العدد 139 -

السنة الثانية عشرة – شعبان 1419هـ – كانون الأول 1998م

الهجرة إلى المدينة المنورة

واصل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عرض نفسه على قبائل العرب طالباً منهم النصرة والمنعة ليبلغ عن الله ما أمره، فلما تحققت له النصرة في المدينة المنورة، توقف عن طلبها، حتى إذا بايعه الأنصار بيعة العقبة الثانية، وتحقق في المدينة المنورة وجود النواة الصلبة التي تحمي رسول الله والمسلمين، أذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين بالهجرة، فبدأ القادرون من المسلمين الهجرة إلى يثرب فرادى وجماعات.

قال الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم – وهو يومئذ بمكة –  للمسلمين: «قد أريت دار هجرتكم، أريت سبخة ذات نخل بين لابتين»، وقال أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم : «رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل فذهب وهلي إلى اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب»، فهاجر من مكة من هاجر إلى المدينة حين ذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجع إلى المدينة بعض من كان هاجر إلى أرض الحبشة من المسلمين. وكان أول من هاجر أبو سلمة، وكانت هجرته إليها قبل بيعة العقبة الثانية بسنة، حين آذته قريش مرجعه من الحبشة، فبلغه أن بالمدينة له إخواناً فعزم إليها.

وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد أصحابه ينتظر أن يؤذن له في الهجرة، ولم يتخلف معه بمكة أحد من المهاجرين إلاّ من حّبس أو فتن، إلا علي بن أبي طالب، وأبو بكر الصديق رضي الله عنهما، وكان أبو بكر كثيراً ما يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة فيقول له رسول الله: «لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحباً»، فيطمع أن يكون صاحبه الرسول صلى الله عليه وسلم. ثم أذن الله تعالى لنبيه بالهجرة إلى المدينة المنورة حيث الأنصار والأحباب. وأنزل عليه: (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ…) قال قتادة: (أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ) المدينة، وَ(أَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) الهجرة من مكة. ولم تكن هجرته صلوات الله وسلامه عليه فرار من أذى قريش. وهي التي ناصبته العداء منذ أنزل عليه الوحي، وآذته وآذت ونكّلت بأصحابه طوال ثلاثة عشر عاماً، ما اضطر بعض أصحابه إلى الهجرة إلى الحبشة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم صابراً على أذى قريش، ويطلب من المسلمين أن يتجملوا بالصبر، وأن موعدهم الجنة؛ وإنما كانت هجرته صلى الله عليه وسلم إيذاناً ببدء مرحلة جديدة في حياة الدعوة الإسلامية، إذ أصبح للدعوة مرتكز في المدينة، وأصبح النبي بعد الهجرة حاكماً فوق كونه رسولاً، فصارت بيده السلطة التي ينفذ بها شرع الله، وصار بإمكانه تجهيز الجيوش لحمل دعوة الإسلام إلى الناس كافة فلم يؤذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الحرب والقتال، ولم تحلّل له الدماء إلاّ بعد بيعة العقبة الثانية فنزل قوله تبارك وتعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)، ولذلك كانت هجرته صلوات الله وسلامه عليه إيذاناً بمولد دولة الإسلام الأولى، ومن أجل ذلك كانت الهجرة.

فلما أيقنت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صار له شيعة وأصحاب من غيرهم وبغير بلدهم، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم، وتجمعهم مع إخوانهم الأنصار بالمدينة، أيقنت الخطر الداهم الذي ينتظرها، ومكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم ليمنعوا خروجه أو ليقتلوه، ومنعوا كل المستضعفين من المسلمين من الهجرة. يقول تعالى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ)، فاجتمعوا في دار الندوة، وأقرّوا أن يقوم من كل قبيلة شاب جليد نسيب وسيط ويعمد هؤلاء الشباب إلى رسول الله وهو نائم في فراشه فيضربوه ضربة رجل واحد فيقتلوه، وبذلك يتفرق دمه في القبائل جميعها، ولا يقدر بنو عبد مناف على حرب القبائل جميعاً، فيرضوا بالدية. فأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبره بما قرّ عليه رأي قريش في شأنه، وقال له: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه، فطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من علي بن أبي طالب أن ينام على فراشه وأن يتسجى ببرده. واجتمع الشباب على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرصدونه حتى ينام فيثبون عليه، ولكن رسول الله خرج من بينهم وأخذ حفنة من تراب في يده، فجعل ينثر التراب على رؤوسهم وهو يتلو قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ)، وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه، قد هيّأ للرحلة النبوية المباركة، فأعدّ راحلتين، ودفعهما إلى رجل من بني الدئل ليرعاهما، وليصحبهما في رحلتهما الميمونة يدلهما على الطريق. ولم يعلم بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد حين خرج إلاّ علي بن أبي طالب ليؤدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التي كانت عنده لقريش، وأبو بكر الصديق وآله. روى أبو نعيم قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة مهاجراً إلى الله يريد المدينة قال: «الحمد لله الذي خلقني ولم أك شيئاً، اللهم أعني على هول الدنيا، وبوائق الدهر، ومصائب الليالي والأيام. اللهم أصحبني في سفري، واخلفني في أهلي، وبارك لي فيما رزقتني…» وخرج الرسول وصاحبه من بيت أبي بكر، وعمدا إلى غار ثور، وأمر أبو بكر ابنه عبد الله أن يكون في مكة بالنهار يتسمع ما يقول الناس ثم يأتيهما في المساء بما سمع، وأمر مولاه أن يرعى غنمه نهاره، ثم يريحها عليهما إذا أمسى في الغار فيحتلبان ويذبحان، ثم يتبع غنمه طريق عودة عبد الله بن أبي بكر ليعفي على أثره، وكانت أسماء بنت أبي بكر (ذات النطاقين) تأتيهما من الطعام إذا أمسيت بما يصلحهما.

وأورد الإمام أحمد أن المشركين حين وجدوا علياً في فراش الرسول صلى الله عليه وسلم اقتفوا أثره، فلما بلغوا الجبل الذي فيه الغار اختلط عليهم، فصعدوا الجبل فمروا بالغار (وبداخله الرسول الكريم وصاحبه) فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا لو دخل ههنا أحد لم يكن نسج العنكبوت على بابه، وأورد الإمام أحمد عن أنس بن مالك أن أبا بكر حدّثه قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ونحن في الغار: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه. فقال:«يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله معهما» وفيهما نزل قوله تعالى: (…إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا…)، وفي ذلك لفتة كريمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة، وهي وجوب ربط الأسباب بمسبباتها، فالرسول صلى الله عليه وسلمكان يعلم أن الله معه وحارسه ولن يمكّن منه الكفار ولكنه أخذ بالأسباب وأعدّ للرحلة المباركة عدّتها، وبات بغار ثور ثلاث ليال ليسكن الطلب عنهما، ثم مضى بهما الدليل على الساحل ليموّه على المشركين، الذين كانوا يعلمون أنه يقصد يثرب.

روى البيهقي قال: ذكر رجال على عهد عمر فكأنهم فضلّوا عمر على أبي بكر فبلغ ذلك عمر فقال: والله لليلة من أبي بكر خير من آل عمر. وليوم من أبي بكر خير من آل عمر. لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة انطلق إلى الغار ومعه أبو بكر فجعل يمشي ساعة بين يديه وساعة خلفه، حتى فطن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أبا بكر ما لك تمشي ساعة خلفي وساعة بين يدي؟» فقال: يا رسول الله أذكر الطلب فأمشي خلفك ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك، فقال: «يا أبا بكر لو كان شيء لأحببتَ أن يكون بك دوني؟» قال: نعم، والذي بعثك بالحق. فلما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر: مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ لك الغار، فدخل فاستبرأه، حتى إذا كان ذكر أنه لم يستبرئ الجحرة فقال: مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ، فدخل فاستبرأ ثم قال: إنزل يا رسول الله، فنزل. ثم قال عمر: والذي نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر.

وقد جعلت قريش في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره، فخرج سراقة بن مالك بن جُعشم يطلبهما، حتى إذا أدركهما، دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اللهم اكفناه بما شئت. فساخت قوائم فرسه إلى بطنها في أرض صلد ووثب عنها، فعلم أن الله مانعهما منه، فناداهما بالأمان، وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب له كتاباً يكون إمارة ما بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتب له أبو بكر كتاباً في عظم أو رقعة أو خرقة، حتى إذا كان فتح مكة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفرغ من حنين والطائف، لقي سراقة الرسول عليه السلام بالجعرانة، ومعه الكتاب ونادى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائلاً: يا رسول الله، هذا كتابك لي، أنا سراقة بن جعشم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يوم وفاء وبر، أدنُهْ فدنا سراقة وأسلم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *