتُمۡ عَٰبِدُونَ مَآ أَعۡبُدُ ٥ لَكُمۡ دِينُكُمۡ وَلِيَ دِينِ ٦ ]. نقول: لو لم ينزل من القرآن إلا هذه السورة لكانت كافية لإثبات ثباتِ طريقة الإسلام في منهجية العمل لإقامة الدولة الإسلامية، واكتساب الإرادة السياسية والسيادة المفقودة، فكيف وقد تضافرت الحوادث والمواقف التي أكدت هذا الثبات؟ وهاكم غيض من فيض:

1 – قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: (وَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ، أَنَّهُ حُدِّثَ أَنَّ قُرَيْشًا حِينَ قَالُوا لِأَبِي طَالِبٍ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، بَعَثَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ لَهُ: “يَا ابْنَ أَخِي، إنَّ قَوْمَكَ قَدْ جَاءُونِي، فَقَالُوا لِي كَذَا وَكَذَا، لِلَّذِي كَانُوا قَالُوا لَهُ، فَأَبْقِ عَلَيَّ وَعَلَى نَفْسِكَ، وَلَا تُحَمِّلْنِي مِنْ الْأَمْرِ مَا لَا أُطِيقُ، قَالَ: فَظَنَّ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَنَّهُ قَدْ بَدَا لِعَمِّهِ فِيهِ بَدَاءٌ، أَنَّهُ خَاذِلُهُ وَمُسْلِمُهُ، وَأَنَّهُ قَدْ ضَعُفَ عَنْ نُصْرَتِهِ وَالْقِيَامِ مَعَهُ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا عَمُّ، وَاَللَّهِ لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي يَمِينِي، وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ، أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ، مَا تَرَكْتُهُ»). [سيرة ابن هشام/ ج . 1/ ص 266].

2 – وروى ابنُ إسْحَاقَ بِسَنَدِهِ عَنْ عُمَرَ قَالَ: (لَمَّا أَسْلَمْتُ تَذَكَّرتُ أَيُّ أَهلِ مَكَّةَ أَشَدُّ لِرَسولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ – عَدَاوَةً . قُلْتُ: أَبو جَهْلِ، فَأَتَيْتُ حَتى ضَرَبْتُ عَلَيهِ بَابَهُ فَخَرجَ إِلَيَّ وَقَال: أَهْلًا أَهْلًا وَسَهلًا، مَا جَاءَ بِكَ؟ قَالَ: جِئْتُ لِأُخبِرَكَ أَنِّي قَدْ آمَنْتُ بِاللَّهِ وَبِرَسولِهِ مُحَمَّدٍ، وَصَدَّقتُ بِمَا جَاءَ بِهِ. قَال: فَضَرَبَ البَابَ فِي وَجْهِي، وَقَال: قَبَّحَكَ اللَّهُ، وَقَبَّحَ مَا جِئْتَ بِهِ… وَذَكَرَ ابْنُ الجَوزِيِّ مُختَصَرًا وَابنُ هِشَامٍ كَذَلِكَ: أَنَّهُ لَمَّا أَسْلَمَ أَتَى إِلى جَمِيلِ بنِ مُعَمَّرِ الجُمَحِيِّ – وَكَانَ أَنقَلَ قُرَيشٍ لِحَدِيثِهِ – فَأَخبَرَهُ أَنَّهُ أَسْلَمَ، فَنَادَى جَميلُ بِأَعلَى صَوتِهِ أَنَّ ابْنَ الخَطَّابِ قَد صَبَأَ. فَقَال عُمَرُ – وَهُوَ خَلفَهُ: كَذَبَ؛ وَلَكِنِّي قَد أَسْلَمتُ، فَثَارُوا إِلَيهِ، فَمَا زَالَ يُقَاتِلُهُم وَيُقَاتِلونَهُ حَتَّى قَامَتْ الشَّمسُ عَلَى رُؤوسِهِم، وَطَلحَ – أَي أعيا  – عُمَرُ، فَقَعَدَ، وَقَامُوا عَلَى رَأْسِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: افْعَلُوا مَا بَدَا لَكُم، فَأَحلِفُ بِاللَّهِ أَنْ لَو كُنَّا ثَلاثَ مِائةَ رَجُلٍ، لَقَد تَرَكنَاهَا لَكُمْ أَو تَرَكتُمُوهَا لَنَا) [المنهج الحركي للسيرة النبوية/ منير الغضبان/ ص 81].

3 – جاء عند ابن كثير: (فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَدْعُوكُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنْ تؤوونى وَتَنْصُرُونِي حَتَّى أُؤَدِّيَ عَنِ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَنِي بِهِ، فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ تَظَاهَرَتْ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ، وَكَذَّبَتْ رَسُولَهُ، وَاسْتَغْنَتْ بِالْبَاطِلِ عَنِ الْحَقِّ، وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ»… فَقَالَ لَهُ هَانِئٌ: قَدْ سَمِعْتُ مَقَالَتَكَ يَا أَخَا قُرَيْشٍ، وَصَدَّقْتُ قَوْلَكَ، وَإِنِّي أَرَى أَنَّ تَرْكَنَا دِينَنَا وَاتِّبَاعَنَا إِيَّاكَ عَلَى دِينِكَ لِمَجْلِسٍ جَلَسْتَهُ إِلَيْنَا، لَيْسَ لَهُ أَوَّلُ وَلَا آخِرٌ، لَمْ نَتَفَكَّرْ فِي أَمْرِكَ وَنَنْظُرْ فِي عَاقِبَةِ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ، زَلَّةٌ فِي الرَّأْيِ، وَطَيْشَةٌ فِي الْعقل، وَقِلَّةُ نَظَرٍ فِي الْعَاقِبَةِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الزَّلَّةُ مَعَ الْعَجَلَةِ، وَإِنَّ مِنْ وَرَائِنَا قَوْمًا نَكْرَهُ أَنْ نَعْقِدَ عَلَيْهِمْ عَقْدًا. وَلَكِنْ تَرْجِعُ وَنَرْجِعُ وَتَنْظُرُ وَنَنْظُرُ. وَكَأَنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَشْرَكَهُ فِي الْكَلَامِ الْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ فَقَالَ: وَهَذَا الْمُثَنَّى شَيْخُنَا وَصَاحِبُ حَرْبِنَا. فَقَالَ الْمُثَنَّى: قَدْ سَمِعْتُ مَقَالَتَكَ وَاسْتَحْسَنْتُ قَوْلَكَ يَا أَخَا قُرَيْشٍ، وَأَعْجَبَنِي مَا تَكَلَّمْتَ بِهِ، وَالْجَوَابُ هُوَ جَوَابُ هَانِئِ بْنِ قَبِيصَةَ، وَتَرْكُنَا دِينَنَا وَاتِّبَاعُنَا إِيَّاكَ لِمَجْلِسٍ جلسته إِلَيْنَا، وَإِنَّا إِنَّمَا نزلنَا بَين صريين، أحدهما الْيَمَامَة، وَالْآخر السماوة. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا هَذَانِ الصريان؟» فَقَالَ لَهُ: أَمَّا أَحَدُهُمَا فَطُفُوفُ الْبَرِّ وَأَرْضُ الْعَرَبِ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَأَرْضُ فَارِسَ وَأَنْهَارُ كِسْرَى، وَإِنَّمَا نَزَلْنَا عَلَى عَهْدٍ أَخَذَهُ عَلَيْنَا كِسْرَى أَنْ لَا نُحْدِثَ حَدَثًا، وَلَا نُؤْوِيَ مُحْدِثًا، وَلَعَلَّ هَذَا الْأَمْرَ الَّذِي تَدْعُونَا إِلَيْهِ مِمَّا تَكْرَهُهُ الْمُلُوكُ، فَأَمَّا مَا كَانَ مِمَّا يَلِي بِلَادَ الْعَرَبِ فَذَنْبُ صَاحِبِهِ مَغْفُورٌ، وَعُذْرُهُ مَقْبُولٌ، وَأما مَا كَانَ مِمَّا يَلِي بِلَادَ فَارِسَ فَذَنَبُ صَاحِبِهِ غَيْرُ مَغْفُورٍ، وَعُذْرُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ. فَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ نَنْصُرَكَ وَنَمْنَعَكَ مِمَّا يَلِي الْعَرَبَ فَعَلْنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «مَا أَسَأْتُمُ الرَّدَّ إِذْ أَفْصَحْتُمْ بِالصِّدْقِ، إِنَّهُ لَا يَقُومُ بِدِينِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ حَاطَهُ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ») [البداية والنهاية/ ج 2/ ص 168].

      لا يحتاج المرء إلى كثير نظر وتدبر فيما سبق سرده أعلاه، حتى يتبين له منهجية الإسلام في التغيير، وطريقته في انتزاع إرادة المسلمين وسيادتهم المفقودة في أيامنا التي نعيش. ففي المثال الأول ردَّ رسول الله – صلوات ربي وسلامه عليه – كفار قريش خائبين عندما عرضوا عليه المال والجاه والسلطان لقاء تخليه ولو جزئيًا عن دعوته… وفي المثال الثاني، أوغرت قوة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – صدر أبي جهل، وأثارت حنق كفار قريش الذين انهالوا عليه ضربًا؛ لأنهم شاهدوا القوة والعزة في موقفه، وهو الذي لم يمضِ على إسلامه إلا سويعات، بل وأكثر من ذلك، انظر إلى قوله رضي الله عنه: (افْعَلُوا مَا بَدَا لَكُم، فَأَحلِفُ بِاللَّهِ أَنْ لَو كُنَّا ثَلاثَ مِائةَ رَجُلٍ لَقَد تَرَكنَاهَا لَكُمْ أَو تَرَكتُمُوهَا لَنَا… ). وفي المثال الثالث، حيث عرض الرسول – صلى الله عليه وسلم – نفسه ودعوته على (بني وائل بن شيبان) لينصروه ويمنعوه، أي ليكونوا شوكة الإسلام ودولته. نرى كيف أنه – عليه الصلاة والسلام – رفض نصرتهم المنقوصة، وذلك عندما وافقوا على نصرته على العرب وعلى كل من يلي مياههم، ورفضوا أن ينصروه على الفرس؛ لأن بينهم وبين الفرس عهودًا ومواثيق تمنعهم من أن يخالفوها. فكان رد الرسول – صلى الله عليه وسلم – واضحًا فاصلًا: (فَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ نَنْصُرَكَ وَنَمْنَعَكَ مِمَّا يَلِي الْعَرَبَ فَعَلْنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَسَأْتُمُ الرَّدَّ إِذْ أَفْصَحْتُمْ بِالصِّدْقِ، إِنَّهُ لَا يَقُومُ بِدِينِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ حَاطَهُ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ»).

      والآن نصل إلى مخرجات هذا البحث، والتي قدَّمنا لها كل ما سبق تقديمه من أجل بلورتها والوصول إليها؛ وذلك رفعًا للخلاف الذي تعدد في أوساط العمل السياسي في بلاد المسلمين، وتعددت بتعدده مناهج التغيير الساعية لاسترداد إرادة الأمة المفقودة. فكان منها مناهج لم تقم أصلًا على أساس الإسلام، كالدعوات القومية والوطنية والبعثية…- وهذه لا تعنينا كثيرًا – ومنها ما قام على أساس الإسلام على غير بصيرة في الفكر والعمل والغاية – وهذا موضوع البحث – ولعل وضع هذه المناهج اليوم على طاولة البحث أمر بات أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى؛ لأن التخبط في العمل لدى كثير إن لم يكن جل الحركات الإسلامية التي تتبنى منهجًا معينًا للتغيير كَلَّف أتباع هذه الحركات والمسلمين معهم خسائر فادحة في الأرواح؛ وأدى إلى إطالة عمر الصراع بين أفكار الإسلام وأفكار الكفر؛ وإطالة عمر الباطل حتى انتفش وعربد في الأرض طولًا وعرضًا.

      إن مما لا يختلف عليه مسلمان، أن المسلمين اليوم، ومنذ هدم الخلافة، بلا سيادة ولا إرادة، وليس أدل على ذلك من عجزهم عن القضاء على كيان يهود المسخ إلى يومنا هذا، هذا الكيان اللقيط الذي لا يحتاج لأكثر من جولات حربية حقيقية لأيام معدودات، تجعل منه أثرًا بعد عين، فيذوب كما يذوب الملح وكأنه لم يكن بالأمس كيانًا يحتل البلاد، ويُدنس المقدسات، وينتهك الحرمات.

      إذًا، فكون المسلمين اليوم بلا إرادة سياسية، وبلا خلافة إسلامية تجسد هذه الإرادة، فهذا مما لا خلاف عليه، ولا يضر أن يُسمع أصوات نشاز هنا وهناك تعارض هذا القول، فتلك أصوات لا يؤبه بها ولا يُلتفت إليها. ولعل ذلك يساعد في جمع الكلمة حول طريقة ومنهجية واحدة، تُتَّخذ أساسًا للعمل من أجل تغيير واقع المسلمين، والخروج به من ذل التبعية للكافر المستعمر إلى عزة الإسلام ومَنَعةِ دولة الإسلام.

      قلنا إن طريقة الإسلام في إيجاد الإرادة السياسية أو استردادها في حال فقدانها – كحال المسلمين اليوم – طريقة ثابتة، وثباتها آتٍ من جهة النصوص الشرعية الدالة عليها؛ لأن الطريقة أحكام شرعية لا تقبل التغيير ولا التبديل، فهي ليست مما يتغير بتغير الزمان والمكان، والذي يتغير هو الأساليب والوسائل فقط لا غير. أما الطريقة، فإن الحديث عن تغيرها بتغير الزمان والمكان فيه هدم للإسلام، وهدم لأركانه.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *