العدد 102 -

السنة التاسعة – جمادى الأولى 1416هـ – تشرين الأول 1995م

الحزب السياسي ورجل الدولة واقعهما في الإسلام

بقلم: فتحي عبد الله

منذ أن ابتليت الأمة الإسلامية بالانحطاط الفكري الذي تتردى في وهدته منذ قرون من جراء إعراضها عن مبدئها فكرياً، وتعرضها لعوامل كثيرة أدت إلى هذا الانحطاط وإلى تعطيل التفكير عندها راحت تتردد على ألسنتها عبارات مفاده الرفض للأحزاب والتكتلات السياسية ونبذ لكل حركة جماعية تريد الأخذ بيدها لإنقاذها من وهدة هذا التخلف وهذا الانحطاط الفكري اللذين تتردى فيهما وإنهاضها من كبوتها.

مع أن الإسلام الذي تعتنقه منذ قرون طويلة وهو فكرة كلية عن الوجود وطريقة من جنس هذه الفكرة لتنفيذها في معترك الحياة، هو في واقعه عقيدة سياسية ينبثق عنها معالجات لمشاكل الحياة هي نظام الإسلام، ومع أن طبيعة هذه العقيدة، وواقعها أنها عقيدة جماعية تأنى بحاملها عن الفردية والأنانية والتقوقع الذاتي، وقد صهرت في بوتقتها جميع الشعوب التي اعتنقتها وجعلتها أمة واحدة ذات وجهة نظر واحدة في الحياة ومقياس واحد للأعمال وغاية واحدة لهذه الأعمال، ورفعت الأمة بأسرها إلى أعلى درجات السمو والمجد فجعلتها خير أمة أخرجت للناس تحم لغلى العالم مصابيح الهدى والنور ومشاعل العلم والعرفان فأظلته بوارف ظلال حضارتها العظيمة حيناً طويلاً من الدهر فكانت زهرة الدنيا الفواحة تتنسم الشعوب والأمم شذا عطرها وتنعم في ظلال حكمها بالراحة والطمأنينة والاستقرار… وظل حالها على هذا المنوال ستة قرون متوالية أمة كبرى ودولة كبرى لا بل الدولة الأولى في الموقف الدولي.

وحين تقاعست الأمة الإسلامية عن حمل رسالتها التي كلفت بحملها وقعدت عن الجهاد في سبيل الله وركنت إلى الدعة والراحة بعد أبطرتها النعمة واتبعت أذناب البقر، فلم تعد تلك الأمة العسكرية المجاهدة في سبيل الله، نزلت عن مكانتها الدولية التي كانت تتسنمها بين الدول والأمم فغُزِيتْ في عقر دارها من قبل التتار والدول الأوروبية، وصد قيها حديث رسولها الكريم صلوات الله وسلامه عليه وآله” «ما ترك قوم الجهاد إلا وغزوا في عقر دارهم وضربهم الله بالذل… »، هذا إلى جانب أنها طردت من أقطار كثيرة كانت تستظل بحكم الإسلام وتنعم بحضارته كالأندلس التي أغار عليها الأسبان قبل خمسمائة عام، ولم يقتصر الحال على ذلك بل إن أرذل خلق الله وأجبنهم قد تجرأوا على هذه الأمة وهم اليهود شذاذ الأفاق فطردوها من فلسطين وداسوا بنعالهم مقدساتها هناك.

صحيح أن الأمة الإسلامية قد أعادت الكرة بعد طرد الصليبيين والتتار بدافع من عقيدتها الجبارة ورجعت إلى احتلال مكانتها الدولية في الموقف الدولي بقيادة العثمانيين ولكنها كانت كرة عسكرية بحتة تمكنت من خلالها من فتح البلقان ودك أسوار فيينا ومحاصرة موسكو فكان حملها للرسالة التي ابتعثها الله تعالى لحملها إلى الأمم حملاً جامداً يختلف كل الاختلاف عن حملها لها في عصور الإسلام الأولى كعصر النبوة والعصر الراشدي والعصر الأموي حين كانت طاقة الإسلام تندفع جنباً إلى جنب مع الطاقة العربية، وهي قوة انتشار اللغة العربية وتأثيرها مما جعل الفتوحات الإسلامية الأولى فتوحات مثمرة منتجة حين راحت الشعوب والأمم تدخل في دين الله أفواجاً وتعتنق دين الفاتحين وتنصهر في بوتقة الإسلام وتحمله معهم إلى الشعوب والأمم.

وقد غرت هذه الفتوحات العسكرية الجديدة في أوروبا الدولة العثمانية ومن ورائها الأمة الإسلامية فغفلتا عن العمل الحقيقي الذي كان ينبغي لهما أن تقوما به وهو الإقبال على دراسة الإسلام وتنقية عقيدته مما علق بها من الشوائب عبر القرون، وذلك بفتح باب الاجتهاد الذي كان إغلاقه في الماضي طامة كبرى للأمة أدت إلى انحطاطها الفكري وتعطيل التفكير عندها من جراء فصل الطاقة العربية عن الطاقة الإسلامية في القرن السابع الهجري.

وفي منتصف القرن الثامن عشر الميلادي وقع الانقلاب الصناعي في أوروبا نتيجة لتفاعلات ما أطلقوا عليه عصر النهضة في أوروبا فتغيرت موازين القوى الدولية في العالم فأدى ذلك إلى نزول الدولة الإسلامية عن مكانتها الدولية كدولة أولى في الموقف الدولي وأضحت يطلق عليها الرجل المريض على البوسفور، وراحت الدول الأوروبية تفكر في وضع الخطط للقضاء عليها واقتسام أملاكها، وبدلاً من أن تقوم الدولة العثمانية بأعمال الفكر والنظر فيما آل إليه أمرها من هبوطها عن مكانتها الدولية ظلت هي والأمة الإسلامية واقفة مشدوهة في حيرة من أمرها أمام هذا الانقلاب الصناعي الذي حصل في أوروبا وغير موازين القوى… لا تدري ماذا يجب أن تأخذ وماذا يجب أن تترك من نتاج المدنية الغربية الذي ترتب على هذا الانقلاب الصناعي.

وما هذه الوقفة الحائرة من الأمة والدولة إلا نتيجة لما كانتا تترديان فيه من الانحطاط الفكري الذي عميت من جرائه الأبصار والعقول عن معرفة حكم الله تعالى في المستجدات من شؤون الحياة أي الجهل بالحلال والحرام وغموض هذا المقياس عند المسلمين لانعدام الاجتهاد الذي هو فرض على الكفاية، وإذا خلا المسلمون من مجتهد فهم جميعاً آثمون، فتراكمت مشاكل الحياة على الأمة الإسلامية دونما أي حلول لها فكان هذا ضغثاً على إبالة، مما جعل الأمة تتخلف عن ركب التقدم العلمي والمدني ففاتها القطار وهي جامدة في مكانها في حيرة من أمرها، ورغم هذا وذاك قامت في القرن الماضي حركات متعددة وجرت محاولات كثيرة من أجل النهضة والخروج من ذلك التخلف وما زالت هذه المحاولات تجري حتى يومنا هذا، إلا أنها كانت وظلت محاولات لم تنجح بالرغم من أنها تركت آثار فيمن أتى بعدها من الأجيال لإعادة المحاولات ثانية.

وحين نمعن النظر في هذه المحاولات وندقق في واقع تلك الحركات نجد أن السبب الرئيسي في فشل هذه المحاولات وإخفاق هذه الحركات راجع من ناحية تكتلية إلى أمور كثيرة أهمها:

أن هذه الحركات قامت في الماضي وما تزال تقوم على فكرة عامة غير محددة سواء منها الحركات التي قامت على الإسلام أو على فكرة القومية حتى أنها كانت غامضة أو شبه غامضة فضلاً عن أنها كانت تفتقر إلى التبلور والنقاء والصفاء، أي أنها لم تحدد في فكرتها هذه ما الذي يجب هدمه من الأفكار والمفاهيم والأعراف السائدة في المجتمع وما الذي يجب بناؤه، وبعبارة أخرى أنها لم تقم على الفكرة بشكل تفصيلي، ثم عن هذه الحركات لم تكن تعرف لها طريقة لتنفيذ فكرتها فكانت تسيرها بوسائل مرتجلة وملتوية فضلاً عن أنها كانت يكتنفها الغموض والإبهام. وكذلك فإن الأشخاص الذين كانوا يقومون بهذا الحركات ويضطلعون بعبء قيادتها كانوا أشخاصاً لم يكتمل لديهم والوعي الصحيح ناهيك عن الوعي السياسي الذي يعتبر الركيزة الأولى في قيادة الحركات الجماعية ومل تتمركز لديهم الإرادة الصحيحة للقيام بعملية الخلاص والنهضة بل كانوا فقط أشخاصاً تتملكهم الحماسة والرغبة ليس غير. ثم عن هؤلاء الذين اضطلعوا بعبء تلك الحركات لم يكونوا يعرفون رابطة صحيحة تربطهم في تلك التكتلات اللهم إلا مجرد التكتل الذي يأخذ صوراً من الأعمال وألفاظ متعددة من الأسماء، فلم تكن هذه التكتلات أكثر من جمعيات ولم ترق إلى مستوى الحزب السياسي أو الحركة الجماعية.

ولهذا لم يكن غريباً ولا عجيباً أن تندفع هذه التكتلات إن لم نقل هذه الجمعيات بما ليدها من مخزون الجهد والحماسة حتى ينفذ لتخمد حركتها ثم تنقرض ليقوم بعدها حركات ومحاولات أخرى من أشخاص آخرين لتقوم بالدور نفسه الذي قام به من سبقها ثم لا تلبث أن تفرغ مخزون حماستها وجهدها عند حد معين، وهكذا دواليك…

وكان إخفاق هذه الحركات جميعها أمراً طبيعياً لأنها لم تقم على فكرة صحيحة واضحة محددة ولم تكن تعرف لها طريقة واضحة مستقيمة لتنفيذ الفكرة، ولم تقم على أشخاص واعين يحملونها ويخوضون الصراع على أساسها، وأنها لم تكن تعرف لها رابطة تكتلية صحيحة تربط أفرادها وأجهزتها.

ورجوعاً إلى الفكرة والطريقة التي قامت عليها هذه الحركات إذا جاز أن نطلق عليها حركات، نجد أن فشلها ظاهر في خطأ الفلسفة التي قامت عليها إذا ما افترضنا وجود فلسفة لها سواء منها الحركات الإسلامية أو الحركات القومية…. إذ كان القائمون على الحركة الإسلامية يدعون إلى الإسلام بشكل مفتوح عام ويحاولون تأويل الإسلام وتفسيره تأويلاً وتفسيراً يتفقان مع الواقع القائم آنذاك أن يتفقان مع الأوضاع التي يراد أخذها من الأنظمة الأخرى حتى يصلح الإسلام للانطباق عليها وكي يكون هذا التأويل أو هذا التفسير مبرراً لبقائها أو أخذها: فهي مثلاً أولت الجهاد بأنه حرب دفاعية مع أنه حرب هجومية ومبادأة الكفار بالقتال وهو فرض كفاية ابتداءاً، وأولت الربا فأباحته بحجة الضرورة لمال القاصر، وأولت الزواج بأكثر من واحدة بإنه نظراً إلى كثرة النساء ولا سيما بعد الحروب ونظراً إلى المرض وما إلى ذلك من التعليل الذي ما أنزل الله به من سلطان واشترطوه بوجوب تحقيق العدل وهذا مستحيل، وأولوا الحكم بأنه ديمقراطي وجعلوا الشورى منه مع أنها ليست منه وإنما هي حق للرعية على الراعي… وقالوا عن ملكية الدولة إنها اشتراكية الإسلام وهكذا…

ثم إن هذه الحركات لم تكتف بهذا التأويل للإسلام بلي أعناق نصوصه، بل أمعنت في الالتصاق بالواقع بجعله مصدر تفكيرها فراحت تنادي بالإصلاح منخدعة بالمعروفين من دعاته في نهاية القرن الماضي ومطلع هذا القرن من أمثال مفتي الديار المصرية الشيخ محمد عبده وجمال الدين الأفغاني ومحمد رشيد رضا ورفاعة الطهطاوي وغيرهم من الذين أسسوا في المنطقة العربية ما يسمى بالمدرسة الإصلاحية التي تقوم على تأويل الإسلام وتفسيره ليوافق الواقع، وهي مدرسة خبيثة أوجدها الغرب الكافر ويمكن أن نطلق عليها مدرسة الإصلاح الإسلامية الغربية دونما أي حرج أو شعور بالوجل.

ولم يقتصر الأمر بها إلى المناداة بالإصلاح بل تعدته إلى القول بإصلاح الأخلاق لإصلاح المجتمع منخدعة بما أنزله الرأسماليون من مفهوم خاطئ للمجتمع بأنه مكون من أفراد… فإذا أصلحت الفرد صلح المجتمع، ناسية هذه الحركات أن مقومات المجتمع غير مقومات الفرد، وأن المجتمع عبارة عن علاقات عامة تحددها الأفكار وفي مقدمتها العقيدة والمشاعر والنظم المطبقة، فإذا فسدت الأفكار والمشاعر والنظم فسد المجتمع وإذا صلحت صلح. فقامت على تربية الفرد ومعالجة سلوكه، مع أن الأخلاق والسلوك نتائج مترتبة على ما يحمله الإنسان من مفاهيم عن الحياة وعن السلوك في الحياة، وليست أسساً يمكن بحثها أو مناقشتها…

كل ذلك لا لشيء إلا محاولة خبيثة من الكافر المستعمر لحرف المسلمين عن العمل السياسي الصحيح الذي ينقذ من هذا الواقع السيئ ويحدث النهضة لديهم، فبعد أن هدم الكافر المستعمر دولتهم أخذ المسلمون يتحسسون استرجاع هذه الدولة تحسساً سياسياً كما كان الألمان يتحسسون سياسياً استرجاع الرايخ الذي انهدم في الحرب العالمية الأولى مع الدولة الإسلامية، فاسترجع الألمان دولتهم على هذا الأساس.

أما المسلمون فإنهم لم يستطيعوا استرجاع دولتهم لانحرافهم عن العمل السياسي لاسترجاعها بواسطة هذه الحركات التي تلقفت إيحاءات الرأسماليين بأن المجتمع مكون من أفراد وبأن الأخلاق هي الأساس، وبأن إصلاح الفرد يصلح المجتمع، فانساق المسلمون وراء هذه الحركات من جراء عدم الوعي عليها وعلى أفكارها لا لشيء إلا لأنها كانت حركات إسلامية فقط، وحباً منهم للإسلام، فدارت معهم في حلقة مفرغة لا تعرف من أين تبدأ ولا أين تنتهي وأفرغت ما لديهم من مخزون الحماسة والجهد ثم انخمدت وماتت ليقوم بعدها من يعمل على منوالها سواء بسواء…

البقية في العدد القادم

ما معنى مزج الطاقة العربية بالطاقة الإسلامية؟

مزج الطاقة العربية بالطاقة الإسلامية يعني جعل اللغة العربية، وما فيها من قدرة على التأثير والتوسع والانتشار هي المعبرة عن الإسلام وما فيه من قدرة على التأثير والتوسع والانتشار. أما بالنسبة للغة العربية فإن جرس ألفاظها وتناغم جرس تراكيب كلماتها يحدث في السامع تأثراً وانسياقاً، وإن ما فيها من التعريب والمجاز والاشتقاق يجعلها قادرة على التعبير عن أي معنى وعن أي شيء، وإن ما في أدبها من شعر ونثر من حيث التراكيب بغض النظر عن المعاني يفتح لها آفاقاً لدى الناس والمجتمعات وهذا هو الانتشار. وأما بالنسبة للإسلام فإن القرآن الذي هو عربي علاوة على ما فيه من مزايا اللغة العربية فإنه من معانيه يمكن للمجتهد أن يعالج أي مشكلة باستنباط حكم لها، في أي عصر من العصور وهذا هو التوسع، ومن معالجته لمشاكل الإنسان من حيث هو إنسان لا مشكلة بيئية معينة يجعله ينتشر فوق كونه هدى للناس، ومن مخاطبته العقل وكونه فطرياً أي وفق الفطرة يؤثر تأثيراً كبيراً في الناس وهذا هو التأثير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *