العدد 132 -

السنة الثانية عشرة – محرم 1418هـ – أيار 1998م

كيف ضمن الإسلام توفير الثروة

كيف ضمن الإسلام توفير الثروة

بقلم: وليد راجي

إن المشكلة الاقتصادية لأية أمة من الأمم هي مشكلة متعلقة بوجهة النظر في الحياة، وهي خاصة بأمة معينة أو مبدأ معين، فالمشكلة الاقتصادية أو الغاية من السياسة الاقتصادية مسألة خاصة، أما المسائل المتعلقة بتحسين الإنتاج وتحسين فرص الاستثمار، وتتبع النمو الاقتصادي وخفض مستوى البطالة وتحسين الميزان التجاري ومسألة إيجاد أسواق خارجية، كل ذلك لا يعتبر المشكلة الاقتصادية، وإن كان لازماً وهاماً وبحاجة لمتابعة الخبراء، ولكنه متعلق بالواقع والنظرة إليه نظرة علمية عالمية من حيث الأساليب والوسائل التي تتبع لتحقيقها ضمن إطار النظام الاقتصادي الذي يعالج هذه الأمور.

والمشكلة الاقتصادية في الإسلام هي إشباع جميع الحاجات الأساسية لجميع الأفراد فرداً فردا إشباعاً كلياً والتمكين من إشباع الحاجات الكمالية على أساس عيش المجتمع ضمن طراز خاص من العيش.

فالأحكام الشرعية تهدف لإشباع جميع الحاجات الأساسية للفرد من مأكل وملبس ومسكن، وكذلك تحقيق الرفاهية للفرد باعتباره يعيش في مجتمع معين له طريقة خاصة من التفكير والعيش، وكذلك قضاء جميع الحاجات الضرورية للأمة كالمدارس والمستشفيات وبناء السدود والطرق.

ومن أجل تحقيق هذه السياسة لابد أن تتوفر المادة الاقتصادية لدى الأمة والدولة، أي أن تتوفر الأموال اللازمة للقيام بهذه المهام العظام الملقاة على عاتق الأمة والدولة، لذلك وجدت مجموعة من التشريعات تحقق توفير الثروة منها ما هو متعلق بالدولة ومنها ما هو متعلق بالفرد، ولا تعني هذه الأحكام أن الإسلام قد تدخل في إنتاج الثروة، فالإسلام لم يخلط في تشريعاته بين علم الاقتصاد والنظام الاقتصادي، أي أنه فصل فعلاً بين الناحية المتعلقة بتملك الثروة والتصرف بها وتوزيعها والناحية المتعلقة بعلوم وأساليب تحسين إنتاج الثروة، ولكن الإسلام رغم ذلك قد وضع الخطوط العريضة التي تمكن من جعل السياسة الاقتصادية واقعاً حيا، جاء في النظام الاقتصادي للشيخ تقي الدين النبهاني ص64: “ومن أجل إشباع جميع الحاجات الأساسية إشباعاً كلياً والتمكين من إشباع الحاجات الكمالية لابد أن تتوفر المادة الاقتصادية لدى الناس حتى يتمكنوا من إشباع الحاجات… إلا أنه ليس معنى ذلك أنه -الإسلام- تدخل في إنتاج الثروة أو بيّن كيفية زيادة إنتاجها أو مقدار ما ينتج لأنه لا علاقة له بذلك”.

ومن تلك الأحكام التي تتعلق بالدولة:

1- جعل الشرع للدولة سلطة جباية أموال معينة جباية دائمية كالجزية والخراج وجعل أموال الزكاة في بيت المال.

2- جعل الشرع للدولة حق جباية العشور ممن يجوز أخذ العشور منهم، وكذلك الأموال غير الشرعية المصادرة من الحكام وموظفي الدولة، وكذلك مال الغرامات وخمس الركاز ومال من لا وارث له وأموال المرتدين.

3- جعل الشرع للدولة حق إدارة الملكية العامة تتولاها هي حين تحتاج إلى إدارة، ومنع الأفراد من أن يتولوها، ومنع الدولة من أن تملّكهم إياها أو تعطيهم إدارتها، وهذه الملكية العامة من ذهب ونحاس وبترول وحديد وكل معدن عِدٍّ لا بد من استغلالها وتنميتها لتحقيق التقدم الاقتصادي للدولة والأمة، فعلى الخليفة أن يعمل على استغلال أموال الملكية العامة ما وسعه ذلك، وأن يحسن إدارة أموالها، فتوزيع أموال الملكية العامة لابد أن يكون بطريقة تؤدي إلى زيادة استغلال الملكية العامة نفسها، فينفق منها على شراء آلات التنقيب والإنتاج والتصفية والمعالجة وجميع المصانع ووسائل النقل المتعلقة بها، وكذلك على الخبراء والمستشارين والفنيين الذين يُستخدمون للبحث والكشف والتنقيب، وكذلك التركيز في إنفاقها على الصناعات الثقيلة وصناعة السلاح وإنشاء الطرق ومراكز البحوث، وكذلك توزيع الإمام منها على الفقراء خاصة أو الناس عامة، فإن ذلك باب خير يدفع ويشجع الناس على العمل، لأن القضاء على فقر الأفراد هو الذي يشجع ويدفع على العمل.

4- جعل الشرع للدولة حق جباية أموال (ضرائب) للقيام بما هو فرض على جميع ا لمسلمين كإصلاح الطرق وبناء المستشفيات والمساجد والمدارس والجامعات وكذلك الجهاد وإعالة الفقراء وتسديد رواتب الجند وموظفي الدولة وذلك إن لم يكف ما في بيت المال.

5- حين أباح الإسلام للدولة امتلاك أموال معينة كالخراج أباح لها امتلاك أموالٍ ومشاريع أخرى، فالمصانع التي لا يستطيع الأفراد تملكها مثل مصانع الآلات تتملكها الدولة كلياً أو جزئياً، وكذلك المنشآت التي لا يصح للأفراد تملكها لحصول الضرر من ذلك مثل المفاعلات النووية تتولاها الدولة تبعاً لوجوب رعايتها لمصالح الناس، فعلى الخليفة أن يقوم باستغلال أملاك الدولة قدر وسعه كي يزيد في واردات بيت المال لئلا تبقى أملاك الدولة معطلة ونفعها ضائعاً ومنفعتها منقطعة، وهذا الاستغلال ممكن أن يحصل بطرق كثيرة، منها بيع أو تأجير ما تدعو مصلحة المسلمين إلى بيعه أو تأجيره من أملاك، وكذلك المساقاة على أراضي الدولة المشجرة ولو بغالبها، وكذلك إحياء موات الأرض سواء من قبل الدولة مباشرة أو بتشجيع الأفراد على ذلك ما يفتح باباً آخر لإنتاج الثروة.

6- جعل الشارع حق الحمى للدولة، فيحق للدولة أن تحمي بعض أعيان الملكية العامة، من نفط وغاز ومعادن، كأن يعين الخليفة آباراً معينة من النفط والغاز فيحميها، ويخصص وارداتها للجهات التي يرى فيها مصلحة الأمة وفق الحاجة، فالجهاد اليوم من حيث الإعداد تتولاه الدولة فتحمي له كي تتمكن من إقامة المصانع الحربية من طائرات ودبابات وصواريخ على أنواعها، ولابد هنا من الالتفات إلى أن لا يؤدي الحمى في بعض حالاته إلى عكس المطلوب من الرعاية، فيجب على الإمام أن يراعي مصلحة الناس، فقد روى الإمام الماوردي في الأموال “عن أسلم قال سمعت عمر بن الخطاب يقول لهني حين استعمله على حمى الربذة: يا هني… وإن هذا المسكين إن هلكت ماشيته جاء يصيح يا أمير المؤمنين: أفالكلأُ أهون عليّ أم غرم الذهب والفضة؟”.

7- إن واجب الرعاية الذي فرضه الله تعالى على الدولة يستلزم فتح الطرق وإقامة السدود لكل مناطق الدولة، إضافة إلى أن واجب الرعاية ونصح الأمة المفروض على الإمام يستلزم تقديم النصح والتوجيه البنّاء والمنتج في جميع النواحي: صناعية وتجارية وزراعية، إضافة إلى أن طبيعة أحكام الاقتصاد في الدولة الإسلامية عموماً تدفع للعمل والاستثمار، لأن عدم وجود الجمارك والمكوس الظالمة على المسلم وغيره، إضافة إلى عدم وجود النظام الضريبي الموجود في البلاد الرأسمالية، وإتّباع قاعدة الذهب والفضة من قبل الدولة الذي بدوره يوجد الاستقرار النقدي في الدولة… كل ذلك وغيره كثير يدفع إلى خلق مناخ ممتاز للعمل والاستثمار.

وهذا التفكير بضرورة توفير الثروة ليس جديداً، فقد ورد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما ناقش الصحابة في مسألة توزيع أرض الشام والعراق ومصر قال “فإذا قسمت أرض العراق بعلوجها، وأرض الشام بعلوجها، فما يسد الثغور؟ وما يكون للذرية والأرامل بهذا البلد، وبغيره من أرض الشام والعراق؟… أرأيتم هذه الثغور لابد لها من رجال يلزمونها، أرأيتم هذه المدن العظام، كالشام والجزيرة والكوفة والبصرة ومصر، لابد لها من أن تشحن بالجيوش وإدرار العطاء عليهم، فمن أين يعطى هؤلاء إذا قسمت الأرضون والعلوج؟”.

فهذه المحاورة تبين أن عمر رضي الله عنه كان يدرك تماماً أنه لابد من وجود موارد دائمة وثابتة للدولة لأجل النفقة على الجهات التي أوجب الشرع عليها رعاية شؤونها والقيام على أمرها، وأن هذه الموارد لا يصح أن تذهب لفئة واحدة من الناس ولو كانت من الصحابة الكرام، بل لابد أن تبقى بيد أهلها لينفق منها على مصالح جميع المسلمين.

أما على صعيد الفرد فقد شرع الإسلام أحكاماً عديدة منها:

1- أوجب الإسلام على الفرد السعي لكسب المال وجعله فرضاً عليه قال تعالى: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) ما يوفر الرزق (الثروة) له ولعياله ولمن تجب عليه نفقتهم. فالطريقة العملية والأصلية للحصول على الرزق هي العمل والسعي في مناكبها.

2- راعى الإسلام عدم تعقيد الأحكام المتعلقة بكيفية حيازة الثروة، بل جعلها بسيطة كل البساطة، فحدد أسباب التملك وحدد العقود التي يجري بها تبادل الملكية، وأطلق للإنسان أن يبدع بالأساليب والوسائل التي يكسب بها، فكانت العقود شاملة لكل ما يتجدد من وسائل الحياة وأساليب العمل والإدارة، فالإسلام حين أباح الملكية الفردية أباح الصناعة والزراعة والتجارة، ما يدفع ذاتياً لإنتاج الثروة وتوفيرها للناس بدافع (المنافسة) المضبوطة بالحكم الشرعي، وفي هذا المجال أشير إلى ما هو حاصل الآن في النظام الرأسمالي من وجود حواجز كثيفة في استصدار الرخص للعمل وتأسيس الشركات أنه غير موجود في الدولة الإسلامية الذي يقضي نظامها بوجود اليسر في المعاملات وعدم التعقيد واكتفاء الدولة بالإشراف العام على السوق لضمان التقيد بالحكم الشرعي واللوائح التنظيمية العامة.

3- حث الإسلام الفرد على التمتع بالطيبات قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ) ما يدفع المستهلكين لزيادة الاستهلاك وبالتالي يدفع المنتجين لزيادة وتحسين إنتاج الأموال والجهود (الثروة) وتوفيرها للناس.

4- شرع الإسلام كثيراً من الأحكام التي تؤدي إلى بقاء دوران المال بين الناس وتحقيق توفره بيد الآخرين ومن هذه الأحكام الصدقة الواجبة والصدقة المندوبة والهبة والهدية والوصية والميراث.

5- راعى الإسلام بقاء التوازن الاقتصادي في المجتمع ما قد يدفع الدولة في حال حدوث خلل في التوازن إلى إعطاء الناس من أموالها ما يسبب وجود المال في أيديهم. كما جعل الإسلام للدولة أن تدفع للزراع أو الصناع أموالاً من أموالها لأجل توسيع أو تحسين أوضاعهم.

6- جعل الشرع للدولة أن تُقْطِع من أراضيها للناس. أفراداً وجماعات، وأن تشجعهم على إحياء الموت من الأرض ما يفتح باباً واسعاً للإنتاج وبالأخص للإنتاج الزراعي.

7- ندب الإسلام الاقتراض سواء من الأفراد أو الدولة ما يفتح باباً آخر لتوفير الثروة وتداولها.

وهكذا فإنه “إذا قامت الدولة بتوفير الأموال ونهضت بأعباء رعاية الشؤون وقام الفرد بكسب المال والسعي إلى الرزق فقد توفرت الثروة التي تكفي لإشباع جميع الحاجات الأساسية إشباعاً كلياً، وإشباع الحاجات الكمالية” [النظام الاقتصادي – تقي الدين النبهاني ص66]. أي بذلك تكون قد وجدت الثروة، فالقيمة المادية قيمة حقيقية في نظر الإسلام يُسعى لتحقيقها شأنها شأن القيم الأخرى من قيمة روحية وقيمة أخلاقية وإنسانية فجميعها قيم حقيقية يُسعى لتحقيقها.

فالإسلام وإن ميز بين النظام الاقتصادي وعلم الاقتصاد فلم يتدخل في إنتاج الثروة أو في كيفية تحسين الإنتاج أو مقدار ما ينتج لأن ذلك يختلف بحسب الوقائع والأزمان، ولكنه شرع من الأحكام ما يضمن توفير الثروة فعلاً حتى تتحقق السياسة الاقتصادية للبلاد.

وكسب المال هذا والتمتع بالطيبات لا يجوز شرعاً أن يستخدم للتفاخر أو البطر أو الإسراف بالإنفاق على المعاصي والفجور والخمور، فالمال مال الله والرزق بيد الله، والعبد مسؤول عن ماله كيف حازه وأين أنفقه، فالمال إما سبيل للجنة وإما طريق لجهنم والعياذ بالله، فحثُّ الإسلامِ على طلب الرزق والتمتع بالطيبات لا يعني حُبَّ الدنيا، ولا يعني قطعاً أن يصبح المال غاية فنسعى له بكل السبل، فالدنيا لا تساوي جناح بعوضة ومتاعها زائل فانٍ، فالحصول على المال يجب أن يبقى مسيراً بالحكم الشرعي أي بأوامر الله ونواهيه، فالمال عندنا وسيلة وليس غاية.

قال تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *