العدد السادس -

السنة الأولى، العدد السادس ربيع الأول 1408هـ، الموافق تشرين ثاني 1987م

أحكام الشرع بين الدولة والأفراد

 

في النظام الإسلامي إذا قصّر الحاكم في القيام بأعمال الحكم، فهل يقوم الناس بهذه الأعمال تلافياً للتقصير؟ وإذا لم يكن هناك دولة إسلامية تطبّق الشرع فما الذي يباشره الناس من أحكام الشرع وما الذي لا يجوز لهم مباشرته؟ وما حكم استعمال السلاح لإقامة الخلافة؟ ومن هو المسؤول عن الرعاية الإلزامية والرعاية غير الإلزامية لشؤون الناس؟

بين الخليفة والأفراد

الأحكام الشرعية منها ما هو منوط بالأفراد ومنها ما هو منوط بالحاكم (الخليفة أو من ينوب عنه) ومنها ما يقوم به الأفراد وتقوم به الدولة (أي الحاكم).

فالأمور المتعلّقة بالعقائد والعبادات والأخلاق والمطعومات والملبوسات والمعاملات هي من الأمور التي يجب على الفرد المسلم أن يلتزم بها ويؤدّيها سواء كان يعيش في دار إسلام أو دار كفر، وسواء كانت هناك دولة إسلامية أو لم تكن. وخليفة المسلمين حين يؤدّي هذه الأمور في الدولة الإسلامية هو يؤدّيها بصفته الفرديّة وليس بصفته حاكماً.

أما الأمور المتعلقة بإقامة الحدود، والقضاء بين الناس، والرعاية الإلزامية لشؤونهم، وإعلان الحرب، وعقد الهدنة أو الصلح أو المعاهدات، كل ذلك هو من أعمال الخليفة بصفته حاكماً وليس بصفته الفردّية. ولا يجوز للأفراد أن يمارسوا هذه الأحكام؛ فإذا قصرّ فيها الخليفة فإن عليهم أن يحاسبوه حتى يقوم بواجبه، وليس لهم أن يقوموا هم بأخذ صلاحيّاته والقيام بأعماله. وإذا زالت الخلافة فليس للأفراد أن يقوموا بأعمال الخليفة، بل عليهم أن يقيموا الخلافة ويبايعوا خليفة يقوم بأعمال الحكم ويمارس صلاحيّاته.

وهناك أمور مثل بناء المسجد، وحمل الدعوة للناس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإصلاح بين الناس، والرعاية غير الإلزامية لشؤونهم، والقتال في وجه من يعتدي عليهم، كل ذلك يقوم به الأفراد وتقوم به الدولة.

في الدور المكّي

وبناء على هذا التصنيف للأحكام فإنه ليس مهماً عند المسلم متى نزلت هذه الأحكام، فلا يترتب على مكان نزولها أو زمن نزولها أية نتيجة. ولكننا نلاحظ أن الأحكام المنوطة بالحاكم فقط، بدأ نزولها في المدينة بعد الهجرة، أي بعد أن صار للمسلمين دولة وحاكم. أما قبل ذلك فكانت أمور الدين مقتصرة على ما يقوم به الأفراد.

ولذلك فإنّنا حينما نقول بأننا الآن في وضع يشبه الدور المكّي نعني أننا لا يوجد لنا الآن دولة إسلامية، والمسلمون في الدور المكّي لم تكن لهم دولة إسلامية، والمسلمون في ذلك الدور لم يمارسوا الأعمال المنوطة بالحكام لأنه لم يكن لهم حاكم ولم تكن تلك الأحكام قد نزلت بعد. أما الآن فإن هذه الأحكام نازلة وموجودة ولكن لا يوجد حاكم يطبّقها فهي معطّلة، وتبقى معطّلة حتى تُقام الدولة الإسلامية ويُقام الحاكم الذي يطبّقها، لأنه لا يجوز للأفراد أن يطبّقوها.

وأمّا الأحكام التي نزلت في المدية بعد قيام الدولة والتي ليست منوطة بالحاكم، فإن المسلمين مطالبُون بها منذ نزولها وإلى قيام الساعة، سواء كانوا في دار كفر أو دار إسلام.

ولذلك فإن الضابط الذي نصنّف الأحكام بموجبه هو كونها خاصّة بالحاكم أو خاصّة بالأفراد، أو هي من الأحكام التي يقوم بها الحاكم ويقوم بها الأفراد بغضّ النظر عن زمن نزولها أو مكانه.

ضررها أكبر من نفعها

ونأتي إلى سؤال: إقامة الجمعيات الخيرية وجمعيات الوعظ والإرشاد وجمعيات بناء المساجد، هل هي من أعمال الأفراد أو من أعمال الحاكم؟ والجواب واضح، وهو أن النصوص المتعلقة بهذه المسائل جاءت تحث الأفراد على القيام بذلك. من ذلك قوله : «من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة»، ومنها: «من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربه من كرب يوم القيامة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» ومنها: «ما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم، وما بال أقوام لا يعلّمون جيرانهم». وما كان من أعمال الفرد فإنه يجوز أن يتعاون فيه مجموعة من الأفراد، سواء شكلوا جمعية لها أمير ولها صفة الدوام أو كان تعاوناً عابراً لمرة أو مرّات. وهذه الأعمال تقوم بها الدولة (أي الحاكم) كما يقوم بها الأفراد، والفرق أن الحاكم له صلاحية الإلزام، بينما الأفراد ليس لهم صلاحية الإلزام. وهذا الأعمال هي رعاية الشؤون، ورعاية الشؤون الاختيارية ليست من الحكم، فهي جائزة للأفراد، أما رعاية الشؤون الإلزامية فهي حكم وهي خاصة بالخليفة، والخليفة لم يحصل عليها إلا بعد أن بايعه الناس. ولكن هذه الجمعيات كثيراً ما يكون ضررها الخفي أكبر من نفعها الظاهر، وفي هذا الحال فإن عدم وجودها أفضل لأنها تنفس حماسة المسلمين في أمور صغيرة وتلهيهم عن العمل لإقامة الدولة الإسلامية التي تصحح الأوضاع وترعى الشؤون بشكل جذري.

ونأتي إلى سؤال آخر: العمل المسلّح لمحاربة العدو مثل إسرائيل، أو لرد الصائل، أو للعمل لإقامة الدولة الإسلامية ما حكمه؟ وهل هو من أعمال الأفراد أو من أعمال الدولة؟

الجواب: السلاح على أيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان موجوداً بين أيدي الناس وليس في أيدي فئة معينة فقط. وقد وردت نصوص أن المرء مشروع له أن يدافع عن ماله ونفسه وعرضه بالسلاح إذا صال عليه صائل. سأل رجل رسول الله : «أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي قال: لا تعطه مالك. قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: فقاتله» الحديث، وهذه الحالة غير حالة الفتنة بين المسلمين.

فرض مهما طال الزمن

وأما قتال الأعداء مثل إسرائيل فالحكم الشرعي الواضح عند المسلمين أنه حين يغزو الكفّار بلاد المسلمين فإن قتالهم فرض عين على كل مسلم في تلك النقطة، ويجب أن يهبّ,ا فوراً، والمرأة تخرج لقتال العدو دون أن تحتاج إلى إذن زوجها، ويجب أن يستمرّ القتال حتى يُطرد العدو، وإذا لم يكفِ أهلُ تلك البقعة لردّ الكفّار انتقل الوجوب إلى من يليهم حتى تحصل الكفاية. ولا يجوز للمسلمين أن يستكينوا مهما طال الزمن. واليهود قد اعتدوا على بلاد المسلمين، واحتلّوا فلسطين وغيرها، ورّدوا أهلها؛ واعتداؤهم ما زال مستمراً، فقتالهم واجب، وهو واجب على الأفراد وعلى الحاكم وليس خاصاً بالحاكم وحده. والقتال الذي هو خاصّ بالحاكم ولا يجوز للأفراد إلا بأمر الحاكم هو إعلان الحرب أو المبادرة بحرب قومٍ بيننا وبينهم حرب فعليّة.

خلاف فقهي

وأما استعمال السلاح لإقامة الدولة الإسلامية فإن المسألة فيها خلاف فقهي. فالذين يجيزون أو يوجبون استعمال السلاح يستدلّون بالأحاديث التي تأمر بطاعة الحاكم وعدم الخروج عليه إلا في حالة إظهاره الكفر البواح. وهم يقولون بأن الحكّام الحاليين قد أظهروا الكفر البواح ونحن نرى منهم تطبيق الكفر الصراح، فيجب علينا أن ننابذهم بالسيف، أي بالسلاح حتى نغيّر عليهم أو نغيّرهم.

والذين لا يجيزون استعمال السلاح يستدلّون بأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يستعمل السلاح هو وأصحابه في إقامة الدولة الإسلامية، وكان أمر الله لهم أن يكفوا أيديهم ويقيموا الصلاة: (ألَمْ تَرَ إلى الذين قبل لهم كُفّوا أيديكم وأقيموا الصلاة). وبعد بيعة العقبة عرض عليه أصحابه أن يقاتلوا. قالوا: (لو شئت لنميلنّ على أهل منى غداً بأسيافنا. قال: لم تؤمر بعد). وبعد الهجرة، وبعد أن صار للمسلمين دولة أُذِن لهم بالقتال: (أُذِن للذين يقاتلون بأنهم ظُلِموا وأن الله على نصرهم لقدير).

وهؤلاء الذين لا يجيزون استعمال السلاح لإقامة الدولة يفرّقون بين وضعين: وضع دار كفر مستقرة على أنظمة الكفر من زمن، ووضع دار إسلام تطبق أنظمة الإسلام، وقام الحاكم فيها يعمل على تحويلها إلى دار كفر بإظهار بعض أحكام الكفر فيها. في الوضع الثاني تنطبق الأحاديث التي توجب منابذتهم بالسيف. أما في الوضع الأول فإنها لا تنطبق، لأن الوضع الأول يحتاج إلى حمل دعوة وتغيير القناعات والمقاييس والمفاهيم عند الناس قبل حمل السلاح على الحكام، لأن المسألة ليست مسألة حاكم يريد ردّ المجتمع إلى أنظمة الكفر، بل مسألة مجتمع تريد نقله من الكفر إلى الإسلام. ولو افترضنا أن المسلمين الموجودين الآن في فرنسا أرادوا حمل الدعوة الإسلامية فيها، فهل يفكّر أحد أن يقيم الدولة الإسلامية هناك عن طريق السلاح؟ أما في حالة الفتح فالأمر مختلف.

ولذلك فإنَّ الرأي الأصح والأرجح هو عدم جواز استعمال السلاح الآن لإقامة الدولة الإسلامية، بل يكون عن طريق طلب النصرة من أهل القوة بعد أن حصل التفاعل مع الأمة وصارت الأمة تتوق وتتطلع إلى قيام الخلافة الإسلامية ومبايعة خليفة المسلمين الذي يحكم بما أنزل الله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *