العدد 131 -

السنة الثانية عشرة – ذو الحجة 1418هـ – نيسان 1998م

تفعيل الدور البريطاني في الشرق الأوسط

تفعيل الدور البريطاني في الشرق الأوسط

لم تُتَح لبريطانيا منذ زمن بعيد فرصة العمل السياسي العلني والمباشر في الشرق الأوسط، فإنها وإن كانت تملك أدوات ووسائل العمل كالعملاء والعلاقات والأفكار، إلا أن هذه الأدوات والوسائل لا تكفي لإعلان العمل ومزاحمة أميركا بشكل مكشوف.

والذي يستطيع العمل بشكل فاعل وعلني هو الذي يملك القدرة على التمويل، ولا تستطيع أي دولة بمفردها منافسة أميركا اقتصادياً وبالتالي مشاركتها سياسياً بشكل متكافئ.

ومن أجل منافسة أميركا ومشاركتها تجمعت الدول الأوروبية الرئيسية في أشكال متعددة كان آخرها وأفعلها الاتحاد الأوروبي، الذي تحاول دوله أن تتنازل عن عملاتها وعن بعض المظاهر السيادية فيها، وأن تنسق سياساتها الخارجية فضلاً عن سياساتها الاقتصادية من أجل الوقوف كقوة موازية للقوة الأميركية.

زادت دول الاتحاد الأوروبي في تنسيق سياساتها في الشرق الأوسط بعد اتفاقات أوسلو ووادي عربة بشكل أكثر انسجاماً وأكثر واقعية، ولقد لوحظ على تصريحات الدبلوماسيين الأوروبيين أنها متجانسة، فكل مبعوث أوروبي إلى المنطقة كان يقول ما يقوله موراتينوس المبعوث الدائم من دول الاتحـاد الأوروبي للشرق الأوسط، ويشترك جميع المبعوثين الأوروبيين بالقول بأن دور دول الاتحاد الاقتصادي يجب أن يتناسب مع دورها السياسي وأن دورها السياسي ليس بديلاً عن الدور الأميركي وإنما هو مكمل له.

استغلت بريطانيا رئاستها الدورية للاتحاد الأوروبي وقامت بتفعيل وتنشيط دورها السياسي في الشرق الأوسط مستندة إلى قوة الاتحاد الأوروبي من خلفها.

وتبتغي بريطانيا من ذلك مشاركة أميركا العمل السياسي في المنطقة بشكل دائم وعلني، أي محاولة وضع كرسي لها على طاولة المفاوضات إلى جانب الكرسي الأميركي، كما هو الحال في منطقة كردستان في شمال العراق. فأميركا وبريطانيا تعملان هناك معاً جنباً إلى جنب، مفاوض أميركي وبجانبه مفاوض بريطاني، وذلك بالإضافة إلى المفاوضين المحليين من أكراد وأتراك، ونفوذ بريطانيا في منطقة الشرق الأوسط لا يقل عن نفوذها في منطقة كردستان العراق، ومن هنا فإن بريطانيا تسعى لإثبات وجودها إلى جانب أميركا مدعومة بالاعتبارات التالية:

تأييد بريطانيا لأميركا فـي أزمة العراق دولياً وإعلامياً.

قبول بريطانيا لخطة السلام الأميركية في إيرلندا الشمالية.

دعم أميركا في مجلس الأمن وإن كان مبطناً.

هذه الاعتبارات بالإضافة إلى رئاستها الدورية لدول الاتحاد الأوروبي جعلتها تتقدم وبقوة إلى المنطقة، فهيأت أولاً لزيارة رئيس وزرائها بلير بزيارة وزير خارجيتها روبن كوك التي وصفت بأنها مثيرة للجدل، ما أوجد رأياً عاماً وقوياً كمقدمة لزيارة بلير نفسه من أجل تحقيق إنجازات.

وتهدف بريطانيا من خلال تحركها – بالإضافة إلى مشاركة أميركا في القرار أو كسر الاحتكار الأميركي للمفاوضات العربية اليهودية – تهدف إلى تحقيق الأمور التالية:

منع أميركا من وأد اتفاق أوسلو، ولقد أكَّد كل من كوك و بلير على ضرورة تطبيق بنود اتفاق أوسلو الذي من شأنه أن يخفف الضغط عن الأُردن وإسرائيل على حدٍ سواء، ما يساعد في فتح أبواب التطبيع.

محاولة كسر الجمود الذي أنشأته أميركا جرَّاء احتكارها للمفاوضات، وفي ذلك قال الملك حسين بأن المنطقة ستقبل على كارثة إذا لم يكسر الجمود، و(كسر الجمود) تعبير شاع وانتشر بعد وقف التطبيع بين الدول العربية وإسرائيل.

إحراج أميركا عن طريق إثبات عجزها المتواصل في حل مشكلة الشرق الأوسط وترددها في طرح مبادرتها المجمدة منذ شهور، ومطالبتها بالتالي بإشراك الأوروبيين والبريطانيين في الحل بحجة مساعدتها.

ومن أجل تحقيق هذه الأهداف تم طرح فكرة مؤتمر السلام في لندن بعد أن اتفق بلير مع نتنياهو على عقدهِ وطلب من عرفات أن يؤيده بصيغة المفاوضات الرباعية التي تجمع بين الفلسطينيين والإسرائيليين والأميركيين والبريطانيين نيابة عن الأوروبيين.

إلاّ أن هذا التصعيد الدبلوماسي البريطاني قوبل بنشاط دبلوماسي أميركي موازٍ له يهدف إلى استيعاب هذا التصعيد وتبديده.

فلقد أصرت أميركا على عدم إشراك البريطانيين في المؤتمر ضمن مفاوضات رباعية، وأكدت على ضرورة قيام أولبرايت بالاجتماع بكل من عرفات ونتنياهو على حده، ثم أعلن الناطق الرسمي باسم الخارجية الأميركية عن توقعاته بفشل المؤتمر مسبقاً وقال: “لا نتوقع الكثير من محادثات الشرق الأوسط المقرر إجراؤها في لندن الشهر القادم بهدف كسر الجمود بين الفلسطينيين وإسرائيل”.

ثم قامت أميركا بإرسال دنيس روس ومارتن إنديك لتهييج الرأي العام الإسرائيلي –لا سيما أوساط المتدينين- ما أثار حفيظة الائتلاف الحاكم فجعله يضغط على نتنياهو لرفض الإملاءات الأميركية، فأعلن نتنياهو بأنه لن يخضع للضغوط الأميركية، وأن إسرائيل وحدها هي التي تحدد مصالحها الأمنية، وأن نسبة الـ 13بالمائة التي تعرضها المبادرة الأميركية غير مقبولة لأنها تعرّض مصالح إسرائيل للخطر.

إن هذه التحركات الأميركية من الواضح أنها تهدف إلى إبقاء الجمود على الوضع في قضية الشرق الأوسط، ومنع التطبيع بين إسرائيل والدول العربية ودفن اتفاق أوسلو، ولقد أدرك تلك الأهداف الكثيرُ من المحللين السياسيين ومنهم على سبيل المثال يوئيل ماركوس الذي كتب في صحيفة هآرتس الإسرائيلية بتاريخ 21/4/98 : “من المحبط مراقبة ممثل القوة العظمى الأولى وهو منشغل بالتوافه طوال السنتين الأخيرتين. منذ تسع سنوات ودنيس روس يركض من دون أن يتحرك، لأن جريه يتم فوق جهاز ركض منـزلي. ومن المؤسف أن جميع المبادرات المهمة بدءاً بأُوسلو وانتهاءً بمعاهدة السلام مع الأردن تحققت خارج نشاط الإدارة الأميركية، وكل ما فعله البيت الأبيض هو أنَّه وفَّر الساحة للاحتفالات من دون أن يكون له دور مؤثر أو محرك”.

ولكن من الدقة القول إن لأميركا دوراً مؤثراً ومحركاً في قضية الشرق الأوسط، وتأثيرها يكمن في تعطيل المفاوضات السائرة بحسب اتفاق أوسلو، وتجميد التطبيع الناجم عن الاتفاق وإضعاف الاقتصاد الإسرائيلي، وخنق الاقتصاد الأردني واستمرار محاصرة العراق، وهذا واضح في إسرائيل والأردن والعراق، فاقتصاديات هذه الدول مهتزة ومحاصرة ومختنقة، وكذلك تعمل أميركا على تقوية التحالف السوري الإيراني المصري وإضعاف التحالف الإسرائيلي التركي، والدليل على ذلك هو أن الموقف السوري، وتابعه اللبناني، ازداد قوة وتعزز برفضه للمشروع الإسرائيلي بالانسحاب المشروط من الجنوب اللبناني وازداد موقف حزب الله هو الآخر قوة.

وخلاصة الأمر أن أميركا والدول التابعة لها بهذه المواقف تريد تجميد العملية السلمية، ومنع التطبيع، وتحجيم إسرائيل، وإشغال المنطقة بالمفاوضات غير الجادة، ريثما تقتنع إسرائيل بالانسحاب من الجولان كي تتمركز فيها أميركا. بينما تعمل بريطانيا على كسر الجمود، ومحاولة إطلاق العملية السلمية، واستئناف التطبيع، وصياغة المنطقة صياغة تحررها من الهيمنة الأميركية، وتربطها مع أوروبا سياسياً واقتصادياً ربطاً محكماً، وذلك بحجة الجوار الأوروبي للمنطقة، وبحكم العلاقات الاقتصادية الواسعة بين أوروبا والشرق الأوسط، وأخيراً بحجة ما يسمى بالمسؤولية الأخلاقية والتاريخية لبريطانيا في المنطقة.

والظاهر أن مؤتمر لندن لن يتمخض عن شيء، وأن الدور البريطاني لن يصل إلى حد المشاركة الدائمية للدور الأميركي في مفاوضات الشرق الأوسط، وإن كان سيساهم في اعتبار لندن محطة نشطة لا غنى عنها في التخطيط السياسي وفي العمل السياسي .

3 محـرم 1419هـ

29 نيسان 1998م

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *