العدد 368 -

السنة الثانية والثلاثين – رمضان 1438هـ – أيار / حزيران 2017م

الرخصة والعزيمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الرخصة والعزيمة

 

لاشك أن موضوع الرخصة والعزيمة موضوع أصولي يتناوله علماء الأصول شرحًا وتعريفًا كما يتناوله علماء الفقه في الاستدلال على الأحكام. وإن الذي يدفع لطرح هذا الموضوع هو ما تمر به ساحتنا الإسلامية من ضعف وتشرذم من جهة، ومن عدوان شرس من أعدائها من جهة أخرى. وبما أن المواجهة حاصلة والمعركة حتمية فهل يوجد فسحة للترخص في هذه المعركة؟

كان ذلك الدافع الرئيس لبحث موضوع الرخصة، وكان من الأبحاث الأصيلة في الفقه والضرورية في الحياة، وفيه فائدة عظيمة جليلة تساعد على استكمال الوعي على الصعوبات التي تعترضنا في طريق التغيير المنشود.

المحور الأول: التعاريف والمصطلحات:

إن التعريف بالمصطلحات الواردة في أي بحث، هو من المقدمات اللازمة فيه. والمصطلحات تحتاج إلى تحديد معانيها وبيان حدودها؛ وخصوصًا المصطلحات الغامضة التي لم تصل مرتبة الشيوع، أو تلك المصطلحات التي لها معانٍ متعددة، فبيان الباحث للمعنى الذي يقصده في المصطلح ضروري لحصول الاتفاق على مفهوم محدد ومعلوم…

تترادف كلمة «مصطلح» و”اصطلاح” في اللغة العربيّة، وهما مشتقتان من”اصطلح”  بمعنى: «اتفق”؛ لأنّ المصطلح أو الاصطلاح يدلُّ على اتفاق أصحاب تخصص ما على استخدامه للتعبير عن مفهوم محدد لديهم، وقيل: إخراج الشيء عن المعنى اللغوي إلى معنى آخر لبيان المراد. «والمصطلحات هي مفاتيح العلوم» على حد تعبير الخوارزمي، وقد قيل: إن فَهم المصطلحات نصف العِلم؛ وفي هذا العصر الذي أصبح يوصف بأنه”مجتمع المعلومات”، أو “مجتمع المعرفة”، فإن الشبكة العالمية للمصطلحات في فيينا بالنمسا اتَّخذت شعار «لا معرفة بلا مصطلح”؛ لذلك نبدأ ببحث بعض التعريفات الضرورية المتعلقة بموضوع المحاضرة.

أصول الفقه: الأصل في اللغة هو ما يُبتَنى عليه، سواء أكان الابتناء حسّيًّا كابتناء الجدران على الأساس، أم عقليًا كابتناء المعلول على العلّة، والمدلول على الدليل. فأصول الفقه هي القواعد التي يُبتنى عليها الفقه. أمّا الفقه فهو في اللغة الفهم، ومنه قوله تعالى: (مَا نَفۡقَهُ كَثِيرٗا مِّمَّا تَقُولُ)، وفي عُرف المتشرّعين الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المستنبَطة من الأدلة التفصيلية.

الاجتهاد: في اللغة هو استفراغ الوسع في تحقيق أمر من الأمور مستلزم للكلفة والمشقة. وأما في اصطلاح الأصوليين فمخصوص باستفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يُحس من النفس العجز عن المزيد فيه.

الحكم الشرعي: هو خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع. والشارع هو الله تعالى، وخطاب الشارع يعني خطاب الله.

وبذلك يكون تعريف الحكم الشرعي بأنه خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد جامعًا مانعًا. فهو بقوله بالاقتضاء أو التخيير قد شمل الأحكام الخمسة وهي: الواجب والمندوب والحرام والمكروه والمباح، وبقوله بالوضع قد شمل ما كان سببًا، وما كان مانعًا، وما كان شرطًا، وما كان صحيحًا وباطلًا وفاسدًا، وما كان رخصةً وعزيمةً.

الأدلة الشرعية: الدليل لغة بمعنى الدال، وقد يُطلَق الدليل على ما فيه دلالة وإرشاد، وقد عرّفه علماء الأصول بأنه الذي يمكن أن يُتوصل بصحيح النظر فيه إلى العلم بمطلوب خبري. وبعبارة أخرى هو الذي يُتخذ حُجة على أن المبحوث عنه حكم شرعي. والأدلة الشرعية هي أصول الأحكام الشرعية، فهي قطعية لا ظنية.

أما الدليل التفصيلي فهو عند أهل الأصول الأمارة:  وهي التي يلزم من العلم بها الظن بوجود المدلول، كالغيم بالنسبة إلى المطر، فإنه يلزم من العلم به الظن بوجود المطر. وكل دليل شرعي إما أن يدل على الحكم دلالة قطعية أو ظنية، ويستوي في الأخذ به في الأحكام من جهة ثبوته، سواء أكان قطعيًا أم ظنيًا.

العزيمة والرخصة

العزيمة: في اللغة عبارة عن الإرادة المؤكدة، قال الله تعالى: (وَلَمۡ نَجِدۡ لَهُۥ عَزۡمٗا )أي لم يكن له قصد مؤكد في فعل ما أُمر به. أما في الاصطلاح، فالعزيمة هي ما شُرِّع من الأحكام تشريعًا عامًا وألزم العبد بالعمل به. أي ما شرعه الله أصالةً من الأحكام العامة التي لا تختص بحال دون حال، ولا بمكلف دون مكلف، أي هي حكم عام، وهي الحكم الأصلي كفرض الصلاة والحج وفرض الجهاد وحرمة الميتة.

الرخصة في اللغة هي: اليسر والسهولة، أما في الاصطلاح، فهي ما شُرِّع من الأحكام تخفيفًا للعزيمة لعذرٍ مع بقاء حكم العزيمة. أي هي ما شرعه الله تعالى من الأحكام تخفيفًا على المكلف في حالات خاصة. وقيل هي استباحة المحظور بدليل، مع قيام دليل الحظر. وهي حكم جاء مانعًا من استمرار الإلزام بالحكم الأصلي.

والرخصة حتى تعتبر رخصة شرعًا لا بد أن يدل عليها دليل شرعي؛ لأنها حكم شرعه الله لعذر، فلا بد أن يدل عليه دليل شرعي. وهي خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد بالوضع. وما دامت هي نفسها خطاب الشارع، فلا بد أن يكون هناك دليل شرعي يدل عليها. فالعَمى والعَرج والمرض أعذار في القعود عن الجهاد، قال تعالى: (لَّيۡسَ عَلَى ٱلۡأَعۡمَىٰ حَرَجٞ وَلَا
عَلَى ٱلۡأَعۡرَجِ حَرَجٞ وَلَا عَلَى ٱلۡمَرِيضِ حَرَجٞ). والسفر عذر في الإفطار في رمضان، قال تعالى: (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَ). والنسيان والخطأ والإكراه أعذار تَرفَع الإثم إذا وقع صاحبها في محرّم، قال عليه الصلاة والسلام: «رُفع عن أمّتي الخطأ والنسيان وما استُكرِهوا عليه». والجهل فيما يُجهَل مثلُه على مثلِه عذر، لأن الرسول سمع معاوية بن الحكم يشمّت عاطسًا وهو في الصلاة، فبعد أن فرغوا من الصلاة علّمه الرسول أن الكلام يُبطِل الصلاة، ولم يأمره بإعادة الصلاة.

وباستقراء النصوص الشرعية التي دلت على الرخص، نرى أنها دلت على أعذار معينة لأحكام معينة، وما لم يَرِد فيه دليل لا قيمة له، ولا يعتبر عذرًا شرعيًا مطلقًا.

وهذه الأعذار اعتُبرت أعذارًا لذاتها لا لما فيها من علّة؛ فلا تعلَّل لأن الشرع لم يعللها؛ ولهذا لا تؤخذ الرخصة في السفر حالة المشقة فقط، ولا يعلل السفر بالمشقة؛ ولذلك يقصر المسافر مسافة القصر ولو سافر بطائرة، ولا يقصر المسافر دون مسافة القصر ولو سافر في شدة الحر في الصحراء.

إذن الرخصة هي ما شرعه الله تعالى من الأحكام تخفيفًا على المكلف في حالات خاصة. أو هي استباحة المحظور بدليل، وهي أعذار بذاتها لا تعلل، أمّا من حيث العمل بالرخصة أو بالعزيمة، فللمكلف أن يختار العمل بأيهما شاء وهذا مباح له، فله أن يعمل بالرخصة، وله أن يعمل بالعزيمة؛ وذلك لأن نصوص الرخص دالة على ذلك، قال تعالى: (فَمَنِ ٱضۡطُرَّ فِي مَخۡمَصَةٍ
غَيۡرَ مُتَجَانِفٖ لِّإِثۡمٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ)، وقال: (فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِ)، فجعل الرخصة في رفع الإثم عن الأكل وهو الإباحة، وغفر له فِعله وهو الإباحة. وقال تعالى: (فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَقۡصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَوٰةِ)، ورَفْع الجناح يعني الإباحة. وقال تعالى: (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ) وهو الإباحة. فأدلة الرُخص نفسها تعطي الإباحة وليس الوجوب أو الندب.

وروى مسلم عن حمزة بن عمرو الأسلمي أنه قال: «يا رسول الله، أجِد مني قوة على الصوم في السفر، فهل عليّ جُناح؟ فقال: هي رخصة من الله تعالى، فمن أخذ بها فحَسَن، ومن أحبَّ أن يصوم فلا جناح عليه»، فهذه النصوص تدل دلالة صريحة على أن الرخصة مباحة، هي والعزيمة، فله أن يأخذ بأيهما شاء.

وقد يقال إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يُحِب أن تؤتى رُخَصه كما يحب أن تؤتى عزائمه» وهذا طلب، وهو دليل على أنه مندوب، والمضطر إذا خاف الهلاك على نفسه وجب عليه أكل لحم الميْتة ويحرم عليه الامتناع عن أكلها، والصائم إذا بلغ به الجهد حد الهلاك يجب عليه أن يفطر ويحرم عليه أن يظل صائمًا ويهلك، وهكذا، مما يدل على أن العمل بالرخصة فرض. ولذلك قد تكون الرخصة فرضًا، وقد تكون مندوبًا، وقد تكون مباحًا.

والجواب على ذلك هو أن الكلام في الرخصة من حيث هي رخصة، مباحة قطعًا، بدليل الأدلة السابقة، فالرخصة من حيث تشريعها حكمها الإباحة. وأمّا قول الرسول: «إن الله يُحِب أن تؤتى رُخَصه… « الحديث، فليس في الحديث دلالة على الندب، بل هو يدل على الإباحة؛ لأنه يبيّن أن الله يُحب أن تؤتى الرخص ويُحب أن تؤتى العزائم، وليس طلب أحدهما بأوْلى من طلب الآخر، ولذلك لا دلالة في الحديث على أن العمل بالرخصة قد يكون مندوبًا.

وأمّا أكل لحم الميْتة للمضطر الذي يتحقق الهلاك، يكون له الأكل واجبًا؛ لأنه إذا تحقق الهلاك ولم يأكل مات؛ فحينئذ حرِّم عليه أن يمتنع عن الأكل ووجب عليه أن يأكل، وهذا ليس لأنه رخصة بل لأن العمل بالعزيمة وهو الامتناع عن الأكل صار حرامًا عملًا بالقاعدة الشرعية «الوسيلة إلى الحرام حرام»، فعمل العزيمة هنا صار حرامًا فيصبح العمل بالرخصة واجبًا لسبب عارِض وهو تحقق الهلاك، وهذا ليس حكم الرخصة من حيث هو، بل حالة من الحالات التي تنطبق عليها قاعدة «الوسيلة إلى الحرام حرام». وهذا ليس خاصًا بالرخصة، بل هو عام لجميع المباحات. أما إذا خاف الهلاك فإنه يعتبر اضطرارًا، وهذا له أن يأكل عملًا بالرخصة، وله أن يمتنع عملًا بالعزيمة ولكن دون حد تحقق الهلاك.

مثالٌ آخر لتوضيح القضية:

ما يحصل من توقع الأذى في حمل الدعوة إلى الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدع بالحق، وهو واجب من الواجبات، وهو أصل الحكم أي العزيمة، وفيها توقع الأذى وليس وقوعه، مصداقًا لقوله تعالى (وَٱلۡعَصۡرِ ١ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَفِي خُسۡرٍ ٢ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلۡحَقِّ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلصَّبۡرِ ٣)، وقوله تعالى في وصية لقمان لابنه وهو يعظه: (يَٰبُنَيَّ أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ وَأۡمُرۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَٱنۡهَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَٱصۡبِرۡ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ١٧ ). والتواصي بالصبر بعد التواصي بالحق وبعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمارة على احتمال وقوع الأذى على الداعية وعلى المبلغ، وهو راجح مع أهل الظلم والطغيان، هذا من جهة، ولكن فيه الصبر على الأذى وهو حض على أداء الواجب وتحدي الضلال والفساد ليسود الهدى والعدل والقسط حتى لو كان في الأخذ بالعزيمة تلفٌ للنفس.

وقد بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم أن رجلين هددهما المشركون بالقتل، فامتنع أحدهما عن النطق بالكفر ونطق الآخر. فقال فيمن امتنع: «هو أفضل الشهداء ورفيقي في الجنة».

وقال صلى الله عليه وسلم في أهل العزيمة: «سيد الشهداء حمزة ورجل قام الى إمام جائر فنصحه فقتله».

وهذا الحضُّ مع مافيه من عظيم الثواب لا يلغي الرخصة لمن ينطق بكلمة الكفر تحت حدّ السيف؛ فإنه يجوز له ذلك عملًا بقوله تعالى: (إِلَّا مَنۡ أُكۡرِهَ وَقَلۡبُهُۥ مُطۡمَئِنُّۢ بِٱلۡإِيمَٰنِ) كما فعل عمار بن ياسر وقد سأله الرسول: «ما وراءك يا عمار؟ فقال: شرٌّ يا رسول الله، ما تركوني حتى نِلْتُ منك وذكرت آلهتهم بخير. قال: كيف وجدتَ قلبك؟ قال: مطمئنًا. فقال «وإن عادوا فعُدْ» وهو يدل على الترخص في حالة وقوع الاستكراه وليس توقعه، وهو للأفراد وليس للعموم.

فلا تترك الأمة وعموم أهل العزم وخصوصًا العلماء وقادة الناس قول الحق وحمل مشعل التغيير، بل يصبرون على الأذى ويتحملون كل بطش كما قال عليه الصلاة والسلام لياسر وسمية «صبرًا آل ياسر، فان موعدكم الجنة». حيث طلب منهم العزيمة ليكونوا نبراسًا ومثلًا يحتذى لإخوانهم. ونؤكد بأن هذا لا يعني فرضيتها، بل أراد عليه الصلاة والسلام ترويض أصحابه على العذاب والمشقة في سبيل هذا الدين، وتعليم الأمة من بعدهم الصبر على الأذى والثبات. وعليه فالذي يأخذ بالرخصة هو من وقع عليه الإكراه أو المخمصة. فالإكراه الملجئ ضرورة، والجوع الملجئ ضرورة. وله أن يأخذ بالرخصة.

أما الإكراه غير الملجئ أو الجوع غير الملجئ فليسا بضرورة. ولا يكون ملجِئًا إلا إذا ظن الفردُ أنه ستتلف نفسه أو يتلف عضو منه. ولا يشترط اليقين والقطع؛ إذ يكفي أن يظن الهلاك أو هلاك العضو؛ فعندها تحصل الرخصة في ترك الواجب أو ارتكاب الحرام.

فالضرورة مقاربة هلاك النفس أو العضو، والحاجة ما دون ذلك مما يصاحبه الجهد والمشقة، إلا أنها لا تقارب الهلاك. فهل تنزل الحاجة منزلة الضرورة بمعنى أنها تبيح الحرام؟

المحور الثاني، وهو خطورة الانحراف عن التعاريف وعن الضوابط:

هذه الخطورة تكمن في تجاوز الحكم الشرعي وأدلته وأماراته، مما يعني معالجة النازلة أو الواقع بغير الشرع ،هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى تفويت الفرصة على إنزال المعالجة الشرعية الواجبة بالحكم الشرعي الواجب على الواقع، ومنه البقاء في المرض أو الفساد، بل ربما ننتقل من مرض بسيط إلى أمراض خطيرة، ومن واقع فاسد يسهل إصلاحه إلى واقع منحط تتعدد مفاسده.

إن إنزال الحاجة منزلة الضرورة هو خلط بين واقعين مختلفين، تنبني عليهما أحكام مختلفة تحلُّ الحرام وتورد المهالك، فقد يقول البعض إن الحاجة تبيح ما كان حرامًا كما أباحته الضرورة، وهذا ليس بصحيح. ونتج عن هذا الانحراف فتاوى خاطئة؛ فأباحوا للمحتاج لشراء بيت وهو قادر على سكنى بيت بالأجرة، أباحوا له أن يأخذ قرضًا بالربا لشراء البيت، والمحتاج لدفع أقساط جامعية لأولاده أباحوا له الربا، والمحتاج إلى الدراسة في كلية الشريعة، ومعدله دون المعدل المطلوب، عند نظام الأسد، أباحوا له أن يدخل حزب البعث العلماني الكافر، والمحتاجة إلى العمل أو الدراسة في مكان يشترط كشف الرأس أباحوا لها ذلك، والمحتاج إلى العمل في أجهزة المخابرات أباحوه له، وهكذا، وقع الكثير في الحرام وصار الكثير من أبناء المسلمين الملتزمين في خدمة الفساد ودعم المفسدين وهم يظنون بفتاوى غريبة عجيبة أن لهم رخصة شرعية، وماهي برخصة بل هي انحراف عن المفهوم الشرعي للرخصة وللضرورة.

هذه أمثلة عن حاجات فردية وقع الانحراف بها وأوردت النار، وهناك حاجات عامة، فإذا احتاجت السعودية إلى إنزال قوات أميركية لحمايتها من صدام أفتوا لها بذلك، وإن احتاجت مصر لبناء اقتصادها بالقروض الربوية من بنوك الاستعمار فلها ذلك، وإذا احتاج المسلمون في سوريا إلى الخلاص من طاغية الشام ونفوذ إيران طلبوا التدخل من الأمم المتحدة داعمة النظام وحليفه، ويطالب المتسلقون بتنفيذ قرارات مجلس الأمن، فيفتيهم المفتونون ويجيزون لهم ذلك، فهذه كلها حاجات عامة، أنزلها علماء السلاطين ومن تابعهم من قصيري النظر منزلة الضرورة، وهي ليست كذلك، ومنه نتج عن هذا الانحراف اقتراف الموبقات والمحرمات، وانتقلت السعودية من حالة الخوف من صدَّام الى حالة الرعب من إيران، وانتقل أهل الشام من ثورة للخلاص من نظام بشار المجرم إلى ثورة للخلاص من بشار وأتباعه وتجار الدم وروسيا وأميركا وصنائع الاستعمار الجدد في جنيف وفيينا وموسكو والقاهرة والرياض وآخرها الآستانة وما خفي أعظم.

المحور الأخير: أمثلة عن  الرخصة والعزيمة في الثورة السورية: ولأخذ العبرة والأمثلة من الثورة السورية المباركة، تأملت فيها فوجدت منها المنزلقات القاسية المؤلمة ومنها الانحرافات اليسيرة التي تمر دون بالغ أثر إلا أن ينبه عليها في مجالس العلم ومع من يقع فيها، ولذلك نركز على المهم مثالًا للفائدة لا تعميمًا:

وعليه نقول إن بقاء قسم كبير من المسلمين في سوريا تحت سيطرة مليشيات النظام عسكريًا أمر واقع، وهي قوة عدوان غاشمة، والناس بين يدي هذه المليشيات في حكم الأسرى، حالهم كحال أهلنا في فلسطين أو في كشمير أو ميانمار، ونسأل الله أن يعجل الفرج على الجميع. ولكن المشكلة هي: لماذا غاب الخطاب الشرعي عن أهل الثورة من المسلمين في مناطق النظام إلا ما رحم ربك؟! والمصيبة الكبرى، لماذا بقي عدد كبير من المسلمين جنودًا لدى النظام؟! والسؤال الأخير لماذا تمضي جرائم النظام العسكرية والسياسية والتهجير والتغيير الديمغرافي بحقهم وبحق المناطق المحررة دون أي خوف أو وجل من غضبة حق في المناطق المسيطر عليها أو خارج السيطرة؟! أقول إن الفاجعة كبيرة عندما يُقتل المسلمون بأيدي أبناء المسلمين حتى ولو كانوا كارهين، والمصيبة الكبرى أن يُقتل المسلمون في حياد مسلمين آخرين ولو كانوا أسرى.

كثيرة هي الأوجاع، وها نحن ننتقل من مصيبة إلى مصيبة، ومن فساد إلى فساد… لماذا؟ لأن المعالجة لم تكن شرعية، ولأننا تكلمنا بالرخصة وتمادينا بها دون الكلام عن العزيمة والحض على التمسك بها.

والمثال الصارخ هو أنه تم بحث حكم انضمام أبناء المسلمين إلى جيش الأسد اختيارًا منهم، واعتبر ذلك حرامًا، بل أفتى البعض بوجوب الانشقاق عن جيش النظام، وهذا في ظاهره جيد. وتم بحث حكم إكراه أبناء المسلمين وإجبارهم على الالتحاق بجيش النظام، واعتبر الإكراه رخصة، وأفتوا به دون ارتكاب الحرام، أي دون القيام بعمليات عسكرية ضد الناس وهذا ظاهره جيد.

والذي تم إهماله في هذه الحالة هو حكم العزيمة الذي يبقى، ويبقى الأخذ به هو طوق النجاة لهذه الثورة.

أما حكم العزيمة في حق الضباط والجنود الموجودين أصلًا ضمن قوات النظام فهو وجوب التفكير والتخطيط والإعداد للقيام بانقلاب عسكري يطيح برأس النظام؛ وذلك قبل الانشقاق والخروج إلى سجن الضباط في مخيمات الأردن وتركيا، وكان الواجب عليهم أن يستفرغوا وسعهم بالإعداد والعمل مع المخلصين من أبناء الثورة لتنفيذ ذلك الانقلاب وحسم الأمر قبل أن توضع الثورة والناس في مواجهة الجيش، وقبل الانشقاق الذي كان ظاهره جيدًا، ولكن في حقيقته أنه طهر جيش الأسد من كل الضباط الذين عندهم قابلية التمرد وعندهم الجرأة على مناصرة الثورة.

ولذلك ظهرت في بداية الثورة موجة تشجيع وتحميس على الانشقاق، أي على الرخصة قبل أن تكون هناك ضرورة ملجئة، وحتى قبل أن تكون هناك حاجة ملجئة بحسب فتوى البعض، فكان التشجيع مع الأسف من وسائل الإعلام، وأكل الطعم بعض المشايخ والخطباء المتصدرين للفتوى، وماذا كانت نتيجة انشقاق الضباط؟ كانت النتيجة إما تحطيمهم وتحطيم معنوياتهم في مخيمات اللجوء في الخارج، وإما بالإجهاز على هؤلاء الضباط المخلصين الطيبين وإعدامهم مهنيًا في الداخل بعدم تقديمهم وعدم إعطاء الفرصة لهم لتشكيل جيش يقابل جيش النظام، وإدارة معركة في مواجهة الطغيان والعدوان العالمي.

إذًا، تأخير بيان العزيمة في العمل العسكري من داخل جيش النظام، بل عدم بيانها أصلًا مع التوسع في الرخصة لغير المضطرين، فوت الفرصة السانحة للتخلص من عصابة الأسد المجرمة وأزلامه، وتأخر الإنجاز للثورة، وتعقدت المشكلة أكثر فأكثر.

أما حكم الجنود من أبناء المسلمين الذين تم سحبهم إلى الخدمة قسرًا وقتل كثير منهم ضمن صفوف النظام، فلا نعلم من منهم عطل سلاحه أو تجنب العمليات القتالية، ومن منهم شارك بدعوى الاضطرار، وإثمه وعقابه عظيم عند الله. وهذه الكارثة ماكانت لتكون بمثل هذه الفظاعة لو كان خطاب العزيمة في حكم الأصل في قتال المعتدين الصائلين هو الطاغي على الساحة وهو المطلوب من هؤلاء، وهو في حكم هؤلاء أن يديروا سلاحهم إلى ضباط الأسد وشبيحته، وأن يقتلوا منهم ويقاتلوا في غرف عمليات العدو وفي معسكراتهم وفي مقراتهم، فواجب قتال الصائل المعتدي يسعهم كما يسع الجيش الحر، وهو حكم الأصل وهو العزيمة. كم هي فرصة كبيرة تم تفويتها على الثورة عندما أمَّن النظام صفوفه من هكذا هزات وزلازل تصيبه وتصيب شبيحته في عقر دارهم.

إن الكم الغفير الذي يقاتلنا اضطرارًا من أبناء المسلمين لا يقارن أبدًا بحالات امتناع عن القتال قليلة جدًا فضلًا عن أن يكون تمردًا حقيقيًا ومقتلة ونكاية في جنود النظام.

وهكذا وُضع أبناء المسلمين تحت تشويش الضرورة قبل أوانها من جهة، والرخصة في الاستعجال للانشقاق وترك الساحة من جهة أخرى، والقبول بالعمل في جيش النظام تحت بند الاستكراه من جهة ثالثة، وغاب حكم الأصل في القتال وأفضليته في الجهاد والاستشهاد في سبيل الله.

أما عموم المسلمين المدنيين في مناطق النظام فإن حكم العزيمة في قتال الطاغية ومحاسبته ومقاطعته وممانعته والأخذ على يديه، حتى أعمال التخريب للمرافق الحيوية التي تُشغل النظام وتنهكه غابت عن ثورة عظيمة كثورة الشام التي تواجه العالم وتتحدى أميركا وروسيا، غاب كل هذا وتعطلت تلك الفرص وضاعت لغياب خطاب التكليف الشرعي وهو خطاب العزيمة، وظهور خطاب الرخصة والتبرير بدلًا منه، وبالنتيجة صار بقية الشعب المسلم ألعوبة بيد النظام يسوقه للسجن تارة، ويسوقه للانتخابات تارة أخرى، ويهجره من أرضه، ويستجلب الغزاة، ويقوم بالتغيير الديمغرافي بمساعدة الأمم المتحدة، وهكذا نجح النظام فيمن تحت يديه من أهلنا، وفشلنا نحن فيمن هم لنا أعوان وأنصار وأهل بين ظهرانيه. إن ما أرشد إليه نبينا الأمين عليه صلاة الله وسلامه لنعيم بن مسعود الذي أسلم في يوم الخندق بقوله: «خذِّل عنا ما استطعت» وما فعلته عبقرية وعزيمة الجندي المسلم المصر على النصر والنجاح هو ما فرّق صفوف الأحزاب، وأشعل الخلاف بينهم، وأذهب كيدهم ومكرهم، وهو ما ينقصنا في هذه الثورة المباركة. هذه أمثلة مؤلمة مريرة لتأخير الخطاب عن أوانه، وتفويت الفرصة عن الأخذ بالعزيمة؛ لأن بها وحدها يتحقق الإنجاز ويندحر الأعداء.

أما غيرها من الأمثلة اليسيرة التي أضرت بالثورة ولا بد من علاجها فهو الترخص في أخذ أموال الأغنياء قهرًا للوازم الإعداد والقتال لهذا النظام المجرم، والترخص في بيوت وأموال الغائبين أو النازحين وعدم ضبطه تحت بند الضرورة الملجئة فقط، والانحراف إلى الحاجة وهي لا تسوغ مد اليد على المال المعصوم قبل استنفاذ كل السبل المشروعة لسد الحاجة، هذا كله أدى إلى وجود بعض الدخلاء والمجرمين والسارقين على تيار الثورة مما أساء للمخلصين وأفسد نقاء الصفوف؛ وهنا دعت الحاجة إلى المكاتب الأمنية وأمن الثورة، وإلى السجون وإلى غير ذلك من الأخطاء التي ولدت أخطاء ومظالم كنا في غنى عنها، لو كان الخطاب صحيحًا، وتم قصد أبواب التمويل الحلال، والأخذ بالعزيمة، والإصرار على الأغنياء للبذل والعطاء، وعندما يضيق ذلك في الداخل يطلب من أغنياء الأمة في الخارج. وهكذا تشترك الأمة كل الأمة في نصرة ودعم هذه الثورة المباركة.

ثم بلغ الانحراف في الرخصة في الحصول على الدعم من المال المعصوم والمال العام مبلغًا خطيرًا عندما تم بيع الثورة ولو بشكل غير مباشر بقبول المال الحرام والدعم الحرام من المال السياسي من غرف الاستخبارات في الموك، ومن الدول العميلة المرتبطة بأميركا وغيرها كالسعودية وتركيا وقطر… هذا المال السياسي المسموم الذي ساق البعض من قوى الثورة المخلصة الطاهرة لتتلطخ قياداتها بالإثم والعار إلى مؤتمر الآستانة، ومن قبله مؤتمر الرياض، ووضعهم على سكة الحل السياسي الأميركي الذي يثبت النظام ويقضي على الثورة.

نعم قد تتلطخ بعض القيادات المتسلقة، وقد تسقط، وقد تقتل عندما تفقد صلاحيتها، ولكن تبقى القوى بعموم أبنائها قوى الشام المخلصة الطاهرة التي تزداد وعيًا يومًا بعد يوم لتصبح على إشراقة مشروع الإسلام العظيم الذي يأخذها بالعزيمة الكاملة، وبأداء الواجب كاملًا غير منقوص إلى عز كامل غير منقوص، وعزيمة عزيزة، وفرحة كبيرة في إسقاط النظام كاملًا بكل أشكاله وصوره، واقتلاع النفوذ الأجنبي، وتطبيق الإسلام كاملًا غير منقوص. وهذا الأمل معقود بناصية دعوة الخير والنصح لأهل الخير، وبهمة أهل التغيير وأهل الرأي وأهل العزم من أبناء هذه الثورة المباركة:

عَلى قَدْرِ أهْلِ العَزْم تأتي العَزائِمُ       وَتأتي علَى قَدْرِ الكِرامِ المَكارمُ

وأختم أيها السادة بأن أصل أحكام الشريعة كلها عزائم، وسمَّى القرآن بعض الرسل بأولي العزم؛ لتأكيد قصدهم في طلب الحق، وبهم ضرب الله المثل لنا ولحبيبه المصطفى عليه الصلاة والسلام إذ قال: (فَٱصۡبِرۡ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلۡعَزۡمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ )والحمد لله رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *