من العجزِ المانعِ إلى القدرةِ الـمُسقِطَةِ للعذرِ: الاستطاعةُ وأثرُها في وجوبِ إعلانِ قيامِ الدّولةِ الإسلاميّةِ وتطبيقِ الشريعةِ
6 ساعات مضت
المقالات
46 زيارة
ثائر أحمد سلامة.
الحلقة الثالثة:
الرَّكِيزةُ الأُولى والأَخطرُ للدَّولةِ: الأَساسُ العقديُّ الفِكْريُّ الذي يُشَكِّلُ رُؤْيَةَ الأُمَّةِ للحياةِ، ويُحَدِّدُ شَكْلَ النِّظامِ الذي تَرْتَضِي أَنْ تُحكَمَ بهِ:
يتكوّن كيانُ الدَّولةِ الإسلامية من أنظمةٍ للحُكم تُبنى على أساسٍ عقَديٍّ فكريٍّ آمنت به الأمة، والتزمت العملَ والحياةَ بمقتضى الأحكام الشرعية المنبثقة منه، (أي على أساسِ مجموعةٍ من المفاهيم والمقاييس والقناعات التي شكَّلت الشريعةُ الغرَّاء بها رؤيةَ الأمة للحياة، وحدَّدت لهم بها شكلَ النظام الذي ارتضاه اللهُ تعالى لهم أن يُحكَموا به، فارتضَوا أن تُرعى شؤونُهم بمقتضى ذلك الأساسِ العقديِّ الفكريِّ، والذي تضمَّنت تفاصيلُه أحكامَ تنظيم أنظمةِ الحكم للعلاقات السياسية بين الدولةِ (من حيث هي سلطةٌ قائمة على معاقَدةِ بيعةٍ خوَّلتها واجبَ تطبيق الشريعة نيابةً عن الأمة، وأوكلت إليها مسؤوليةَ رعاية الشؤون وحماية الحقوق)، وبين الرعية، وأحكامَ ضبطِ العلاقات بين الرعية بعضِها مع بعضٍ في أنظمة الاجتماع والاقتصاد والقضاء وغيرها، ولكون تلك الأحكام متصلةً بمبدأ سيادة الشرع، وأنها أوامرُ ونواهٍ من ربِّ العالمين، فإنها أضفت على السلطة التي تحكم بناءً عليها صفةَ القبول طوعًا لا كرهًا).
وجريًا على سُننِ الله تعالى المطَّردة في المجتمعات، والتي لا تحابي أحدًا، فإن استقرارَ كيانِ الدولة الإسلامية، كحالِ استقرارِ أيِّ كيانٍ سياسيٍّ، يعتمد على مدى إيمان الأمة أو المجتمع بذلك الأساس الفكري، وإيمانهم بصلاحه، ويعتمد أيضًا على قدرة تلك المجموعة من المفاهيم والمقاييس والقناعات على حسن رعاية شؤونهم وتحقيق العدالة وإحقاق الحقوق، ومنع الفساد والإفساد.
فأمَّا الإسلام فقد صهر الأمةَ في بوتقة العقيدة والتشريع، فتمثَّلت العقيدةُ بمفاهيم عقديةٍ ثوريةٍ لا نظير لها في التاريخ، نتج عن التفكُّر فيها والتبصُّر تجلياتُ اليقين القاطع، الناتج عن البرهان الساطع، بأن حقائق الاعتقاد المنبثَّة في القرآن والسنة راسخةُ الصدق والانطباق على الواقع، فاقترن شعورُ المؤمن بوجود الله وبجميع صفات ألوهيته وتعلُّقها بأدق تفاصيل حياته باليقين والعلاقة الإيجابية الراضية المرضية، وبذلك استطاعت المفاهيمُ العقدية أن تملك العقولَ فتمتلئ قناعةً راسخةً بأنها امتلكت تمامًا ناصيةَ الحق، ثم ما لبثت قوةُ الحق الذاتية تلك أن خالطت تلك العقولَ، وامتزجت بها حتى أُشرِبتها، وأخذت أعنَّةَ نواصي خيلها، وانشرحت لهداها الصدور، وخالطت بشاشةُ تلك المفاهيم القلوبَ، بعد إفراغها من رواسب الجاهلية، فأحيتها، وملأتها طمأنينةً وبِشرًا، ولم ترتضِ تلك العقيدة اختلاطَ مفاهيمها بمفاهيم منبثقة من نظمٍ أخرى غيرها، فمنعت قيامَ علاقات المجتمع على عصبيات الجاهلية أو أصنامها أو أعرافها، بل كان تحقيقُ «لا إله إلا الله» يتوجَّب فيه أولًا التخليةُ من كل أفكار الكفر ومعتقداته، ومقاييسه وقناعاته، وليس التخلي فقط بنبذها، بل المطلوب التوبة منها واعتبارُها من الرجس، ولا بدَّ من الندم على حملها. من هنا فالتوبةُ تجلو القلبَ من كل هذه الشوائب، وتمهِّده للاستسلام الكامل لما جاء به الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومن ثم التحليةُ بالعقيدة الإسلامية والانقياد للشرع، قال تعالى: ( إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَأُوْلَٰٓئِكَ يَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ وَلَا يُظۡلَمُونَ شَيۡٔٗا )٦٠ [مريم: 60]، (وَإِنِّي لَغَفَّارٞ لِّمَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا ثُمَّ ٱهۡتَدَى٨٢ ) [طه: 82].
وأما التشريع فقد ارتضى المسلمون طوعًا لا كرهًا ألَّا يتصرَّفوا تصرُّفًا إلا وفق مقاييس الحلال والحرام، وعدّت الأمةُ الشريعةَ الإسلامية سياجًا أحاط أحكامَها بصفتها حدودَ الله، أمر بإقامتها، ونهى عن الاعتداء عليها أو تجاوزها، فكان هذا الصَهرُ أهمَّ ركيزةٍ لقوة الدولة الإسلامية التي انطلقت تفتح الآفاقَ لنور الهداية.
ومن ثم فإن انهيارَ ثقةِ أي أمةٍ من الأمم بالأساس الفكري الذي تقوم عليه دولتُها، كأن تجد أنه لا يحقِّق العدلَ مثلًا، يؤدي إلى زعزعة شرعية النظام، حتى لو كانت أدواتُ القوة العسكرية والأمنية في يده، وتبدأ الحركاتُ الثوريةُ والتغييريةُ بالعمل على تغييره، وتَدخلُ حياةُ تلك الأمة في منعطفاتِ عدمِ الاستقرار إلى أن يتشكَّل النظامُ الذي ترتضيه وتثق به.
إن أعظمَ ما تمتلكه الأمم، وأغلى ما تورِّثه الأجيالُ للأجيال، ليس المالَ المكدَّس، ولا المصانعَ العامرة، ولا الجيوشَ الجرارة، بل هي الفكرةُ العظيمةُ التي تشعُّ في العقول وتنبض في القلوب. فالثروة المادية، وإن بدت عنوانَ القوة، ليست إلا ثمرةً من ثمار الفكر الحي، ونتاجًا لطريقة تفكيرٍ منتِجةٍ تحفظها وتنمِّيها. فإذا فقدت الأمةُ مالَها ومخترعاتِها، استطاعت أن تعيد بناءَها ما دامت تحتفظ بثروتها الفكرية. أمَّا إذا انهارت الفكرةُ وضاع الأساسُ الفكري، فإن المالَ يضمحل سريعًا، والقوةَ تتهاوى، وتعود الأمةُ إلى الفقر والضعف، ولو كانت مخازنُها ملأى وخزائنُها عامرةً.
ولهذا كان الفكرُ العقدي الذي تنبثق منه شريعةٌ تُسيِّر أمورَ الحياة وفقها، امتثالًا لأوامر ربها، وانتهاءً عن نواهيه، أمضى من السلاح، بما فيه من تأثير وفاعلية، وأبقى من الحديد. ألم يسقطِ الاتحادُ السوفياتي، وهو في ذروة قوته النووية والعسكرية، لما انهارت الفكرةُ التي قام عليها، بالإصرار على المقولات الحتمية التحكمية الفكرية للنظام الاقتصادي الماركسي، رغم آثارها التي أشقت المجتمعات، ووهن إيمانُ شعبه بها، من حيث هي منظومة فكرية تشريعية فاشلة؟ وفي المقابل، ألم يُقم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الدولةَ في المدينة بلا مصانعَ ولا أسلحةٍ متطورة، بل أقامها على العقيدة، فنهضت في عقدٍ واحدٍ لتزلزل عروشَ أعظم إمبراطوريتين في الأرض، فقضت على الفارسية، وألحقت بالروم هزائمَ قاصمةً في الشام؟ إن الفكرةَ الربانيةَ حين تترسَّخ في القلوب، تمتلك قوةً تحرِّك أمةً بأسرها، وتدفعها إلى عظائم الأمور.
لقد حاول الغربُ الكافر، على مدى قرونٍ، أن يهدمَ هذا الأساسَ العقديَّ الفكريَّ في الأمة، الذي سكن في جنباتها إيمانًا وتصديقًا، فلم يُفلح، حاول أن يستبدل بدينها العَلمانيةَ والقوميةَ، فرفضه المسلمون في مصر، ونبذوه في باكستان وبنغلاديش، ورأوا في العَلمانية مصدرَ فسادٍ وانحرافٍ. حتى النماذجُ التي حاول الغربُ تسويقَها في بلاد المسلمين لم تنجح إلا إذا ارتدت عباءةَ الإسلام لتخادع السذج، ومع ذلك بقيت عاجزةً عن اقتلاع الفكرةِ الأصلية من وعي الأمة. بل إن الغربَ نفسَه يدرك أن أفكارَه لا يمكن أن تُقبل في بلاد المسلمين إلا إذا صُبغت بصبغةٍ إسلاميةٍ وتولاها من باع دينَه بثمنٍ بخسٍ، وهو في ذلك يعترف ضمنًا أن الإسلام هو الحاجزُ المنيعُ أمام مشروعه.
ومع ذلك، فلا بد من التأكيد على أن نتائج تلك الحملات المتصلة التي قام بها الغرب قد أفضت إلى آثارٍ ثلاثةٍ خطيرةٍ:
أولها: فصمُ عروةِ الارتباط بين الأفكار الإسلامية وبين أدلتها والوحي عمومًا، الأمر الذي احتاج إلى جهودٍ مضنيةٍ تهدف إلى إعادة الصفاء إلى الأفكار الإسلامية بربط كل فكرٍ وكل حكمٍ أو رأيٍ بالدليل من الكتاب والسنة أو ربطه بما جاء به الوحي.
وثانيها: إلحاقُ الشوائب وإلباسُ الأفكار الغربية لبوسَ الإسلام ليتقبلها المسلمون، وتغيير طريقة التفكير لدى قطاعٍ واسعٍ من أبناء الأمة وعلمائها، عبر المدارس العقلانية والإصلاحية التي تلوي أعناق النصوص وتفسر الإسلام تفسيرًا يتناسب مع الواقع بدلًا من تغيير الواقع بأفكار الإسلام، الأمر الذي احتاج إلى جهودٍ مضنيةٍ لتنقية الإسلام من هذه الشوائب الفكرية الخطيرة.
وثالثها: فصمُ العلاقة بين الإيمان والعمل، وتشويهُ حسنِ تصورِ الأفكار الإسلامية في الأذهان، الأمر الذي أوجد شخصياتٍ إسلاميةً ضعيفةً، غير متميزةٍ، ما استوجب جهودًا مضنيةً في بلورة مفاهيم الإسلام لتشكيل الشخصيات الإسلامية المتميزة – عقليةً ونفسيةً – بهذه الأفكار المبلورة ليحسنَ تصورُ الفكرة الإسلامية في الأذهان وتنعكسَ على السلوك.
ومع ذلك، فإن أثر عقودٍ من الدعوة في الأمة أثمر بوعيها على ضرورة تطبيق شريعتها، ورأت في النظم الحاكمة، عَلمانيةً وغيرها، مصدرَ بؤسِها وشقائها، وهي تتطلع إلى وحدتها.
وليس ثَمَّةَ أقوى من فكرةٍ جاء أوانها. هذا ما أدركه حتى بعضُ عقلاء الغرب، كما قال باتريك بوشانان: إن فكرةَ الحكم بالشريعة تترسخ بين المسلمين رغم حرب الغرب عليها، وأنه إذا عادت هذه الفكرة إلى القلوب، فلن تستطيع أقوى الجيوش أن توقفها. وهذه شهادةٌ من خصمٍ يدرك أن الفكرة إذا امتلكت النفوسَ كسرت السيوفَ والدبابات.
وتكفي الإشارةُ إلى ما جرى في أزمة الخليج؛ إذ ارتبك جورج بوش الأب لمجرد أن صدام حسين لمح إلى الحرمين الشريفين واستنهض المسلمين، ليصبغ الحربَ بصبغةِ حربٍ دينية، فأخذ بوش يكرر في خطابه: «نحن لسنا ضد العرب ولا ضد المسلمين»، في محاولةٍ يائسةٍ لعزل الصراع عن بُعده العقدي، لأنه يدرك أن مواجهةَ الإسلام من حيث هو فكرةٌ جامعة، وتحويلَ الحرب إلى حربٍ دينيةٍ أخطرُ عليهم مما عزموا عليه من مواجهةٍ تحت أي مسمى آخر.
والتاريخُ شاهدٌ ساطعٌ على أن العقيدة الإسلامية تُضاعف أثرَ القوة المادية أضعافًا مضاعفةً عن أي قوةٍ أو مؤثرٍ آخر، ففي مؤتةَ واجه ثلاثةُ آلافٍ من المسلمين عشراتِ الآلافِ من الروم، وفي اليرموك وقف ستةٌ وثلاثون ألفًا أمام نحو سبعين ألفًا من الروم، وكان تعدادُ جيشِ الفتحِ الذي اجتاح فارسَ ثمانيةَ عشر ألفًا من المسلمين، لم تصمد أمامهم رايةٌ، وانهارت مدائنُ الفرسِ واحدةً تلو الأخرى، وفي القادسية هَزم ثلاثون ألفًا من المسلمين نحو سبعين ألفًا من الفرس، رغم تفوقهم في السلاح والعتاد. وكانت الغلبةُ للمسلمين لأنهم حملوا فكرةً تحيي القلوب، وتشُدُّ العزائم، وتربط الأرضَ بالسماء. ولم تُهزم الأمة هزيمةً حاسمةً إلا مرتين: مرةً في الحروب الصليبية قبل أن تستعيد قوتها وتنتصر، ومرةً في القرن التاسع عشر حتى نهاية الحرب العالمية الأولى.
وهكذا يتأكد أن الدولة التي تقوم على أساس العقيدة الإسلامية تحمل في بنيانها الفكري والعقدي قوةً فكريةً هائلةً، تُعوض أيَّ ضعفٍ ماديٍّ، وكلَّ المقدمات والأسباب والإمكانيات والأدوات لبناء وإيجاد كل قوةٍ ممكنةٍ لتحافظ على كرامة الإنسان وحياته، وعلى الدولة ونشر الإسلام وقيادة البشرية لتحقيق قوله تعالى: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ[، والشهادةُ على الأمم بتطبيق المسلمين للمنهج الرباني الذي أمر الله أن يقوم الناسُ -كلُّ الناس- عليه، بعد أن قدَّمت له الفكرةُ الإسلاميةُ منظومةً متكاملةً من القيم والشرائع والمقاييس التي تُستنبط منها الأحكامُ اللازمة لعمارة الأرض وتحقيق قيمة الاستخلاف فيها.
إضافةً إلى ذلك فإنها تشُدُّ عضُدَ عقدِ البيعة بين الحاكم والمحكوم شدًّا متينًا. فالاقتصادُ بلا عقيدةٍ يتداعى، والجيشُ بلا فكرةٍ ينهار، أما العقيدةُ الحيةُ فتقيم دولةً، وتحرِّك أمةً، وتصنع من القلةِ كثرةً، ومن الضعف قوةً، وتكتب على راياتها وعدَ الله: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيۡنَا نَصۡرُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ[.
ومن أهم ما يجب التنبه له والإيمان به إيمانًا مطلقًا: القدرةُ اللامتناهيةُ في العقيدة الإسلامية التي تشكِّل الأساسَ الفكريَّ الذي تقوم عليه الدولةُ الإسلاميةُ في ضبط الاتجاه، واستثمارِ كل الركائز الأخرى التي تُبنى عليها قوةُ الدولة، وتمكينِها من تحقيق أهدافها، وصيانةِ سيادتها، والتأثيرِ في النظام الدولي، استثمارًا منتجًا، فعالًا، قادرًا على إحباط أي مؤامرةٍ تُحاك لإفشال هذه الدولة الفتية؛ قادرًا على إيجاد التكامل السببي المثمر بين باقي الركائز، وتفعيلِها لتخدمَ استدامةَ الدولة واستقرارَها، لتكون حائطَ صدٍّ أمام مؤامرات أعدائها. كيف لا، وهذا الأساسُ الفكريُّ يمثل عقيدةَ الإسلام وشريعةَ ربِّ العالمين، بما في أنظمتها الربانية من قدراتٍ على إقامة العدل والقسط بين الناس، وإصلاحِ معيشتهم، واستثمارِ ثرواتهم، وبثِّ الروح في الاقتصاد، والتعبئةِ المعنويةِ للجهاد والاستشهاد والاستنصار بالله والتوكل عليه.
الخلاصةُ الفكريةُ الإستراتيجية: هندسةُ مناعةٍ تُفكِّر قبل أن تُقاتِل:
المعيارُ الحاسمُ في تقديرِ قوّةِ الدولةِ الناشئةِ ليس عددَ الدباباتِ ولا حجمَ الخزائنِ، بل كيفيةُ تآزرِ الركائز تحتَ قيادةِ أساسٍ فكريٍّ يُحدِّد الوجهةَ ويضبط الإيقاع. حين تكون السيادةُ للشرعِ ويكون السلطانُ للأمّة، وتعملُ الدولةُ من حيث هي كيان تنفيذيّ لمنظومةٍ مقبولةٍ شعبيًّا، تتحوّل الركائزُ السبع؛ الفكرةُ، والأنظمة، والاقتصادُ، والعسكرُ، والثقافةُ/الدعوةُ، والسكّانُ/البيعةُ، والجغرافيا- إلى قوّةٍ مركّبة تُنْتِج مناعةً تعسرُ هندستُها على الخصم وتدوم.
منطقُ القوّة المركّبة
شرعيّةٌ تولِّدُ الطاعةَ الواعية: الأساسُ الفكريُّ مع منظومة البيعة والحكمِ والقضاءِ ومحكمةِ المظالم يصنع انقيادًا اختياريًا يَسُدُّ ثقوبَ الاختراق الداخليّ، ويمنعُ شخصنةَ السلطة، ويُبقي الدولةَ ممسوكةً بالمعايير لا بالأشخاص.
سندٌ مجتمعيٌّ يصعبُ كسره: رأيٌ عامٌّ ملتزم، وكتلةٌ شابّةٌ قابلةٌ للتأهيل، وبَيْعةٌ تُشعرُ الناسَ بأنّ السلطانَ منهم وبهم؛ فإذا اضطرب الخارجُ بقي الأمنُ الذاتيّ قائمًا لأنّ المجتمعَ يحمي سلطانَه الذي ارتضاه.
اقتصادُ وظيفةٍ لا اقتصادُ مظهر: ضبطُ الأولويّات (غذاءٌ/دواءٌ/طاقة) وتعبئةُ العملِ ورأسِ المالِ البشريّ يجعل الصمودَ ممكنًا والتوسّعَ محسوبًا؛ الاقتصادُ هنا ذراعُ استدامة لرسالة الدولة لا قيدٌ على قرارها.
قوّةٌ عسكريّةٌ بعقيدةٍ ورُشدٍ: الجيشُ الحارسُ للأحكام، بردعٍ متدرّجٍ وتكتيكاتٍ غيرِ متناظرة، يمنعُ الحسمَ الخاطفَ ويحوّلُ أيَّ اعتداءٍ إلى نزيفٍ سياسي ومعنويٍّ لخصمه، إذا ما اضطر لذلك، وفي الوقت نفسه فإن حقيقة العقيدة العسكرية الإسلامية أنها هجومية توسعية لنشر الهداية وإخراج العباد من جور الأديان إلى عدل الإسلام، وكلما توسعت الدولة الإسلامية ازدادت قوة، وأربكت خصومها. ولا يصح أن تكون الدولة في وضع دفاعي يسهل هجوم أعدائها عليها، خصوصا وأن لديها مقدرات هائلة.
دعوةٌ تصنعُ رأيًا عامًّا عابرًا للحدود: روايةٌ خُلُقية مُقنِعةٌ ونموذجُ عيشٍ عادلٌ يُنتجان قوّةً ناعمةً تُضاعف أثرَ كلّ خطوة، وتحوّل الجغرافيا الإسلامية إلى عمقٍ حضاريٍّ مساند، ويرفد إيمانُ المؤمنين بالإسلام هذه الدولةَ بالمعلومات والخبرات اللازمة لدعمها وتقويتها، أينما كان تواجد هؤلاء المسلمين، وقد يهددون مصالح أعدائها في تلك البقاع البعيدة، فيلجمونهم عن مهاجمة تلك الدولة التي تمثل بالنسبة لهم تطبيق شريعتهم، وبشارة نبيهم بخلافة راشدة على منهاج النبوة، يتحرقون شوقا للانضمام لها، خصوصا وأن الدولة الجديدة لا تحتاج لكثير وقت لإقناع كل مسلمي الأرض أنها تمثل التطبيق الحقيقي لشريعتهم، فهذا بعد حضاري هائل جدا يحسب له الغرب ألف حساب. فعلى سبيل المثال؛ كم احتاجت رواية تغيير واقع حياة الناس في سوريا بزوال نظام الأسد لتطبق الآفاق وتدعو المهاجرين ليعودوا للبلاد زرافات ووحدانا؟ وستقوم الدولة الإسلامية بخطاب المسلمين في شتى أنحاء الأرض بخطاب يشعرهم ويقنعهم بأنها دولتهم، تنبع من عقيدتهم التي تملأ جوانحهم!
ساحةُ بشرٍ وجغرافيا تعاندُ الخنق: اتّساعُ الامتدادِ وتعدّدُ الممرّاتِ والمنافذِ يقلّلان قابليّةَ الحصار، ويُرْغِمان الخصمَ على التفكير بالتفاهم بدلَ المغامرة. ولن تتعامل الدولة الإسلامية مع العقوبات التي تفرضها أمريكا وغيرها كما تعاملت إيران أو العراق أو روسيا أو غيرها مع هذا النوع من العقوبات، بل ستتصرف الدولة على أساس أن أي كيان أو دولة يعلن عقوبات عليها بأن هذا إعلان حرب، وتتصرف بناء على ذلك، وتستغل كل ثرواتها وإمكانياتها، وقدراتها الجيوسياسية للرد الفوري بما يعرّض مصالح الغرب للخنق، لإجبار الدول الكبرى على الامتناع حتى عن التفكير في حصارها. والدولة الإسلامية قادرة على سرعة الضم، وسرعة التوسع، خصوصا أن محيطها هش آيل للسقوط، تنخر السوس أركانه، وتتشوق شعوبه للانعتاق من الفساد والمفسدين، وتقوم الدولة بالتواصل مع وجهاء كل بلد، وعامتها، بخطط تعجل عملية التوسع وتسهلها، وهذه السياسة تربك أي مخططات للحصار أو العقوبات.
تكاملُ هذه العناصر-لا تجزؤها- هو الذي يَنسج مناعةً هندسيّةً: كلُّ ركيزةٍ تجبرُ نقصَ الأخرى بإشارةِ وتوجيه الأساسِ الفكريّ، فتستحيلُ الثغرةُ معبرًا.
لماذا لا يكفي قياسُ الدبابةِ والناتجِ القوميّ؟
لأنّ القوّةَ المادّية بلا شرعيّةٍ ولا رأيٍ عامٍّ منضبطٍ تتآكلُ سريعًا، ولأنّ العقيدةَ حين تملكُ النفوس تضاعف أثرَ المعدّاتِ وتحوّل العددَ القليلَ إلى قوّةٍ راجحة. تجاربُ التاريخِ القريبِ والبعيدِ تؤكّد: أن الأفكار تُسقطُ منظوماتٍ مسلّحةً، وتُقيمُ دولًا قبل أن تُقيمَ مصانعَ السلاح.
أوراقُ الردع التي تجعل العدوَّ يُعيدُ الحساب
كلفةٌ سياسيةٌ عابرةٌ للحدود: أيُّ اعتداءٍ يُشعلُ رأيًا عامًّا إسلاميًّا واسعًا، فتُهدَّدُ مصالحُ المعتدي الإقليميةُ والدوليةُ.
استحالةُ الحسمِ الخاطف: سندٌ شعبيٌّ ومؤسّساتٌ شرعيّةٌ واقتصادُ الضرورةِ وجيشٌ بعقيدةٍ، تُحوِّل الحربَ إلى استنزافٍ مُكلفٍ لا وعدَ له بالنصر.
التوسّعِ الفعلي السريع: الاتّكاءُ على عمقٍ حضاريٍّ وجغرافيٍّ يُصعّبُ تطويقَ الدولةِ ويُربكُ خرائطَ خصومِها. فهذه السياسة العملية التي تباشرها الدولة.
انكشافُ الخصمِ أخلاقيًّا: نموذجُ حكمٍ عادلٍ وروايةٌ مُقنِعةٌ ينزعان الشرعية عن العقوباتِ والحصارِ، ويُحوّلان أدواتِ الضغطِ إلى عبءٍ دعائيٍّ على صاحبِها.
الخلاصةُ الحاكمة
القوّةُ التي تُثبّتُ أركانَ الدولةِ الفَتِيّةِ وتَرُدُّ كيدَ أعدائها ليست «ركيزةً» بذاتها، بل هندسةُ تكاملٍ تقودُها العقيدةُ وتؤطّرُها المؤسّساتُ وتُغذّيها الأمّةُ وتُديرُها السياسةُ الشرعيّةُ. ومن ينظرُ إلى الجيشِ وحدَهُ أو إلى الناتجِ وحدَهُ يَغفُلُ عن آليّةِ الردعِ الحقيقيّة: شرعيّةٌ واعيةٌ + رأيٌ عامٌّ مُلتزمٌ + اقتصادُ اكتفاءٍ وظيفيّ + جيشٌ بعقيدةٍ رشيدةٍ + عمقٌ جغرافيٌّ/حضاريّ = مناعة تجعلُ الحربَ خيارَ اليائس. عندها يفكّرُ العدوُّ طويلًا قبل أن يهاجم، لأنّ الهجومَ لا يَعِدُهُ بنصرٍ سريعٍ، بل يتهدّدهُ باستنزافٍ مُكلفٍ وخسارةِ شرعيّةٍ ومصالحَ تمتدُّ من القلوبِ إلى الخرائط.[يتبع]
1447-05-08