العدد 360 -

السنة الواحدة والثلاثين – محرم 1438هـ – تشرين الأول 2016م

نظرةٌ عقليَّةٌ وشرعيَّةٌ في وُجوهِ بُطلانِ العقيدةِ النصرانية

بســم اللــه الرحمــن الرحيــم

نظرةٌ  عقليَّةٌ وشرعيَّةٌ في وُجوهِ بُطلانِ العقيدةِ النصرانية

أبو حنيفة – فلسطين

يمكنُ وصفُ العقيدةِ الصحيحة بأنَّها عقيدةٌ عقليةٌ أو عقيدةٌ مبنيَّةٌ على العقل، فهي عقيدةٌ عقليةٌ أي تُوصِّلَ إليها بالعقل، وهي مبنيَّةٌ على العقل، أي قامت على أساسِ إعمالِ الفِكرِ المستنيرِ فيما يقعُ عليهِ الحس، من  موادِّ الكونِ والإنسانِ والحياة؛ فينشأُ عن هذهِ النظرةِ المستنيرةِ إدراكٌ أو يقينٌ أو إيمانٌ بوحدانِيَّةِ اللهِ ورُبوبِيَّتِه وسُلطانِهِ المـُطلقِ على كُلِّ الحوادِثِ والموجودات، وقد جاءت الرسالاتُ السماوِيَّةُ كُلُّها لتجسيدِ هذهِ الحقيقة، والعقيدةُ النصرانِيَّةُ التي نزلت على المسيحِ – عليه السلام – واحدةٌ من الرسالاتِ السماوِيَّةِ التي جَسَّدت هذه الحقيقَةَ، حقيقةَ لا إِلهَ إلا الله… قالَ اللهُ تعلى: ( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ).

إِلا أنَّ العقيدةَ النصرانِيَّةَ لم تبقَ على أصلِها الذي جاءت به، أي لم تبقَ على الدعوةِ إلى التوحيد، فقد ضَلَّت النصارى وأَضَلَّت، حتى انتهى الحالُ بالشعوبِ النصرانِيَّةِ إلى الاعتقادِ بألوهِيَّةِ المسيح، ومن ذلِكَ الاعتقادُ بالأقانيمِ الثلاثةِ – الآب والابن والروح القدس – وقبلَ أن نخوضَ في تفاصيلِ هذهِ الضلالات، لا بُدَّ من التَّأكيدِ على الحقائق القطعِيَّةِ التالية:

أولًا: إِنَّ النصرانِيَّةَ ليست رسالَةً عالمِيَّةً، أي أن اللهَ تباركَ وتعالى لم يُكَلِّف المسيحَ ولا أتباعَهُ بدعوةِ غيرِ بني إسرائيلَ إلى النصرانِيَّةِ، بل إِنَّ المسيحَ جاءَ لتقويمِ اعوجاجِ بني إسرائيلَ من بعدِ ما انحرفوا عن شريعةِ موسى – عليه السلام – جاءَ في [ إنجيلِ مَتَّى  الإصحاح 15:24] «لم أُرسَل إلَّا إلى خرافِ بيتِ إسرائيلَ الضالة» والقرآن الكريم يؤكِّدُ هذه الحقيقةَ، وذلك في قولِه تعالى: ( وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ).

ثانيًا: إِنَّ العقيدةَ النصرانِيَّةَ اليومَ ليست عقيدةً عقليةً ولا مبنيةً على العقل، فهي لا تقنعُ العقل ولا توافق الفطرة، ولا تبرز ما في الإنسانِ من عجزٍ واحتياجٍ إلى الخالق المدبر، وبالتالي لا تشبعُ غريزةَ التديُّن، ولا يُبنى على هذه العقيدةِ أحكامٌ وأفكارٌ ومعالجاتٌ لمشاكِلِ الحياةِ كُلِّ الحياة، ومن ثَمَّ لا تصلح أن تكونَ  النصرانيةُ مبدأً تتبناهُ  أُمَّةٌ ودولةٌ تعملُ على حملِ هذا المبدأِ حملًا حضاريًا عالميًا.

ثالثًا: لكل نَبِيٍّ معجزةٌ خَصَّهُ اللهُ بها، ومعجزةُ المسيحِ لم تكن في الإنجيلِ نفسِه، أي لم تكن في مادَّةِ الإنجيلِ أي في لُغَتِه، فلم تكن لغةُ الإنجيلِ لغةً معجزةً كما هو الحالُ في القرآنِ الكريم؛ ما جعلَهُ عُرضةً للتغييرِ والتحريفِ والاستبدالِ.

رابعًا: ما من نَبِيٍّ إلا وبَشَّرَ بِبعثَةِ سيدنا محمدٍ – صلواتُ ربي وسلامُه عليه – بمن فيهم عيسى – عليه السلام – جاءَ في إنجيل برنابا: «فلَمَّا التَفَتَ آدَمُ رأى مكتوبًا فوقَ البابِ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ محمدٌ رسولُ الله» [ برنابا: 41 / 33]. وبرنابا هذا أحدُ حوارِيِّي المسيح، وجدَ مخطوطاتِ إنجيلِهِ راعٍ أُردُنِيٌّ عام 1948م في كهوفِ وادي قمران قُربَ البحرِ الميت، وقد وقعت هذه المخطوطاتِ بيدِ اليهودِ رغمَ أَنَّها من حقِّ الأردن، يقولُ القِسُّ «باول ديفوز» رئيسُ كهنةِ كُلِّ القِديسينَ في واشنطن في الصفحةِ الأولى من كتابِهِ «مخطوطاتِ البحرِ الميت» إِنَّ مخطواطاتِ البحرِ الميتِ، وهي من أعظَمِ الاكتشافاتِ أهميةً منذُ قرونٍ عِدَّةٍ، قد تُغيرُ المفهومَ للإنجيلِ؛ لأنَّ فيها اعتراضًا على صِحَّةِ العقيدةِ النصرانيةِ [الأستاذ ثابت الخواجة: هل العقيدة النصرانية عقيدة عقلية].

خامسًا: إنَّ العقيدةَ الإسلاميةَ وحدَها العقيدةُ العقليَّةُ التي تتفقُ مع فِطرةِ الإنسان، وتبرِزُ ما فيهِ من عجزٍ واحتياجٍ إلى الخالقِ المـُدَبِّر، وتشبِعُ غريزَةَ التَّدَيُّن على وَجهٍ يوجِدُ الطمأنينَةَ والسكينةَ في النفس، وينبثِقُ عن هذهِ العقيدةِ أفكارٌ وأحكامٌ شاملةٌ لكُلِّ نواحي الحياة؛ وبذلكَ تكونُ العقيدةُ الإسلاميةُ عقيدةً عقليَّةً صحيحةً تُجزئُ معتنِقَها وَتُبْرِئ ذِمَّتَه في الدنيا والآخرة، وعقيدةً سياسيةً ينبثقُ عنها نظامٌ تتبناهُ دولةُ الخلافةِ الإسلامية، وتحمِلُهُ وتدعو إليهِ عالميًا للنهوضِ بالبشريةِ نهضةً صحيحةً على أساسٍ روحِيٍّ.

سادسًا: إِنَّ العلاقةَ بينَ المسلمينَ وأهلِ الكتابِ – اليهود والنصارى – تقومُ على أساسِ دعوتِهِم إلى الإسلامِ بالحُجَّةِ والجدالِ ومنهُ المباهلة، على أن يكونَ موضوعُ الجدالِ في المعقولِ لا  في المنقول، أي في أصل الرسالةِ النصرانيةِ؛ وذلكَ بإثباتِ أزَلِيَّةِ اللهِ ووحدنِيَّتِهِ وتَفَرُّدِهِ بصفاتِ الجلالِ والكمال، وإثباتِ بَشَرِيَّةِ المسيحِ – عليه السلام – ونُبُوَّتِهِ كأيِّ نَبِيٍّ بَعثَهُ الله تعالى، وإثباتِ أَنَّ الروحَ القُدُسَ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بالوَحي، وإثباتِ أنَّ الأناجيلَ المتجددةَ والمتعددةَ التي يؤمنُ بها النصارى ليست من كلامِ الله تبارك وتعالى، وأنَّ ما يؤمنونَ بِهِ ويدعونَ إلَيهِ من أفكارٍ عقَدِيَّةٍ  كُفرٌ محضٌ لايُبرِئُ ذِمَّتَهُم في الدنيا ولا في الآخرة.

 قُلنا إنَّ النصرانيةَ جاءت لِتقويمِ اعوجاجِ بني إسرائيل، وقد ظهرت النصرانيةُ في مجتَمعٍ يهودِيٍّ انحرفَ عن تعاليمِ التوراة، وفي بيئَةٍ غايَةً في التعقيد تأَثَّرت بالفلسَفَةِ اليونانِيَّة، [ شارل بير / كتاب المسيحية نشأتها وتطورها ص32-33 ]

والنصارى اليومَ يَتبَعونَ ثَلاثَ كَنائسَ رَئيسة: الكنيسَةِ الكاثوليكِيَّةِ الغربِيَّةِ ومقَرُّها الفاتيكان بروما، والكنيسَةِ الأرثوذوكسِيَّةِ الشرقِيَّةِ ومركَزُها الاسكندَريةُ والقسطنطينيَّة، والكنيسَةِ البروتستانتِيَّةِ الإنجِيلِيَّة وليسَ لها مركز مُحدَّد، وتُعَدُّ بريطانيا حامِلةَ لوائِها، وتتفقُ هذهِ الكنائِسُ الثلاثُ على فِكرةِ التثليثِ، والخطِيئَةِ الموروثَةِ التي انبَثَقت عنها فِكرةُ الصَّلبِ والفداء، مع اختلافِها في تحديدِ طبيعَةِ المسيح: أهُوَ بشرٌ في إله؟ أم إلّهٌ في بشر؟ ويمكنُ إرجاعُ التعاليمِ النصرانيَّةِ التي يؤمِنُ النصارى بها اليومَ إلى أربَعةِ مصادرَ رئيسةَ وهي:

المصدرُ الأول: العهدُ القديم

ويشملُ التوراةَ بأسفارِها الخمسةِ وأسفارَ تاريخِ بني إسرائيلَ وتقعُ في عشرينَ سفرًا، ويشملُ كذلكَ ما يُسمونَهُ المكتوبات من مزاميرَ وأمثالٍ والمجلاتِ الخمسَةِ. ويُقررُ الكاتبُ اليهودِيُّ «وُول ديورانت» أَنَّ أسفارَ العهدِ القديمِ جُمعت لِأوَّلِ مرةٍ في بابلَ  أيامَ السبْيِ، وظهرت في القرنِ الخامِسَ عشرَ قبل الميلاد. وفي دراسَةٍ لهُ عن العهدِ القديم، تساءَلَ  الطبيبُ الفرنسِيُّ «موريس بوكاي» من هُوَ مؤلِّفُ العهدِ القديم؟ فيُجيبُ عنه قائلًا: كم مِن قارِئٍ للعهدِ القديمِ يُلقى عليهِ هذا السؤالُ فلا يجدُ جوابًا إلا مُرَدِّدًا ما قرأهُ في مدخَلِ التوراة، بأنَّ مُؤلِّفَ هذهِ الكُتبِ كُلِّها هوَ اللَّه ، وأنَّ الذينَ كتبوها هم بشرٌ من الذينَ أوحى الروحُ القُدُسُ إليهم [بوكاي : التوراة والإنجيل والقرآن والعلم ص 15] ثم يستأنفُ بقولِه: «ولقد كانت هناكَ نحوَ القرنِ الثالِثِ ق.م ثلاثةُ أشكالٍ لِنَصِّ التوراةِ العِبريِّ، على الأقل: نصُّ الشارحينَ اليهود، والنَّصُّ المستخدمُ في جُزءٍ من الترجمَةِ اليونانِيَّة، ونصُّ الأسفارِ السامِريَّةِ الخمسة، وظلَّ الأمرُ على ذلكَ إلى القرنِ الأولِ بعدَ الميلادِ حتى أصبحَ نصُّ التوراةِ مُوحّدًا [بوكاي ص 16] وهذا يعني أنَّ التاريخَ اليهودِيَّ لم يشهد نُسخةً واحدةً للعهدِ القديمِ مُتداولةً بينهم، لقد امتدَّت يدُ العَبَثِ اليهودِيَّةِ إلى نصوصِ التوراةِ. وفي هذا المعنى يقولُ الدكتورُ أحمدُ شلبيُّ في كتابِهِ: «اليهودية» ص 251: «وحقيقةُ القولِ أَنَّ اليهودَ بعدَ أن انحرفت اعتقاداتُهُم وطِباعُهُم، تخَلَّصوا مِن أسفارِ موسى الحقيقِيَّة».

المصدرُ الثاني: العهدُ الجديد

 وهوَ الشطرُ الثاني للكتابِ الـمُقدَّسِ عندَ النصارى، ويضُمُّ الأناجيلَ الأربعةَ: مَتَّى ومرقص ولوقا ويوحنا، ورسائِلَ بولس، ورسائِلَ نُسبت إلى بعضِ تلاميذِ المسيح، وهُنا يجدُرُ بنا أن نُشيرَ إلى الأسفارِ التعليميةِ التي تشتمل على 22 رسالة ، قامَ بتأليفِ أكثرِها بولُس «شاوول اليهودي» والذي لا يمُت بِصلةٍ إلى عيسى – عليه السلام – ولا إلى الحوارِيِّين، وأغلبُ أفكارِ النصارى العقديةِ والتشريعيةِ تعتمِدُ على رسائِلِه، ولا يستطيعُ أحدٌ أن يَدَّعي أنَّ هذهِ الأناجيلَ أو واحدًا منها هو الإنجيلُ الذي نزلَ على المسيح وحيًا من عندِ الله، يقولُ المستشرقُ الفرنسيُّ « إيتين دِينِيه»: «إِنَّ نصوصَ الإنجيلِ تبعثُ في النَّفسِ الشكَّ في صِحَّةِ تلكَ الأناجيلِ التي بينَ أيدينا، لأنَّ الإنجيلَ الموحى بِهِ من عِندِ اللَّهِ إلى المسيحِ بِلُغَتِهِ ولغةِ قومِهِ ضاعَ واندَثَر ولم يَبقَ لهُ أثر. وقد وردَ في دائِرةِ المعارِفِ الفرنسيَّةِ أنَّ الأناجيلَ الأربَعَةَ المعتَمَدةَ لَدَى النصارى ما ظَهرت إلا بعدَ ثلاثةِ قُرونٍ من تاريخِ المسيحِ، وهيَ متعارِضَةٌ متناقِضَةٌ مجهولةُ الأصلِ والتاريخ [محمد عزت الطهطاوي / الميزان في مقارنةِ الأديان ص 116] كما لا بُدّ! من أن نعلمَ أن الأناجيلَ الأربعةَ: «متَّى ومرقص ولوقا ويوحنا» لم تُدَوَّن في زمنٍ واحد، ولم تُكتب بلغةٍ واحدة، وهي ليست مما كتبَهُ المسيحُ، أو مما أملاهُ على تلاميذِهِ، أو مما كُتبَ في زمانِهِ فأقَرَّه، وتحتوي هذهِ الأناجيلُ على نصوصٍ فيها مِنَ المـُغالطاتِ والتناقُضاتِ فيما بينها مما يؤكدُ استِحالَةَ نسبَتِها إلى الوحي، وهذهِ طائفةٌ من النصوصِ التي تنطِقُ ببطلانها:

1- ما جاءَ في إنجيلِ لوقا: «أَتظنونَ أَني جئتُ لِأعطي سلامًا على الأرضِ، كلا بل انقسامًا؛ لأنهُ يكونُ مِنَ الآنَ خمسةٌ في بيتٍ واحدٍ مُنقسمينَ، ثلاثةٌ على اثنين واثنانِ على ثلاثةٍ، ينقسمُ الأبُ على الابنِ والابنُ على الأب، والأمُّ على البنتِ والبنتُ على الأم، والحماةُ على كِنَّتِها والكنَّةُ على حماتِها [لوقا الإصحاح 12 / 49 – 53] فهل هذا من كلامِ الله؟ تعالى اللَّهُ عن ذَلكَ عُلُوًّا كبيرًا.

2- نصوصٌ متضاربةٌ في الأمر الواحد : ومن ذَلكَ ما جاءَ في «مَتَّى»: أنَّ يوسفَ بنُ يعقوب، وفي «لوقا» أنهُ ابنُ هالي، وفي «مَتَّى» أنَّ عيسى من أولادِ سُليمانَ بن داود. وفي «لوقا» أنهُ من أولادِ ناثانَ بنِ داود. وفي «مَتَّى» من داود إلى المسيح سِتَّةٌ وعشرونَ جيلًا، وفي «لوقا» واحدٌ وأربعونَ جيلًا.

3- تضاربٌ في النُّسخِ الثلاثِ للكتابِ المقدَّس – العِبريَّةِ المعتمدَةِ عندَ اليهودِ والبروتستانت، واليونانِيَّةِ المعتمدةِ عندَ الكاثوليك، والسامِريَّةِ المعتمدَةِ عندَ السامِرِيِّينَ – فيماَ يتعلقُ بالمدةِ من خلقِ آدمَ إلى طوفانِ نوحٍ – عليهما السلام – ففي النسخةِ العبرانِيَّةِ 1656 سنة، وفي النسخةِ اليونانِيَّةِ 2262 سنة ، وفي السامِريَّةِ 1307 سنوات [الأستاذ ثابت الخواجة/ هل العقيدة النصرانية عقيدة عقلية]

المصدرُ الثالث: رسائلُ بولس وضلالاتُه.

 وبولس هذا يهوديٌّ رومانِيٌّ  اسمُهُ شاوول، كانَ من أَلَدِّ أعداءِ النصرانيَّة، وادَّعى اعتناقَها بل وصلَ إلى مرتبةِ  «القِدِّيس» فيها، وهوَ القائِلُ عن نفسِه: فإِنِّي إِذ كُنتُ حُرًّا من الجميعِ، استعبَدتُ للجميعِ لأربَحَ الأكثرينَ، فصرتُ لليهودِ كَيَهودِيٍّ لأربَحَ اليهود، وللذينَ تحتَ الناموسِ كأني تحتَ الناموسِ لأربَحَ الذينَ تحتَ الناموس، وللذينَ بلا ناموسٍ كأني بلا ناموس… صرتُ للكُلِّ كُلَّ شيءٍ؛ لأُخلِّصَ على كُلِّ حال قومًا [الأستاذ ثابت الخواجة: محاضرة هل العقيدة النصرانية عقيدة عقلية؟]  فهنيئًا للنصارى ببولس هذا، الذي يُصرحُ بيهودِيَّتِهِ بقوله: «أنا فريسيٌّ ابنُ فريسيٍّ، على رجاءِ قيامةِ الأموات أنا أُحاكم». يقولُ وُل ديورانت: «ولقد أنشأ بولس لاهوتًا لا نجدُ له إلا أسانِيدَ غامِضةً أشَدَّ الغموضِ في أقوالِ المسيح، أما أسُسُ هذا اللاهوتِ فأهَمُّها أَنَّ كُلَّ ابنِ أُنثى يزنُ خطيئةَ آدَمٍ، ولا شيءَ يُنجِّيهِ مِنَ العذابِ الأبَدِيِّ إلا موتُ ابنُ اللَّهِ ليُكَفِّرَ بموتِهِ عن خطيئَتِه» [ول ديورانت: 11 / 264]  وأدخلَ بولُس على النصرانِيَّةِ فكرةَ التطَهُّرِ بالتعميدِ، وعنِ الوثَنِيَّةِ أضافَ فكرةَ تضحيةِ الربِّ بنفسِهِ تكفيرًا عن خطايا البشر، وأضافَ فكرةَ الأكلِ الجماعِيِّ للخبزِ الذي يرمزُ – حسبَ زعمِهِ – إلى جسدِ المسيح وشُربَ الخمرِ الذي يرمزُ إلى دم المسيح، وهوَ الذي جعلَ النصرانِيَّةَ دعوةً مفتوحةً لجميعِ الأمم، وهوَ الذي أبطلَ الختانَ وأباحَ الخنزيرَ ونقلَ العيدَ منَ السبتِ إلى الأحدِ مُراضاةً للوثنيين.

المصدرُ الرابع   : المجامعُ الكنسية

 إنَّ جُملةً من الأفكار النصرانيةِ لا تستندُ إلى الكتابِ المقدسِ بعهديهِ القديمِ والجديد، وإنما تَمَّ اعتمادُها وتبنِّيها في مجامِعَ كنَسيةٍ ظُلمًا وعُدوانًا على الله، ومن هذهِ المجامع:

1- مجمعُ نِيقِية الذي انعقدَ سنةَ 325م في مدينةِ نِيقِيةِ برعايةِ الإمبراطورِ قسطنطين لِحلِّ قضيةِ خلافٍ عَمَّت أرجاءَ الدولةِ الرومانية، بينَ آريوسَ الذي كانَ يتبَنى رأيَ الموحِّدينَ،  ورئيسِهِ إلِكسندروسَ بطريركِ الإسكندريةِ الذي كانَ يتبنى رأيَ المـُؤلِّهينَ للمسيح، وقد وقفَ الباعثُ السياسِيُّ وراءَ انعقادِ هذا المجمَعِ، وما صدرَ عنهُ من قراراتٍ تَبَنَّت في نهايةِ المطافِ ألوهِيَّةَ المسيح، في حرصٍ من الإمبراطورِ قسطنطينَ الذي لم يكن قد مضى على اعتناقِهِ للنصرانِيَّةِ بضعَ سنوات، في حرصٍ منهُ على تثبيتِ دعائِمِ إمبراطوريتِهِ ، حتى لو كانَ ذلكَ على حسابِ إيمانِ الناسِ ومصيرِهم في الحياةِ الأبديَّة! وعلى الرغمِ من أنَّ الذينَ حضروا هذا المؤتَمرَ في بدايتِهِ كانوا حوالي 2048 أسقفًا ، إلا أَنَّ قسطنطينَ تَبنَّى رأيَ 318 أسقفًا منهم. وهؤلاءِ كما يقولُ ابنُ البطريكِ جعلَ لهم الإمبراطورُ مجلسًا خاصًا وجلسَ في وسطِهم وقال لهم: لقد سَلطتُكُم اليومَ على مملكتي لتصنعوا ما ينبغي لكم أن تصنعوهُ مما هُوَ قُوامُ الدينِ وصلاحُ المؤمنين… فباركوا الملكَ وقَلَّدوهُ سيفَهُ وقالوا لهُ: أظهِر دينَ النصرانيةِ [أبو زهرة : محاضرات في النصرانية / ص139] وبذلكَ تبنَّى المـُؤتمرُ رأيَ الأقلِيَّةِ مدعومينَ بسيفِ الإمبراطورِ وإرهابِهِ الفكرِيِّ الذي أغضَبَ الغالِبِيَّةَ الذينَ خرجوا محتجينَ على طريقةِ سيرِ أعمالِ المؤتمرِ وقراراتِهِ التي منها: الكنيسةُ الرسولِيةُ تُحرمُ القولَ بأنَّ الزمنَ قد خلا من ابنِ الله بتاتًا، طردُ كُلِّ من يخرجُ على هذهِ العقيدة، وقد حَكمَ المجمَعُ على آريوسَ ومن معهُ من دعاةِ التوحيدِ وبشريَّةِ المسيحِ باللعنةِ والحرمان، وصدرَ مرسومٌ إمبراطورِيٌّ بحرقِ كُتبِ آريوسَ جميعِها، ويجعلُ إخفاءَ أيِّ كتابٍ منها جريمةً يُعاقَبُ عليها بالإعدام، [ول ديورانت: قصة الحضارة  396 : 11]

2-  مجمعُ القسطنطينيةِ الأول الذي انعقدَ سنةَ 381م بحضورِ 150 أسقفًا، تَتِمَّةً لقراراتِ مجمعِ نيقيةَ  الذي أقَرَّ بألوهِيَّةِ المسيحِ وأنهُ ابنُ الله، ولكنهُ لم يبحث علاقَةَ الألوهِيَّةِ بالروحِ القُدس؛ حيثُ أقرَّ هذا المجمعُ ألوهِيَّةَ الروحِ القُدُسِ إتمامًا لثالوثِ الأقانيمِ الثلاثة. سبحانَ اللهِ وتعالى عن كُلِّ ذلكَ عُلُوًّا كبيرًا.

3- مجمعُ إفسـس الأولِ الذي انعقدَ سنة 431م ، وقد بلغَ أعضاءُهُ  كما يقولُ ابنُ البطريك: 200 أسقفًا، وفيهِ أُقِرَّ بتأليهِ مريمَ العذراءِ، وأنَّ مريمَ العذراءَ والدةُ الله، وأنَّ المسيحَ إِلَهٌ حقٌّ وإنسانٌ معروفٌ بطبيعَتَينِ متوحِّدٌ بالأقنوم… وهذهِ إضافةٌ أخرى بل قُل مهزلةٌ أخرى تُضافُ إلى سِجلاتِ الضالين الذينَ ضَلُّوا  بِشِركِهِم وأضَلُّوا  أُممًا وشعوبًا سقطت في أوحالِ الكُفرِ اتِّباعًا للهوى، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله! بقي أن نقولَ في هذا المجال: إن صاحبَ كتابِ «سوسنةِ سليمانَ في أصولِ العقائِدِ والأديان» نوفل أفندي نوفل، قد أحصى عددَ المجامِعِ العامةِ مِنَ القرونِ الأولى للمسيحيةِ حتى سنةِ 1869م فكانت عشرينَ مجمعًا  يلعنُ بعضُها بعضًا في مشاهِدَ مُبكيةٍ ومضحكةٍ في آن، ولا ننسى هَهُنا أن نُشيرَ إلى آخرِ هذهِ المجامِعِ سنةَ 1964م ، حيثُ غُسلت فيه أيادي اليهودِ وبُرِّئُوا من دمِ المسيحِ الذي صَلَبَهُ اليهودُ وقتلوهُ بزعمهم.

 والآنَ نأتي إلى الأفكارِ العقَدِيَّةِ الأساسيةِ التي تتفقُ عليها الكنائِسُ النصرانيةُ الثلاثِ مع اختلافٍ شَكلِيٍّ  فيها، عدمُهُ خيرٌ من وجودِه:

 أولًا : التثليثُ والأقانيم.

وهي فكرةٌ خبيثةٌ، بذرَ بِذرتَها الأولى بولس، ثم حملَ لواءَها بطريركُ الإسكندريةِ المتأثرُ بالفلسفةِ الأفلاطونيَّةِ التي عرفت التثليثَ من قبل، حتى صارت رُكنًا من أركانِ العقيدةِ النصرانيةِ اكتملت في مجمعِ القسطنطينيةِ سنة 381م.

 إنَّ التوحيدَ عقيدةٌ أصيلةٌ نزلت مع آدمَ – عليه السلام – ودعا إليها كُلُّ الأنبياءِ، يقولُ تعالى: ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) والمسيحُ – عليهِ السلامُ – براءٌ مِنَ التثليثِ وأقانيمِه يقولُ تعالى: ( وَإِذ قالَ اللَّهُ يا عِيسى ابنَ مَريَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلناسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قالَ سُبحانَكَ ما يَكونُ لي أَن أَقولَ ما لَيسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلتُهُ فَقَد عَلِمتَهُ تَعلَمُ ما في نَفسي وَلا أَعلَمُ ما في نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الغُيوب). ومعَ كُلِّ ما وَقَعَ على العهدَينِ القديمِ والجديد من تحريف؛ إلا أَن نصوصًا كثيرةً منها تدعو إلى التوحيدِ، ليعلَمَ النصارى أنَّ أصولَ رسالَتِهِم مُسَلَّمةٌ لا شِركَ فيها، ففي العهدِ القديم: «اسمع يا إسرائيل، الرَّبُّ إِلَهُنا واحدٌ، فَلْتُحِبَّ الرَّبَّ إِلَهَكَ من كُلِّ قَلبِكَ ومن كُلِّ نَفسِكَ ومن كُلِّ قُوَّتِك، ولتَكُن هذهِ الكلماتُ التي أنا أوصِيها بِكَ على قَلبِكَ وقُصَّها على أَولادِكَ، وتَكَلَّم بِها حينَ تجلِسُ في بَيتِكَ وحينَ تَمشي على الطريقِ، وحينَ تنامُ وحينَ تقومُ» [سفر التثنية.] وفي العهدِ الجديد جاءَ في إنجيلِ مَتَّى أنَّ إبليسَ طَلبَ من يسوعَ المسيحِ أن يسجدَ لَهُ من دونِ اللهِ، فقالَ لهُ يسوعُ: «اذهب يا شيطان؛ لأنَّهُ مكتوبٌ: لِلرَّبِّ إلَهِكَ تسجُدُ، وإِياهُ وَحدَهُ تعبد» [مَتَّى / 4 : 10] وفي إنجيلِ لوقا يُناجي المسيحُ رَبَّهُ فيقول: «أَحمدُكَ أيُّها الرَّبُّ، رّبُّ السماءِ والأَرضِ» [لوقا / 10 : 21] وكذلِكَ الحالُ في إِنجيلِ يوحَنَّا، فإِنَّ المسيحَ يرفعُ عَينَيهِ نحوَ السَّماءِ فيقول:  «وهذهِ الحياةُ الأَبَدِيَّةُ أن يُوفوكَ الإلَهَ الحقيقِيَّ وحدهُ، ويسوعُ المسيحُ الذي أرسلتَهُ» [يوحنا / 17:3].

وفكرةُ التثليثِ هذهِ لا تصمُدُ أمامَ الفكرِ  المستنير، وتأباها العقولُ السويَّة، فلا المسيحُ ثلاثةٌ في واحدٍ كما تؤمنُ الكنيسةُ الكاثوليكية، ولا هوَ واحدٌ في ثلاثةٍ كما تؤمنُ الكنيسةُ الأرثوذكسية، وللفريقِ الأولِ نقول: إنهُ يلزمُ من كونِ المسيحِ ذا طبيعَتَينِ – لاهوتيةٍ وناسوتِية – أن يتصفَ بصفاتِ العجزِ البشريِّ وصفاتِ الأزليةِ في آن، والعقلُ السَّوِيُّ يأبى أن يكونَ المسيحُ الإنسانُ الذي يأكلُ الطعامَ ويشربُ الشرابَ ويقضي حاجَتَه في الخلاء مخلوقًا  يجمعُ بينَ المتناقِضَين!. يقولُ الواحدُ الأحدُ، في القرآن الكريم: ( لقد كَفَرَ الذينَ قالوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وما مِن إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ واحِدٌ ) وللفريقِ الثاني نقول: إنَّ قولَكُم – يا ويلَكُم من الله – بأنَّ المسيحَ ذو طبيعةٍ إِلَهِيَّةٍ واحدةٍ يلزمُ منهُ تقاسُمُ صفاتِ الألوهِيَّةِ ومشاطرتُها إلى ثلاثةِ أثلاث بينَ الأقانيمِ الثلاثة! بينَ الأب والابنِ والروحِ القُدُس، فأيُّهُم الإلَهُ المُهيمِنُ على الحوادثِ والموجودات؟ ومن خلقَ السماواتِ والأرضَ وما بينهما؟ ومن لهُ الخلقُ والأمرُ من قبلُ ومن بعد؟ ومن يتوفى الأنفُسَ حينَ موتِها والتي لم تمُت في منامها؟ ومن سيُحيي الموتى ويبعثُ من في القبور يومَ البعثِ والنشور؟ ومن يسوقُ الكافرينَ إلى جهنَّمَ زُمَرًا ؟ ومن يسوقُ المتقينَ المـُوحِّدينَ من عبادِهِ إلى الجنةِ زُمرًا؟ يقولُ الحقُّ المـُنَزَّهُ عنِ الشريكِ والمثيل: ( لقد كَفَرَ الذينَ قالوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ المسيحُ ابنُ مَريم ). ومِن فَمِكُم ندينُكم أيها الضالَّون، يقولُ  الأبُ زكي شنودة: «وهذهِ حقيقةٌ تفوقُ الإدراكَ البَشَرِيَّ الذي لا يفهمُ إِلا أَنَّ الطبيعَةَ الإلَهِيَّةَ إنما تتضَمَّنُ أقنومًا واحدًا»

 إنَّ الأَزَلِيَّةَ من لوازمِ صفاتِ الأُلوهِيَّةِ التي لا يمكن أن تتجَزَّأَ أو تتوَزَّعَ على اثنينِ أو ثلاثةٍ. ولو كانَ الأمرُ كذلكَ لَذَهَب كُلُّ إِلَهٍ بما خلقَ، ولعلا بعضُهُم على بعضٍ، قال تعالى: ( لَو كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبحانَ اللَّهِ رَبِّ العَرشِ عَما يَصِفون  ) وقال سبحانهُ في عليائه: ( ما اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وما كانَ مَعَهُ مِن إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعضُهُم على بَعضٍ سُبحانَ اللَّهِ عَما يَصِفون )

ثانيًا : الصلبُ والفداء

وهي فكرةٌ فلسفيةٌ تنزعُ إلى الوثنية، وتقضي بأنَّ المسيحَ ابنَ الله أنزَلَهُ اللَّهُ على الأرضِ ليُقدمَ نفسَهُ قُربانًا على الصليبِ تكفيرًا لخطايا بني آدَمَ التي ورثوها عن خطيئَةِ آدمَ بأكلِهِ من الشجرةِ التي نُهي عنها في الجنة… فهل من المعقولِ أن يأخذَ اللَّهُ الناسَ بجرائرَ لم يرتكبوها؟ أو يحاسبَ اللهُ الناسَ على خطيئَةٍ غَفَرها لمرتكِبِها؟ يقولُ الجليلُ في عليائِه: ( فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَبِّهِ كَلِماتٍ فتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرحيم ) وفي سِفرِ التثنِيةِ وردَ ما يُعَزِّزُ ذلك: « كُلُّ إِنسانٍ بخطيئَتِه يُقتل»

 وهذهِ مُصيبَةٌ أخرى: يُرسلُ الرَّبُّ ابنَهُ الوحيد تضحيةً وفداءً للبشر! يتأَلَّمُ فداءً لهم ويموتُ من أجلِ خلاصِهم، ثم يقبلُ أن يُقبضَ عليهِ كاللصوصِ، ويُقادَ بالقيودِ إلى خشبةِ الصَّلبِ، يُدَقُّ بالمسامير، ويوضعُ تاجُ الشوكِ استهزاءً به على رأسهِ، ويُبصقُ في وجهِه، ويتلقى من الإهاناتِ الكثير، ثم يستصرخُ قائلًا «إيلي إيلي لِمَ شَبَقتني»  أي إلَهي إلَهي لِمَ تَركتني؟ فكيفَ يصرخُ المسيحُ متألَّمًا مُعاتِبًا رَبَّهُ وقد نزلَ وصُلِبَ طائِعًا غيرَ مُكرَه؟ وإذا كانَ اللَّهُ قد غفَرَ لبني آدمَ عثرةً لم يرتكبوها، فكيفَ يغفرُ لهم خطيئَتَهم بصلبِ ابنِهِ الوحيدِ وقتلِه؟ في الوقتِ الذي نَجِدُ فيهِ أنَّ إنجيلَ يوحنا  [19/ 11]  يُحَمِّلُ الإثمَ والخطيئَةَ للرجلِ الذي أَسلَمَ المسيحَ إلى صالِبيهِ وقاتِلِيه: «حقًّا إِنَّ هذا لأمرٌ عُجاب!»

وهل علِمَت النصارى أَنَّ عبدَ الأحدِ داود صاحبَ كتاب «الإنجيل والصليب» قد أسلَمَ بعد أن   أَنعَمَ عقلَهُ في خرافةِ الصلبِ والفداءِ هذه؟  إضافةً إلى ذلكَ ما أوردَهُ الكاتبُ المسيحِيُّ عوض سمعان في كتابِهِ «قضيةُ الغفران في المسيحية» عن جماعةٍ من الفلاسفةِ ظهروا في القرنِ الثاني للميلاد، أطلقوا على أنفُسِهم اسمَ «الغنوصيين» أي أهل العلمِ والمعرفةِ، أنكروا صَلبَ المسيحِ، وقالوا إِنَّ «شمعانَ القيرواني» رضِيَ أَن يُصلَبَ عنِ المسيحِ… وكذلكَ فإنَّ «الدوكنيين» أنكروا مسألَةَ الصَّلبِ مُطلقًا إنما تَراءَى للناسِ أَنَّهُم صلَبوه، وفي سنةِ 175م قامَ فريقٌ من نسلِ كَهنةِ طِيبة الورعين فقالوا حَاشَى للمسيحِ مِنَ الصَّلبِ، بل إِنَّه رُفِعَ إلى السَّماءِ سالِمًا، وفي سنةِ 370م ظهرَت طائِفةُ «الهرموسيين» فأخذَ فريقٌ منهُم برأيِ الغنوصيين، وفي سنةِ 520م هربَ أسقفُ سوريا «ساويروس» إلى الإسكندرية، فوجدَ فيها قومًا منَ الفلاسِفةِ يُنكرون صلبَ المسيح، وفي سنةِ 610م نادى الأسقُفُ يوحنا ابنُ حاكمِ قُبرص بأنَّ المسيحَ لم يُصلَب، ولكن شُبِّهَ للناظرينَ أنهُم صلبوه [محمود بن الشريف / الأديان في القرآن: ص 212 – 213]

      إِنَّ المسيحَ – عليه السلام – رسولٌ مُكَرَّمٌ من أولي العزمِ من الرُّسُل، وما كانَ اللهُ تباركَ وتعالى لِيرضى لِنَبِيِّهِ الإهانةَ والإذلالَ على الصليبِ المزعوم، ونحنُ المسلمينَ نؤمنُ بِهِ رسولًا بَعَثَهُ اللهُ إلى بني إسرائيل، يقولُ الحقُّ تباركَ وتعالى: ( ما المسيحُ ابنُ مَرْيَمَ إِلا رَسولٌ قَد خَلَت مِن قَبلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَة ) وقال: ( إِنَّما المسيحُ عَيسى ابنُ مَرْيَمَ رسولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلقَاها إِلى مَرْيَمَ ورُوحٌ مِنهُ )

ولقد قَدَّمَ القرآنُ الصورةَ المشرقةَ لمسألَةِ الصَّلبِ، والتي تليقُ بكلمَةِ اللهِ ورسولِه، فلم يجعل نِهايَتَهُ تلكَ النهايَةَ المؤلِمَةَ التي جاءت بها أناجيلُ النصارى حيثُ الإهانةُ والاقتيادُ والشتمُ والتوبيخُ، ثُم الصلبُ ودَقُّ المساميرِ وَنَزفُ الدمِ إلى أن يموت، اسمَع قولَ اللهِ تعالى في ذلك: ( وَإِذ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفَّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذينَ كَفَروا ) واسمَع لقولِهِ وعيناكَ تفيضُ وجَلًا: ( وَقَوْلِهِم إِنَّا قَتَلنا المَسيحَ عَيسى ابنَ مَريَمَ رَسولَ اللَّهِ وما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلَكن شُبِّهَ لَهُم وَإِنَّ الذينَ اختَلَفُوا فِيهِ لَفي شَكٍّ مِنهُ ما لَهُم بِهِ مِن عِلمٍ إِلا اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلوهُ يَقينًا * بَل رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيهِ وَكانَ اللَّهُ عَزيزًا حَكيمًا) هكذا نَجَّى اللَّهُ كَلِمَتَهُ ورسولَهُ من كيدِ اليهودِ الذينَ هَمَّوا بِقَتلِهِ كعادَتِهم في قتلِ الأنبياءِ ومعاداتِهِم التي ظَلَّت سُنةً  بل سُبَّةً تُلازمُ اليهودَ عبرَ التاريخ.

ثالثًا: الدَّينونةُ التي يملكُها المسيح

      هذهِ هِيَ الفكرةُ الأساسِيَّةُ الثالثةُ للعقيدةِ النصرانيةِ ، حيثُ يؤمِنُ النصارى بأنَّ الأبَ قد أعطى ابنَهُ سُلطانَ محاسَبَةِ البشرِ، فالابنُ بالإضافةِ إلى أُلوهِيَّتِهِ وأبَدَيَّتِهِ هُوَ أيضًا ابنُ بَشَرٍ، فهو أولى بمحاسَبَةِ الإنسان! جاءَ في رسالةِ بولس إلى أَهلِ إفسس [22 / 1] قوله: «أقامَ اللَّهُ المسيحَ مِنَ الأمواتِ وأجلَسَهُ عن يَمينِهِ في السماواتِ فوقَ كُلِّ رِئاسَةٍ وسُلطانٍ وقُوَّةٍ وسيادةٍ، وأخضَعَ كُلَّ شَيءٍ تحتَ قَدَمَيهِ» وفي إنجيلِ يوحنا «الأبُ لا يَدينُ أحدًا بل قد  أعطى كُلَّ الدَّينونةِ للابن» [يوحنا / 5 : 22 ]»

إِنَّ الذي يملكُ حقَّ محاسَبَةِ الناسِ على أعمالِهِم، هو الأزَلِيُّ الذي يملكُ السلطانَ المطلقَ على كُلِّ الحوادِثِ والموجوداتِ، إنَّهُ اللَّهُ المُتَفَرِّدُ في الخلقِ والتدبير، إِنَّهُ القَيُّومُ الذي لا يعزُبُ عنهُ مثقالُ ذرَّةٍ في الأرضِ ولا في السماء، إنَّهُ الذي يعلَمُ خائِنَةَ الأعيُنِ وما تُخفي الصدور، يقولُ الجليلُ في عليائِه: ( قُل يا أَهلَ الكتابِ لا تَغلُوا في دِينِكُم غَيرَ الحقِّ وَلا تَتَّبِعوا أَهواءَ قَومٍ قَد ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثيرًا وَضَلُّوا عَن سَواءِ السَّبيل ) لقد جعلَ اللَّهُ رُسَلَهُ – ومنهم المسيحُ عليه السلام – شُهودًا على الأُممِ التي أُرسِلوا إليها، أما الحسابُ والثوابُ والعقاب، فهو للذي يملكُ ناصيةَ البشَرِ وناصِيتَهُم، يقولُ الحقُّ تباركَ وتعالى على لِسانِ المسيحِ عليهِ السلام: ( وَإِذ قالَ اللَّهُ يا عِيسى ابنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلناسِ اتَّخِذُوني وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَن أَقُولَ ما لَيسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلتُهُ فَقَد عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما في نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما في نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الغُيوبِ * ما قُلتُ لَهُم إِلا ما أَمَرْتَني بِهِ أَنِ اعبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُم وَكُنتُ عَلَيهِم شَهيدًا ما دُمْتُ فِيهِم فَلَمَّا تَوَفَّيْتَني كُنتَ أَنتَ الرَّقيبًَ عَلَيهِم وَأَنتَ على كُلِّ شَيءٍ شَهيدٌ  * إِن تُعَذِّبْهُم فَإِنَّهُم عِبادُكَ وَإِن تَغفِرْ لَهُم فَإِنَّكَ أَنتَ العَزيزُ الحكِيمُ)

وبعد، فقد استعرضتُ في هذا البحثِ ما استطعتُ مما يلزمُ لإحقاقِ الحقِّ وإبطالِ الباطل، وإن كانَ هذا البحثُ  قد اتَّسمَ بالاختصارِ والاقتصار، فلعلَّ في الاختصار والاقتصارِ إبصار، ولعلَّ في الإيجازِ إنجاز، ولعلَّ في الإقلالِ إدلال، ولقد ضربتُ صفحًا عن كثيرٍ من نصوصِ «كتابِ النصارى المقدسِ» بعهدَيهِ القديمِ والجديد، التي لا أراها تليقُ بهذا البحثِ والغرضِ منه، فلم آتِ على نصوص سِفرِ نشيدِ الأنشادِ وسفرِ حزقيال «مثلًا تزكِيةً للصفحاتِ وتكريمًا للعبارات، وإلا فالقولُ كثيرٌ وكثيرٌ في هذا الباب، وأكتفي هَهُنا بالتعريضِ عن سِفرِ «نشيدِ الأنشادِ» هذا الذي تُقَدِّسُهُ الشعوبُ النصرانيةُ وتنسِبُهُ إلى الله – تعالى اللَّهُ عن ذلكَ عُلُوًّا كبيرًا – هذا السِّفرُ من العهدِ القديم الذي قد يُخَيَّلُ لقارِئِهِ أنَّهُ نصوصُ فيلمٍ جنسِيٍّ أخرجَتهُ كاميراتُ هوليود… وأسكُتُ عن غيرِ ذلك.

يقولُ أبو بكرِ بنِ العربِيِّ: واللَّهُ أكرمَ هذهِ الأُمَّةَ – الأمةَ الإسلامية – بالإسنادِ والأنسابِ والإعراب، ولم يُعطِهِ أحدًا غيرَها، فاحذَروا أن تسلكوا مسلَكَ اليهودِ والنصارى… حقًّا وصِدقًا، نحنُ الأُمَّةُ التي أكرمَها اللَّهُ بالقرآنِ الكريمِ الذي أَعيت بلاغَتُهُ أقحاحَ العربِ أربابَ الفصاحة، وتحَدَّى اللَّهُ بهِ البشَرَ إلى يومِ القيامةِ أن يأتوا بمثلِهِ، فسَلِمَ من المعارضَةِ ولايزالُ، وسيبقى محفوظًا بِحفظِ اللَّهِ لَهُ، لا بل إِنَّ الأُمَّةَ الإسلاميةَ قد حفظت حديثَ رسولِها الكريمِ سندًا ومَتنًا، من أن تنفذَ إلَيهِ أيادي الزنادقةِ والوضَّاعين، فاكتَمَلَ دينُ اللَّهِ الإسلامُ عندما حفظَ الصحابةُ القرآنَ في الصدورِ وفي السطور قبلَ أن تهدأ نفسُ سَيِّدنا محمدٍ – عليه الصلاةُ والسلام – ثُمَّ تَمَّت نعمَةُ اللَّهِ بجمعِ القرآنِ في خلافَةِ أبي بكر الصديق، ثُمَّ فاضَ الخيرُ بنسخِهِ في خلافَةِ  عثمانَ ذي النَّورَين، وعندما يئسَ المتربِّصونَ بهذا الدينِ من النفاذِ إلى آيِ القرآن، سَوَّلَت لهُم نُفوسُهم العبَثَ في سُنَّةِ المصطفى، فكانَ علمُ مصطلحِ الحديثِ وما تضَمَّنهُ من علومٍ لهم بالمرصاد، حَصَّنت سُنَّةَ النبيِّ من عبثِ هؤلاءِ الحاقدين.

فيا خيرَ أُمَّةٍ أُخرجت للناس، هَلَّا انتَبَهتِ إلى تكريمِ اللَّهِ لكِ؟ هَلَّا التَفَتِّ إلى عظيمِ نِعمةِ اللَّهِ عليكِ؟ إذًا فأنتِ والحالُ كذلِكَ المسؤولَةُ عن شعوبِ الأرضِ التي تتخبَّطُ في دياجيرِ الكُفرِ، أنتِ أيَّتُها الأُمَّةُ الشاهِدةُ المـُخَوَّلَةُ بالأخذِ بأيدي هذهِ الشعوبِ إلى اعتناقِ الدينِ الحقِّ، وإخراجِ مَن شاءَ من عبادةِ العبادِ إلى عبادَةِ ربِّ العباد، يقولُ الحقُّ جَلَّ في عَليائِه: ( وَكَذَلِكَ جَعَلناكُم أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونوا شُهَداءَ عَلى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسولُ عَلَيكُم شَهيدًا). ودولةُ الخلافةِ الإسلاميةِ هي الطريقةُ الشرعيةُ التي فرضَها اللَّهُ لتبليغِ هذهِ الرسالةِ وحملِ هذهِ الأمانة، فإلى العَمَلِ لإقامةِ دولة الخلافَة ندعوكُم أيُّها المسلمونَ المُوَحِّدون، وإلى تخليصِ أهلِ الثالوثِ من شِركِهِم، ويا أهلَ الكتاب، لا مناصَ لكُم من أن تؤمنوا باللَّهِ ربًّا أحدًا فردًا صمَدًا، لا وَلَدَ لهُ ولا والِد… وبالإسلامِ دينًا وبُمحمدٍ – صلواتُ ربي وسلامُهُ عليه – نبيًّا ورسولًا.

قال تعالى: ( قُل يا أَهلَ الكِتابِ تَعالَوا إِلى كَلِمةٍ سَواءٍ بَيننا وبينَكُم أَلَّا نَعبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشرِكَ بِهِ شَيئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعضُنا بَعضًا أربابًا من دونِ اللَّهِ فَإنْ تَوَلَّوا فقُولوا  اشهَدُوا بِأَنَّا مُسلِمون)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *