العدد 77 -

العدد 77- السنة السابعة، ربيع الأول 1414هـ، الموافق أيلول 1993م

كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ…

بسم الله الرحمن الرحيم

قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ * لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمْ الأََدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ * ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأََنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) [سورة آل عمران: 110 ـ 112].

(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) هذا الخطاب موجه إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وكلمة (كنتم) ليس المقصود بها الماضي بل هي بمعنى (أنتم) أي هكذا كوّنكم الله. وهذا نظير قوله تعالى: (وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا).

(أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) أي أن هذه الأمة مبعوثة ليس لنفسها فقط بل للناس، فكما أن رسولها هو رسول للناس كافة وكذلك أمته أخرجت لتتابع حمل رسالته للناس كافة.

(تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) وهذه الصفات هي من عوامل الخيرية في أمّة محمد صلى الله عليه وسلم. والإيمان بالله يجب أن يسبق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الإنسان، وكذلك الإيمان برسالة الإسلام، لأن المعروف والمنكر لا تقرره الأعراف بل تقرره الشريعة المنزّلة من الله.

(وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ) أهل الكتاب هم اليهود والنصارى، أي لو آمنوا بما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم لكان خيراً لهم.

(مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ) أي أن أهل الكتاب آمن منهم برسالة محمد صلى الله عليه وسلم نفر قليل، أما أكثرهم فظلوا على الضلالة والكفر والفسق.

(لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى) أي لن يستطيع أهل الكتاب من يهود أو نصارى أن يستأصلوا المسلمين، أو يستأصلوا الإسلام. ولكن يستطيعون أن يوقعوا الأذى. وقد يكون هذا الأذى بليغاً سواء في المسلمين أو في الإسلام. وقد رأينا كيف أن الكفار استطاعوا استئصال المسلمين من أسبانيا ورأينا كيف أنهم استطاعوا هدم الخلافة وتحويل دار الإسلام إلى دار كفر. ولكن مع إيقاعهم هذا الأذى البليغ فإن الأمة الإسلامية باقية ودين الإسلام باقٍ، وهو الآن في حالة خروج من الأذى وعودة إلى إتمام نوره (وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ).

(وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمْ الأََدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ) تولية الأدبار كناية عن الهزيمة والفرار من القتال. وربَّ قائل يقول: ها إن اليهود يقاتلوننا فتحيق الهزيمة بنا نحن، وبالأمس نزلت أميركا وحلفاؤها من الكفار وقاتلونا فانتصروا علينا. والجواب أننا لا نقاتلهم كمسلمين، بل نقاتل وحكامنا عملاء لهم، وقوانيننا مأخوذة منهم، وعقولنا مفتونة بهم، وأذواقنا وأخلاقنا تبع لهم. إذاً نحن لم نعد نتصف بالصفات التي تجعلنا (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ). أخللنا بالشروط فصار الكفار قادرين على الحقا الأذى البليغ بنا، وصاروا يقاتلوننا ف يولوننا أدبارهم، وصاروا ينتصرون علينا. وإذا عدنا كما أرادنا الله فسنعود إلى العزة والانتصار في الدنيا والآخرة.

(ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا) ضربت عليهم  أي لزمتهم شرعاً وقَدَراً. الذلة هي الذل وقيل هي الجزية. في أي مكان حلّوا فيه،وهذا ينطبق أكثر ما ينطبق على اليهود لأنهم هم قَتَلَةُ الأنبياء قبل مجيء النصرانية.

رُبّ قائل يقول: ها نحن نرى اليهود في عزّة وليس في ذلّة. هنا في فلسطين هم يتجبّرون ويتغطرسون، وهناك في أميركا لهم تأثير واسع في رسم سياسة الدولة، وكذلك في بقية دول الغرب. والجواب أن حصول حالات شاذة لا يطعن في القاعدة العامة. وقد أخبرنا الله عن اليهود في أول سورة الإسراء بقوله: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأََرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا). والآن اليهود في حالة من هذه الحالات الشاذة التي يبدو عليهم فيها أنهم أعزاء. وإذا استقرأنا التاريخ بالإضافة إلى آيات القرآن نجد أن اليهود فعلاً أذلاء مشتتون في الآفاق مغلوبون على أمرهم إلا في لمحات عابرة من الزمن. والآن هم يمرون في لمحة عابرة سرعان ما تزول ويعودون إلى وضعهم الأصلي: الذلة والمسكنة.

(إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ) قال المفسرون: (حبل من الله) أي عقد الذمة لهم، (وحبل من الناس) أي الأمان الذي يعطيهم إياه الناس كالمعاهد والمهادن. ويمكن أن يكون المعنى أعم من ذلك فمثلاً (حبل من الناس) تشمل الإعانة من الناس كالتي يحصلون عليها الآن من أميركا وغيرها، و(حبل من الله) يشمل تسليط الله لهم على غيرهم إذ قد يسلّط الله بعض الظالمين على بعض.

(وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ) أي لزمهم غضب الله بشكل دائم.

(وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الْمَسْكَنَةُ) المسكنة هي مصدر مسكين، وهي بمعنى الذل. وقال بعض المفسرين هي الفقر واحتج غيرهم بأن اليهود غالباً أغنياء فليس الفقر من صفاتهم الدائمة الغالبة. واحتج من فسرها بالفقر بأن اليهود من شدة حرصهم على المال فإنهم يشعرون في داخل أنفسهم شعور الفقراء حتى لو كان المال بين أيديهم كثيراً.

(وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) وهذا من جرائم اليهود التي جازاهم الله عليها الإذلال. وهذا لا يفيد أن العبارة لها مفهوم مخالفة (أي قتل الأنبياء بحق)، لأن الأنبياء لا يفعلون فعلاً يستحق عقوبة القتل.

(ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) وهذا أيضاً تعليل لما ضربه الله عليهم من الذل والمسكنة. والمعصية هي مخالفة المطلوب منه. أما الاعتداء فهو تجاوز الحد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *