العدد 138 -

السنة الثانية عشرة – جمادى الآخرة 1419هـ – تشرين الأول 1998م

الرجوع عن بعض القرارات ليس ضعفاً

الرجوع عن بعض القرارات إذا لم يكثر ليس ضعفاً، والضعف إنما يكون في التخبط في القرارات بشكل ملفت للنظر، وذلك أن الذي يتخذ القرارات يجب عليه أن يتروى ويعيد النظر ويستشير حتى يهتدي لأرشد أمره، فإذا استشار وفكر ملياً ولم يتسرع فإنه في الغالب يصيب القرار الصحيح.على أنه لا يسلم أحد من الخطأ مهما كان حازماً ذا رأي، ما لم يكن معصوماً بالوحي.

وإذا وقع في الخطأ وبان له فإنه يجب أن يصحح القرار، ولا يعد ذلك منقصة ولا عيباً. فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى الناس عن تأبير النخل ثم رجع عن القرار في العام المقبل بعد أن لم تثمر النخل وقال لهم أنتم أدرى بأمور دنياكم. وأبو بكر رضي الله عنه عيّن خالد بن سعيد ثم عزله تحت إلحاح عمر. روى ابن عساكر عن أم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص قالت: قدم أبي من اليمن إلى المدينة، بعد أن بويع لأبي بكر، فقال لعلي وعثمان: أرضيتم ـ بني عبد مناف ـ أن يلي هذا الأمر عليكم غيركم؟ فنقلها عمر إلى أبي بكر، فلم يحملها أبو بكر على خالد، وحملها عمر عليه، وأقام خالد ثلاثة أشهر لم يبايع أبا بكر، ثم مر عليه أبو بكر بعد ذلك مظهراً، وهو في داره فسلم، فقال له خالد: تحب أن أبايعك؟ فقال أبو بكر: أحب أن تدخل في صالح ما دخل فيه المسلمون. فقال: موعدك العشية أبايعك، فجاء وأبو بكر على المنبر فبايعه. وكان رأي أبي بكر فيه حسناً، وكان معظّماً له، فلما بعث أبو بكر الجنود على الشام، عقد له على المسلمين، وجاء باللواء إلى بيته. فكلم عمر أبا بكر وقال: تولي خالداً وهو القائل ما قال؟ فلم يزل به حتى أرسل أبا أروى الدوسي فقال: إن خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك:اردد إلينا لواءنا. فأخرجه فدفعه إليه فقال: والله ما سرتنا ولايتكم ولا ساءنا عزلكم، وإن المليم لغيرك. فما شعرت إلا بأبي بكر داخل على أبي يعتذر إليه، ويعزم عليه أن لا يذكر عمر بحرف. فوالله ما زال أبي يترحم على عمر حتى مات. وفي هذا الأثر فوائد: فخالد بن سعيد كان والياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم على اليمن وعند رجوعه وجد أبا بكر خليفة فحرض عثمان وعلياً عليه فهو بشر غير معصوم. ونقلها عمر إلى أبي بكر ولم يكن هذا منه تجسساً للأمير. ولم يحملها أبو بكر عليه وتجاوزها وغطاها فخالد من ذوي الهيئات، إلا أن عمر لم يحتمل تأميره على جيش الشام وقد قال ما قال من التحريض، وما زال بأبي بكر حتى نزل عند رأيه وعزل خالداً ناقضاً قرار التعيين بقرار العزل، مع أنه في مواطن أخرى لم ينـزل عند رأي عمر فرفض عزل خالد بن الوليد ورفض عزل أسامة بن زيد. ولم يكتف أبو بكر وهو الراعي بعزل خالد بن سعيد بل ذهب إليه معتذراً وعزم عليه أن لا يذكر عمر إلا بخير ، وذلك أنه بلغه قول خالد: وإن المليم لغيرك، أي إنني لا ألومك وإنما ألوم عمر، فكان أبو بكر حريصاً على أن لا يكون في قلوب أصحابه إحن بعضهم على بعض، وكانوا من الدين بالمكان الذي يرجى لأمثالهم، فلم يحمل خالد حقداً على عمر، وظل يترحم على عمر حتى مات. وعمر نفسه، وهو القوي الحازم قرر تحديد المهور ثم رجع عن قراره هذا في الموقف نفسه على المنبر بعد أن اعترضت عليه صائبة امرأة. فرسول الله صلى الله عليه وسلم رجع عن قرار دنيوي، وأبو بكر وعمر رجعا عن قرارين من أمر الدين، وفي رسول الله أسوة وفي الشيخين قدوة .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *