العدد 125 -

السنة الحادية عشرة – جمادى الآخرة 1418 – تشرين الأول 1997م

طـاعـة الأمـيـر

طـاعـة  الأمـيـر

بقلم: عبد الرحمن العقبي

الأمراء نوعان: أمير عامة وأمير خاصة، وهما من حيث استحقاق الطاعة سواء، كل في حدود إمرته، وأمير الحزب من النوع الثاني: ودليل وجوب الطاعة قوله تعالى: ]وأطيعوا اللـه وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم[ وقوله عليه وآله الصلاة والسلام «من أطاعني فقد أطاع اللـه، ومن عصاني فقد عصى اللـه، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني» رواه البخاري. وروى الطبراني في الكبير «إن السامع المطيع لا حجة عليه، وإن السامع العاصي لا حجة له».

ولما كان الأمير بشراً غير معصوم، فإنه قد يقع منه الظلم عمداً أو خطأً، وقد يتفق الأمير والمأمور على أن ما وقع من الأمير ظلم، وقد يختلفان فيرى الأمير أن ما وقع عدل ليس بالظلم ويرى المأمور أنه ظلم، وفي الحالين تبقى الطاعة واجبة لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث حذيفة: «… تسمع وتطيع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع»، فإن ضرب الأمير أو أخذ المال أو عاقب متعمداً الظلم تبقى طاعته واجبة، ومن باب أولى أن تبقى واجبة إن كان متأولاً، يستوي في هذا أمير العامة وأمير الخاصة.

ومن استقراء التاريخ فإني لا أعلم أحداً من الصحابة تعمد الظلم وهو أمير، أما النوع الثاني وهو ما يختلف فيه الأمير والمأمور فقد وقع، منه ما رواه الطبري عن ابن إسحق أن عمر كتب إلى أبي عبيدة في خالد: «أن انزع عمامته وقاسمه ماله، فلما أخبره، قال: ما أنا بالذي أعصي أمير المؤمنين، فاصنع ما بدا لك، فقاسمه حتى أخذ نعله الواحدة» وفي رواية ابن كثير أنه كان يقول أثناء المقاسمة: سمعاً وطاعة لأمير المؤمنين. ومنه ما رواه ابن سعد ونقله الذهبي أن عثمان أمر أبا ذر بالخروج إلى الربذة «… ثم انصرف أبو ذر مبتسماً وقال سامع مطيع ولو أمرني أن آتي صنعاء أو عدن ثم استطعت أن أفعل لفعلت»، ومنه ما أخرجه عبد الرزاق والطبراني عن نوفل بن مساحق قال: بينما عثمان بن حنيف يكلم عمر بن الخطاب رضي اللـه عنه – وكان عاملاً له – فأغضبه، فأخذ عمر بن الخطاب رضي اللـه عنه قبضة من البطحاء فرجمه بها، فأصاب حجر منها جبينه فشجه، فسال الدم على لحيته، فكأنه ندم، فقال: أمسح الدم عن لحيتك، فقال: لا يهولنك هذا يا أمير المؤمنين، فواللـه لما انتهكتُ ممن وليتني أمره أشد مما انتهكتَ مني، قال فكأنه أعجب عمر ذلك منه وزاده خيراً. [قال في المجمع: رجاله رجال الصحيح]. ومنه ما نقله ابن عساكر عن مغازي الواقدي في غزوة ذات السلاسل أن عمرو بن العاص لما دنا من القوم بلغه أن لهم جمعاً كثيراً، فنزل قريباً منهم عشاءً وهم شاكون، فجمع أصحابه الحطب يريدون أن يصطلوا – وهي أرض باردة – فمنعهم، فشق ذلك عليهم، حتى كلمه في ذلك بعض المهاجرين فغالظه، فقال عمرو: قد أمرت أن تسمع لي وتطيع، قال: نعم، قال: فافعل. ورواها ابن عساكر في موضع آخر بلفظ: عن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه في ذات السلاسل، فسأله أصحابه أن يأذن لهم أن يوقدوا ناراً ليلاً فمنعهم، فكلموا أبا بكر، فكلمه في ذلك فأباه، فقال: قد أرسلوك إلي، لا يوقد أحد منهم ناراً إلا ألقيته فيها. قال: فلقوا العدو فهزموهم، فأرادوا أن يتبعوهم فمنعهم، فلما انصرف ذلك الجيش ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم وشكوه إليه، فقال: يا رسول اللـه إني كرهت أن آذن لهم أن يوقدوا ناراً فيرى عدوهم قلتهم، وكرهت أن يتبعوهم فيكون لهم مدد فيعطفوا عليهم، فأحمد رسول اللـه صلى الله عليه وسلم أمره….

وإذا اختلف بعض المأمورين مع أمير في رأي أو فكر أو حكم، فلهم أن يراجعوه وليس لهم أن يشهّروا به وينتقصوه، ويؤلبوا عليه، ويحاولوا الإطاحة به، فإن ذلك يوهنه ويضعفهم، فتوهينهم لأميرهم وبال عليهم، يطمع فيهم عدوهم ويفسد فيهم سجية الطاعة، ويسهل عليهم النيل من أمرائهم، وخلعهم متى خالفوهم، ومتى مردوا على خلع أمرائهم، لم تستقم قناتهم إلا للجائر الظالم، يبغضهم ويبغضونه، ولا ينبغي لعاقل أن ينسى ما جره توهينهم لعثمان على الأمة من ويلات.

وطاعة الأمير ليست مطلقة بل مقيدة بقيدين: عدم تبني الكفر وعدم الأمر بمعصية، فإذا تبنى كفراً قام البرهان على أنه كفر أو أمر بمعصية لا شبهة فيها فلا طاعة له.

واختلاف المأمورين مع أميرهم جائز، إلا أنه لا يجوز أن يستمر بعد أن يعزم الأمير على رأي، فالصحابة أطاعوا عَمْراً في ذات السلاسل مع خلافهم له في الرأي كمـا سبق. والأنصار أطاعوا أبا بكر في تأمير أسامة عليهم فقد ذكر الطبري أن عمر جاء إلى أبي بكر وقال له: إن الأنصار أمروني أن أبلغك أنهم يطلبون إليك أن تولي أمرهم رجلاً أقدم سناً من أسامة. فوثب أبو بكر – وكان جالساً – فأخذ بلحية عمر وقال: ثكلتك أمك وعدمتك يا ابن الـخـطاب، استعمله رسول اللـه صلى الله عليه وسلم وتأمرني أن أنزعه؟! فخرج عمر إلى الناس، فقالوا له: ما صنعت؟ فقال: امضوا ثكلتكم أمهاتكم، ما لقيت في سببكم اليوم من خليفة رسول صلى الله عليه وسلم.

وكون الاستمرار على مخالفة الأمير توهيناً، والطاعة له تمكيناً، هو من حقائق التاريخ، فأهل العراق أضعفوا موقف علي باختلافهم عليه، فحرموه النصر في صفين، ثم اختلفوا في التحكيم، ثم قتلوه. بينما قوي معاوية بطاعة أهل الشام مع أن علياً خير منه.

وكان رسول اللـه صلى الله عليه وسلم لا يأذن بتوهين أمرائه، ولا بالنيل من هيبتهم، إن كان الغرض من المحاسبة ذلك، فقد روى الطبراني في الكبير عن ربيعة الأسلمي قال: كنت أخدم رسول اللـه صلى الله عليه وسلم فأعطاني أرضاً وأعطى أبا بكر أرضاً، وجاءت الدنيا فاختلفنا في عذق نخلة، فقال أبو بكر رضي اللـه تعالى عنه هي في حد أرضي، وقلت أنا هي في حدي. وكان بيني وبين أبي بكر كلام، فقال لي أبو بكر كلمة كرهتها، وندم. فقال لي يا ربيعة رُدَّ عليَّ مثلها حتى يكون قصاصاً. قلت: لا أفعل. فقال أبو بكر لتقولن، أو لأستعدين عليك رسول اللـه صلى الله عليه وسلم، قلت ما أنا بفاعل. قال فرفض الأرض، فانطلق أبو بكر رضي اللـه عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فانطلقت أتلوه فجاء أناس من أسلم، فقالوا: رحم اللـه أبا بكر في أي شيء يستعدي عليك رسول اللـه صلى الله عليه وسلم وهو الذي قال لك ما قال؟ فقلت: أتدرون من هذا؟ هذا أبو بكر الصديق، وهو ثاني اثنين، هو ذو شيبة المسلمين، فإياكم أن يلتفت فيراكم تنصروني عليه فيغضب، فيأتي رسول اللـه صلى الله عليه وسلم فيغضب لغضبه، فيغضب اللـه لغضبهما، فيهلك ربيعة، قالوا فما تأمرنا؟ قال: ارجعوا. فانطلق أبو بكر رضي اللـه عنه إلى رسول اللـه صلى الله عليه وسلم، وتبعته وحدي، وجعلت أتلو، حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فحدثه الحديث كما كان، فرفع إليّ رأسه فقال: يا ربيعةَ مالك وللصدّيق؟ قلت يا رسول اللـه كان كذا وكان كذا، فقال لي كلمة كرهتها، فقال لي قل كما قلت لك حتى يكون قصاصاً، فقال رسول اللـه صلى الله عليه وسلم، أجل فلا ترد عليه، ولكن قل غفر اللـه لك يا أبا بكر، غفر اللـه لك يا أبا بكر، قال فولى أبو بكر رحمه اللـه وهو يبكي [قال في المجمع فيه مبارك به فضاله وحديثه حسن وبقية رجاله ثقات]. ومعلوم أن أبا بكر كان وزيراً، ويمكن القول إنه أخطأ بحق ربيعة عندما قال له كلمة كرهها بدليل أنه ندم وعرض على ربيعة أن يقتص، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: أجل فلا ترد عليه ولكن قل غفر اللـه لك يا أبا بكر غفر اللـه لك يا أبا بكر.

وأبين من هذا في الدلالة على ما نحن فيه ما أخرجه مسلم عن زهير وابن عساكر عن عوف بن مالك الأشجعي قال: خرجت مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة فوافقني مددي من أهل اليمن، ليس معه غير سيفه، فنحر رجل من المسلمين جزوراً فسأله المددي طائفة من جلده، فأعطاه إياه. فاتخذ كهيئة الدرقة. ومضينا فلقينا جموع الروم، قال وفيهم رجل على فرس له أشقر، عليه سرج مذهّب، وسلاح مذهّب، فجعل الرومي يفري بالمسلمين، وقعد له المددي خلف صخرة، فمر به الرومي، فعرقب فرسه، فخرّ، وعلاه فقتله. فحاز فرسه وسلاحه. فلما فتح اللـه عز وجل على المسلمين، بعث خالد بن الوليد فأخذ من السلب، قال عوف فأتيته فقلت: يا خالد أما علمت أن رسول اللـه صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل؟ قال بلى، ولكني استكثرته. قال عوف: فقلت: لتردنه أو لأعرفنكها عند رسول اللـه صلى الله عليه وسلم، فأبى أن يرده عليه، قال عوف: فاجتمعنا فقصصت عليه قصة المددي وما فعل خالد، فقال رسول اللـه صلى الله عليه وسلم: يا خالد، ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رسول اللـه استكثرته. فقال رسول اللـه صلى الله عليه وسلم: ردّ عليه ما أخذت منه. فقلت: دونك يا خالد ألم أقل لك؟ فقال رسول اللـه صلى الله عليه وسلم: ما ذاك؟ فأخبرته. فغضب رسول اللـه صلى الله عليه وسلم وقال: يا خالد لا ترد عليه، هل أنتم تاركو لي أُمرائي، لكم صفو أمركم وعليهم كدره.

والطاعة لا تتنافى مع المحاسبة، فعلى الأمراء أن يقبلوا المحاسبة، وتتسع لها صدورهم، وأن يذعنوا للحق، ويرجعوا للصواب، وأن ينصفوا من أنفسهم. وقول عمر للمرأة التي اعترضت عليه في تحديد المهور ونزل عند رأيها قائلاً: «أصابت امرأة وأخطأ عمر» مشهور.

ولا بأس بذكر حادثة أخرى يمكن أن تحتذى، فقد أخرج ابن عساكر أن عمر قرر أن لا يعطي لخماً وجذام من غنائم اليرموك قائلاً: «إلا هذين الحيين من لخم وجذام فلا حق لهم» فقام إليه أبو حديدة الجذامي فقال: «ننشدك اللـه يا عمر في العدل، فقال عمر: العدل أريد. أنا أجعل أقواماً أنفقوا في الظهر وشدوا العرض وساحوا في البلاد، مثل قوم مقيمين في بلادهم؟! ولو أن الهجرة كانت بصنعاء أو بعدن ما هاجر إليها من لخم ولا جذام أحد. فقام أبو حديدة فقال: إن اللـه وضعنا من بلاده حيث شاء، وساق إليها الهجرة في بلادنا، فقبلناها ونصرناها، أفذلك يقطع حقنا يا عمر؟! ثم قال عمر: لكم حقكم مع المسلمين.

بقي أن نوضـح الفـرق بيـن أمير العامة وأمير الخاصة، أي ما هي حدود كل من إمرة الأميرين؟ أي ما هو الأمر المشترك الذي لكل منهما حق الطاعة فيه؟ ممكن القول أنه كل أمر يؤدي إلى الغـايـة التي من أجـلـهـا وجـد الأميـر، وتحديد هذا الأمر أنه مما له علاقة بتحديد الغاية أو ليس له علاقة موكول لرأي الأمير، طبعاً فيما يوافق الشرع.

فأمير العامة إمرته عامة لكل من حمل التابعية، وإمرته إلزامية بموجب تبعة الطاعة وعقد الذمة، وليس لمن حمل التابعية حق الخروج عليه أو الانفصال عنه. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن حدود إمرته تطبيق الإسلام في الداخل والخارج تطبيقاً كاملاً.

أما أمير الخاصة كأمير الحزب، فإمرته ليست إلزامية للأمة ولكنها إلزامية لأفراد الحزب ما دام الفرد جزءاً من الحزب، بمعنى أنك لا تستطيع أن تترك أمير العامة، لأن أمير العامة لا يكون إلا واحداً، وأمراء الخاصة يتعددون. ثم إن أمير الخاصة يوجد لا لتطبيق الإسلام تطبيقاً عاماً شاملاً، وإنما يوجد لتحقيق غاية محددة اتفق عليها من هم مجتمعون مع هذا الأمير، هذه الغاية تستلزم سيراً في طريق معين، ومنهج محدد، وهذا المنهج يكون مجموعة من الأفكار والأحكام والآراء من جنس فكرة الغاية. وتحديدُها وتقريرُ ما يلزم منها للسير موكول للأمير، مع الأخذ بعين الاعتبار أنه إنسان يخطئ ويصيب. وهذا يعني أنه بحاجة إلى النصيحة والمساعدة، وأنه تلزم محاسبته أحياناً. ولكن تجب طاعته في كل الحالات ما دام ضمن حدود الشرع. فالطاعة حق والفتنة عذاب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *