العدد 361 -

السنة الواحدة والثلاثين – صفر 1438هـ – تشرين الثاني 2016م

مع القرآن الكريم

مع القرآن الكريم

 

(الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).

جاء في كتاب التيسير في أصول التفسير لمؤلفه

عطاء بن خليل أبو الرشته

أمير حزب التحرير حفظه الله في تفسيره لهذه الآيات ما يلي:

يبين الله سبحانه في هذه الآيات ما يلي:

  1. بعد أن أزال الله الحرج عن المؤمنين في أن يقاتلوا الكفار المحاربين عند المسجد الحرام إن قاتلوهم فيه، فكذلك أزال سبحانه الحرج في هذه الآية عن قتال المسلمين الكفارَ في الشهر الحرام إذا قاتلوهم فيه. ففي صلح الحديبية اتفق على أن يعود المسلمون للعمرة في العام المقبل في شهر ذي القعدة – وهو الشهر الذي كان فيه صلح الحديبية – لأداء العمرة التي سميت (عمرة القضاء) لأنها بدل العمرة التي جرى الصلح بموجبها، وقد توقع المسلمون احتمال أن ينقض الكفار ما عاهدوا عليه فيقاتلوا المسلمين عند الحرم لمنعهم، وفي الشهر الحرام – ذي القعدة – وكانوا يتحرجون من القتال في الحرم وفي الشهر الحرام، فأعلمهم الله في هذه الآية أن ( الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ) أي إن قاتلوكم فاقتلوهم، والـ( قِصَاصٌ ) يفيد المماثلة في العقوبة.

وقد كان رسول الله  صلى الله عليه وسلم  لا يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزى، فإن لم يُغزَ أقام الشهر حتى ينسلخ كما رواه أحمد عن جابر  رضي الله عنه ، فكان الرسول  صلى الله عليه وسلم  لا يبادئهم القتال في الشهر الحرام إلا أن يبادئوه هم أو تكون المعركة مستمرة ويدخل الشهر الحرام، ولذلك فلما نقل إلى رسول الله  صلى الله عليه وسلم  وهو في الحديبية أن عثمان  رضي الله عنه  قد قتل – وكان أرسله إلى قريش لبحث أمر الصدّ عن العمرة – بايع أصحابه وكانوا ألفًا وأربعمائة تحت الشجرة على قتال المشركين، فكان ذلك في الشهر الحرام (ذي القعدة)، فلما بلغه أن عثمان لم يقتل كفّ عن ذلك.

وهكذا بعد فتح مكة وحدوث معركة هوازن يوم حنين ثم تحصُّن فلول الكفار المنهزمين في الطائف، فلحقهم رسول الله  صلى الله عليه وسلم  وحاصرهم في الطائف وضربها بالمنجنيق، ودخل ذو القعدة والحصار مستمر لم يرفعه الرسول  صلى الله عليه وسلم  بحجة الشهر الحرام؛ لأن ذلك كان استمرارًا للمعركة، وإنما رَفَعَ  صلى الله عليه وسلم  الحصارَ لصعوبة فتحها ولحدوث قتل في المسلمين فانصرف عنها رسول الله راجعًا إلى مكة بعد أن حاصرها أربعين يومًا كما ثبت في الصحيحين عن أنس  رضي الله عنه .

وقوله سبحانه ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) هو تأكيد لما سبق (  الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ) ولكن هنا بزيادة معنى، ففي بداية الآية جواز قتالهم في الشهر الحرام إن قاتلوكم فيه. فالشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص يُفيد المماثلة في العقوبة، ولكنها هنا خاصة في المسجد الحرام.

وأمـا في تكـمـلـة الآية ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) فإن المعـنى عـام في كل عقـوبة على اعتـداء أن تكون في حدود الشرع وأن لا تتجاوز المماثلة في العقوبة.

وكما ذكرنا فإن ( فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ ) قد استعملت هنا استعمالًا مجازيًا أي (فعاقبوه على اعتدائه) لأن المعاقبة على الاعتداء لا تعتبر اعتداء على الحقيقة.

ثم يختم الله سبحانه الآية بإدخال الطمأنينة إلى قلوب المؤمنين فهم المتقون والله معهم بالنصر والعون ( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ).

  1. يأمر الله سبحانه المسلمين أن لا يُعرِّضوا أنفسهم للهلاك بترك الجهاد والإنفاق فيه، فإن الإنفاق في سبيل الله يعني الإنفاق في الجهاد كما يدلّ عليه استقراء الآيات الوارد فيها الإنفاق مقرونًا مع ( q r s  ) وكما وضحه أبو أيوب الأنصاري في أثناء غزو القسطنطينية.

أخرج أبو داود وغيره عن أسلم أبي عمران قال: كنا بالقسطنطينية، فخرج صفّ عظيم من الروم، فحمل رجل من المسلمين حتى دخل فيهم فقال الناس: ألقى بيديه إلى التهلكة. فقام أبو أيوب الأنصاري  رضي الله عنه  فقال: أيها الناس إنكم تؤولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما نزلت فينا معاشر الأنصار، إنّا لما أعزّ الله تعالى دينه وكثر ناصروه قال بعضنا لبعض سِرًّا دون رسول الله  صلى الله عليه وسلم : إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله تعالى قد أعزّ الإسلام وكثر ناصروه فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله على نبيه  صلى الله عليه وسلم  ما يردّ علينا ما قلنا الآية ( وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) فكانت التهلكة الإقامة في الأموال وإصلاحها وترك الغزو. فالتهلكة في التخلف عن الإنفاق في الجهاد ويكون معنى ( وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) أي أنفقوا في الجهاد.

و( التَّهْلُكَةِ ) مصدر كالْهُلْك والْهَلاك وليس في كلام العرب مصدر على (تفعلة) بضم العين إلا هذا في المشهور، وحكي عن سيبويه (تضُرّة وتسُرّة) أيضًا من الضرر والسرور.

ثم يختم الله سبحانه الآية بأن يحسن القادر في الإنفاق في الجهاد فينفق في أفضل وسائل الجهاد، وينفق من أفضل ماله، أي يحسن في النفقة بشكل عام والله سبحانه يحب المحسنين ويجزيهم خيرًا ومن يحبه الله فالخير آتيه ( وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *