العدد 92 -

السنة الثامنة – رجب 1415هـ -كانون الأول 1994م

السياسة الحربية في الإسلام

وردت إلى «الوعي» رسالة من الضفة الغربية في فلسطين بتوقيع «أختكم في الإسلام» فيها تساؤل وانتقاد لموضوع ورد في المجلة. ونلخص هذه الرسالة فيما يلي:

[ورد في مجلة «الوعي» العدد (87) أنه يجوز للمسلمين أن يعاملوا العدو بالمثل. وجاء هذا في (كلمة الوعي) تحت عنوان: (كغثاء السيل، أم خير أمة أخرجت للناس؟).

إن الشرع الإسلامي نهى عن قتل النساء والأطفال والشيوخ، إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا طفلاً صغيراً، ولا امرأة». فهل نتغاضى عن قول نبيّنا صلى الله عليه وسلم، ونهمل أحكام الإسلام من أجل أن نعامل العدو كما يعاملنا هو بالبطش وعدم الرحمة؟ هل ننسى أحكام الإسلام في القتال وهي أرحم وأرقى تعاليم إنسانية وأشدها قوة، لمجرد أن العدو يعاملنا معاملة ما؟ هل نترك العدو يملي علينا ما نفعله في الحرب، أم نتمسك بأحكامنا الإسلامية الصرفة ونجعلها سلوكنا ومعاملتنا في كل مكان وزمان؟ وهذا لا يمنع من استرجاع حقنا بالقوة، ولكن حسب الأحكام الإسلامية فقط.

أطلب منكم الرد على تعليقي هذا في مجلتكم، وإني أنتظر بفارغ الصبر، وأدعو الله لكم ولمجلتكم بالتوفيق]. (أختكم في الإسلام).

ونحن في «الوعي» ندعو الله بالتوفيق للقارئة الكريمة ولجميع المسلمين. ونقول: لا، لا يصح أن نترك العدو يملي علينا ما نفعله لا في الحرب ولا في السلم. ونقول: نعم، حربنا كما سِلْمُنا، كما سائر أعمالنا وتصرفاتنا يجب أن تكون حسب الأحكام الإسلامية فقط. والمعاملة بالمثل في كثير من شؤون القتال رخّص فيها الإسلام. ولبيان ذلك بشكلٍ وافٍ ننقل بحثاً من كتاب «الشخصية الإسلامية» الجزء الثاني، تأليف الشيخ تقي الدين النّبهاني رحمه الله وهو بعنوان: (السياسة الحربية). وإليكموه.

السياسة الحربية هي رعاية شؤون الحرب على وضع من شأنه أن يجعل النصر للمسلمين والخذلان لأعدائهم، وتبرز فيها الناحية العملية الآنية. وقد أجاز فيها الشرع أشياء حَرَّمها في غيرها، وحَرَّم فيها أشياء أجازها في غيرها. فقد أجاز فيها الكذب مع العدو، مع أنه حرام معه في غير الحرب. وحرَّم اللين مع الجيش مع أنه مندوب في غير الحرب. وهكذا جعلت السياسة الحربية للأحكام اعتباراً خاصاً في الحرب. وهذه الاعتبارات منها ما يتعلق بمعاملة العدو، ومنها ما يتعلق بالأعمال الحربية نفسها، ومنها ما يتعلق بالجيش الإسلامي، ومنها ما يتعلق بغير ذلك.

فمما يتعلق بمعاملة العدو، جعل الإسلام للخليفة وللمسلمين أن يفعلوا بالعدو مثل ما من شنه أن يفعله العدو بهم، وأن يستبيح من العدو مثل ما يستبيحه العدو من المسلمين، ولو كان من المحرمات. قال الله تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ). وقد روي أن سبب نزول هذه الآية أن المشركين مثلوا بالمسلمين يوم أحد: بقروا بطونهم، وقطعوا مذاكيرهم، وشرموا آنافهم، ما تركوا أحداً إلاّ مثلوا به إلاّ حنظلة بن الراهب. فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمزة وقد مُثل به فرأى منظراً ساءه وقد شُق بطنه واصطلم أنفه فقال: «أما والذي أخلف به إن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين مكانك» فنزلت هذه الآية. فالآية نزلت في الحرب وهي وان كانت نهت عن الزيادة عن المثل، ولكنها صريحة في إباحة أن يعمل المسلمون مثل ما يعمله الكفار بهم، حتى إن الآية يفهم منها إباحة التمثيل بقتلى الكفار الذين مثلوا بقتلى المسلمين، على أن لا يزيد على مثل ما فعلوا، مع أن التمثيل حرام، ووردت الأخبار بالنهي عنه، إلاّ أن هذا النهي إنما يكون إذا لم يمثل العدو بقتلى المسلمين، وإلا فإن للمسلمين أن يفعلوه إذا كان العدو يمثل بقتلى المسلمين. ومثل ذلك الغدر ونقض العهد فإنه إن فعله العدو أو خيف منه أن يفعله جاز لنا أن نفعله، وإلا فلا يجوز أن نفعله. وإنما جاز أن نفعله مع أنه ورد النهي عنه عملاً بالسياسة الحربية، إذ أن النهي عنه إنما يكون إذا لم يفعله العدو فإن فعله جاز للمسلمين أن يفعلوه قال تعالى: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ). وعلى هذا فإن الأسلحة النووية يجوز للمسلمين أن يستعملوها في حربهم مع العدو، ولو كان ذلك قبل أن يستعملها العدو معهم، لأن الدول كلها تستبيح استعمال الأسلحة النووية في الحرب فيجوز استعمالها. مع أن الأسلحة النووية يحرم استعمالها لأنها تهلك البشر، والجهاد هو لإحياء البشر بالإسلام، لا لإفناء الإنسانية.

ومما يتعلق بالأعمال الحربية أن للمسلمين تحريق أشجار الكفار، وأطعمتهم وزرعهم، ودورهم وهدمها، قال الله تعالى: (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ). وقد أحرق رسول الله صلى الله عليه وسلم نخل بني النضير مع تحققه بأنه سيؤول له. أما ما روي عن يحيى بن سعيد الأنصاري أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال لأمير جيش بعثه إلى الشام: «لا تعقرن شاة ولا بعيراً إلاّ لمأكله، ولا تحرقن نخلاً ولا تغرقنَّه» وقد أقره الصحابة جميعاً ولا مخالف له، فإن ذلك هو الأصل في الحرب وهو عدم تخريب العامر، وعدم قطع الشجر. ولكن إذا رأى الخليفة أو قائد الجيش أن كسب المعركة لا بد له من تخريب العامر وقطع الشجر، أو أن الإسراع في كسب المعركة يقضي بذلك جاز في السياسة الحربية أن يقطع الشجر، وأن يخرب العامر، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومثل ذلك قتل البهائم وحرقها، وكل ما يملكه العدو فإنه إذا اقتضته السياسة الحربية جاز فعله، ولو كان محرماً قال الله تعالى: (وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ). وهذا الكلام عام في كل شيء، ولم يرد ما يخصص هذه الآية بالذات، لا آية أخرى، ولا حديث فتبقى على عمومها. وقد وردت أحاديث صحيحة في جواز حرق البيوت وحرق الشجر وقطعه. عن ابن عمر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع نخل بني النضير وحرق» ولها يقول حسان:

وهان على سراة بني لؤي
.

حريق بالبويرة مستطير
.

وفي ذلك نزلت (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا) الآية. وعن جرير بن عبد الله قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا تريحني من ذي الخلصة، قال: فانطلقت في خمسين ومائة فارس من أحُمس، وكانوا أصحاب خيل، وكان ذو الخلصة بيتاً في اليمن لخثعم وبجيلة فيه نصب يُعْبَد يقال له كعبة اليمانية، قال: فأتاها فحرقها بالنار وكسرها، ثم بعث رجلاً من أحُمس يكنى أبا أرطأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبشره بذلك، فلما أتاه قال يا رسول الله: والذي بعثك بالحق ما جئت حتى تركتها كأنها جمل أجرب، قال: ” فبّرك النبي صلى الله عليه وسلم على خيل أحُمس ورجالها خمس مرات» وبرّك أي دعا لهم بالبركة. وروى أحمد وأبو داود وابن ماجة عن أسامة بن زيد قال: «بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قرية يقال لها إبنى فقال: ائتها ثم حرّق ” وإبنى هذه هي يبنا فلسطين. ويظهر من وصية عمر التي رواها مالك في الموطأ، ومن مقارنتها بهذه الأحاديث أن حرق الشجر وقطعه، وهدم البيوت إنما يكون إذا اقتضاه كسب المعركة أو كسب الحرب، فهو داخل في السياسة الحربية.

وهكذا تقضي السياسة الحربية أن يقوم الإمام بأعمال تقتضيها رعاية شؤون الحرب لكسب المعركة، أو لكسب الحرب، وخذلان العدو والانتصار عليه. إلاّ أن هذا كله مقيد بما إذا لم يرد نص على عمل معين، فإذا ورد نص خاص فإنه لا يجوز أن يفعل ذلك العمل بحجة السياسة الحربية، بل يجب أن يتقيد بالنص حسب الوضع الذي ورد فيه. فإن كان النص ورد قاطعاً غير معلل فلا يجوز حينئذ القيام بالعمل، وإذا ورد النص معللاً بعلة فإنه يتبع فيه الحكم حسب العلة، وإن ورد النص بالمنع وورد عن الرسول فعله في حالات معينة فإنه لا يقام بالعمل إلاّ في تلك الحالات. وقد وردت نصوص في أفعال منع الشرع منها فيتبع المنع حسب ما وردت، ولا يقال فيها سياسة حربية، لأن السياسة الحربية عامة إلاّ أن يرد نص في أمر يستثنيه من العموم فيتبع النص فيما خصص به. روى أحمد عن صفوان بن عسال قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فقال: «سيروا باسم الله وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، ولا تمثلوا ولا تغدروا، ولا تقتلوا وليداً». وروى البخاري عن ابن عمر قال: «وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان». وروى أحمد عن الأسود بن سريع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بال أقوام جازوهم القتل اليوم حتى قتلوا الذرية، فقال رجل: يا رسول الله إنما هم أولاد المشركين، فقال: ألا إن خياركم أبناء المشركين». وروى أبو داود عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله، لا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا صغيراً ولا امرأة، ولا تغلوا، وضموا غنائمكم، وأصلحوا وأحسنوا إن الله يحب المحسنين» فهذه الأحاديث نهت عن أفعال معينة في الحرب فلا يصح أن تفعل في الحرب بحجة السياسة الحربية، وإنما تفعل على الوجه الذي وردت به النصوص. وقد وردت النصوص على أنه يجوز أن تفعل هذه الأمور جميعها بضرب المدافع والقنابل، وكل ما يضرب من بعيد بشيء ثقيل، وان يقتل الصبيان والنساء إذا لم يمكن الوصول إلى الكفار إلاّ بقتلهم لاختلاطهم بهم. فقد روى البخاري عن الصعب بن جثامة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أن أهل الدار يبيتون من المشركين فيصاب من نسائهم وذراريهم قال: هم منهم». وفي صحيح بن حبان عن الصعب قال: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين أن نقتلهم معهم قال: نعم فانهم منهم». وأخرج الترمذي عن ثور بن يزيد «أن النبي صلى الله عليه وسلم نصب المنجنيق على أهل الطائف» والمنجنيق حين يضرب به لا يميز بن امرأة وطفل وشجر إلى غير ذلك، فدل على أن الأسلحة الثقيلة كالمدافع والقنابل إذا استعملت في الحرب يجوز بها قتل وهدم وتخريب كل شيء، وكذلك إذا لم يمكن الوصول إلى الكفار إلاّ بقتل الذرية والنساء، فإذا أصيبوا لاختلاطهم بهم جاز قتلهم. أما فعل كل أمر من هذه الأمور وحده في غير المنجنيق، وفي غير حالة عدم إمكانية التمييز بينها وبين الكفار الذين نحاربهم ففيه تفصيل حسب ما ورد في النصوص. أما الصبيان فيحرم قتلهم مطلقاً في غير الحالتين السابقتين، وكذلك العسيف، أي الأجير الذي يكون مع القوم مجبراً لأنه من المستضعفين، وذلك لورود النهي عن قتلهما بشكل قاطع، ولم يعلل بأية علة. وأما النساء فإنه ينظر فيها، فإن كانت تحارب جاز قتلها، وإن لم تكن تحارب لم يجز قتلها وذلك لما رواه أحمد وأبو داود عن رباح بن ربيع أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها وعلى مقدمته خالد بن الوليد، فمر رباح وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة مقتولة مما أصابت المقدمة، فوقفوا ينظرون إليها ويتعجبون من خلقها، حتى لحقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته فافرجوا عنها، فوقف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما كانت هذه لتقاتل، فقال لأحدهم إلحقْ خالداً فقل له: لا تقتلوا ذرية ولا عسيفاً». فقول الرسول ما كانت هذه لتقاتل يدل على أنها لو كانت تقاتل جاز قتلها، فيكون الحديث قد جعل علة النهي عن قتلها كونها لا تقاتل. ويؤيد ذلك ما رواه أبو داود عن عكرمة أن النبي صلى الله عليه وسلم «مر بامرأة مقتولة يوم حنين فقال: من قتل هذه، فقال رجل أنا يا رسول الله غنمتها، فأردفتها خلفي فلما رأت الهزيمة فينا أهوت إلى قائم سيفي لتقتلني فقتلتها، فلم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم» وبذلك يتبين أن المرأة إذا قاتلت جاز قتلها، وإذا لم تقاتل لا يجوز قتلها. وأما الشيخ الفاني فإنه إن كان فانياً لم يبق فيه نفع للكفار، ولا مضرة على المسلمين فلا يجوز قتله للنهي عن قتله. وأما إن كان فيه نفع للكفار أو مضرة على المسلمين فيجوز قتله. وذلك لما روى أحمد والترمذي عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم». ولما روى البخاري من حديث أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من حنين بعث أبا عامر على جيش أوطاس فلقي دريد بن الصمة وقد كان نيف على المائة وقد أحضروه ليدبر لهم الحرب فقتله أبو عامر ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عليه. وعلى ذلك يحمل حديث أنس على الشيخ الذي لا نفع فيه، ولا ضرر منه، وهو الفاني كما ورد في نفس الحديث.

فهذه الأمور التي ورد النهي عن فعلها لا تفعل إلاّ حسب ما ورد به النص وما عدا ذلك فإنه يجوز، ولا يستفظع أي عمل يفعله المسلمون بعدوهم الكافر ما دام هذا العمل حصل في حالة الحرب، سواء أكان هذا العمل حلالاً، أم حراماً في غير الحرب. ولا يستثنى من ذلك إلا الفعل الذي ورد النص في النهي عنه في الحرب صراحة ¨

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *