العدد السادس -

السنة الأولى، العدد السادس ربيع الأول 1408هـ، الموافق تشرين ثاني 1987م

بلغاريا بين الحقد الصليبي والخوف المبدئي

إعداد: فاطمة رجبَّوفا ومصطفى عليلوف

ترجمة: محمد ثاني

تتمة البحث المنشور في العدد السابق

 إصلاح اقتصادي!

بدأت علمية تفتيت وإضعاف قوة المسلمين الاقتصادية في وقت مبكر. فمثلاً كان كل من إقليمي “تونة” و”أدرنة” في القرن الماضي من أكثر المناطق تقدماً اقتصادياً في الدولة العثمانية، وكان المسلمون يملكون غالبية الأراضي المزروعة فيها. وتحت شعار “الإصلاح الزراعي”، صودرت ممتلكات المسلمين من حقول ومزارع وحدائق ومنازل وحيوانات. وبحلول عام 1949، أصبح 80% من المسلمين في بلغاريا من صغار المزارعين.

وجاءت عملية تأميم الأراضي ما بين عامي 1949 و1955، فكانت تلك الضربة القاضية للبنية الاقتصادية عند المسلمين، حيث أن نسبة العاملين منهم في قطاع الصناعة لا تتعدى 1%، نظراً للمضايقات الكبيرة التي يتعرضون لها. وبسبب ذلك، عمد كثير من المسلمين إلى هجرة الأراضي الزراعية، ومحاولة الحصول على وظائف حقيرة في تعاونيات الدولة، وفي جمع القمامة، ورعي الأغنام، وما إلى ذلك.

اتجاه عفوي!

مع مطلق عام 1964، بدأ العمل المحموم لمحاولة إذابة الشخصية الإسلامية في المجتمع النصراني الشيوعي، والقضاء على أي مظهر يوحي بوجود الإسلام.

فقد عمدت السلطات إلى إجبار المسلمين على تغيير أسمائهم. وقد بدأت بالغجر الذين لا أثر لهم يذكر في مظاهر الحياة.

ثم انتقلت إلى المسلمين البلغار “البومغانسي”، زاعمة أنهم قد تقدموا بطلبات لتغيير أسمائهم الإسلامية وجعلها أسماء نصرانية. وأوضحت الحكومة بأن هؤلاء المسلمين قد وافقوا طواعية على إحياء جذورهم السلافية، وأن هذا الاتجاه ليس اتجاهاً حكومياً ـ حسب زعمهم، بل بمبادرة من الناس، وحقيقة تاريخية. وأضافت الحكومة قائلة: أن الكثير من مواطني بلادنا الذي يحملون أسماء غريبة عن البلغار قد استفادوا من حقهم، فقاموا بتغيير أسمائهم، وهذا لا يعتبر إهمالاً لهذا الدين على أي حال، لأنه لا يوجد قواعد دينية بمقدورها تحديد أسماء اتباعها. ولهذا يتقدم المسلم طواعية بطلب تغيير اسمه ـ حسب زعمهم ـ من محمد إلى “ميلين”، ومن علي إلى “إيلي”، فأي حقد صليبي وعداء مبدئي هذا!

وعمدت الحكومة إلى منع صرف رواتب العمال والموظفين، وتقاعد العجزة والأرامل إلا إذا تم تغيير أسماءهم الإسلامية. ولا يُسجل طلاب جدد في المدارس، ولا يرفع طالب من صفه إلى صف أعلى، إلا إذا غير اسمه.

لعبة الأزياء

هذه لعبة الأسماء، أما لعبة الأزياء، فإن السلطات تجبر النساء المسلمات على ترك الزي الإسلامي المحتشم إلى الزي الأوروبي الفاضح، ومنعتهن كذلك من لبس غطاء الرأس. وتمنع المخالفة من ركوب الأوتوبيس. وإذا صودف أن صعدت إحداهن، سارع السائق لإجبارها على النزول أو تنزع حجابها.

وتحرم المحتجبة من دخول المستشفى، أو دخول الأماكن العامة، كالمخازن والمحال الكبيرة. ولهذا، تضطر المسلة إلى قطع مسافات طويلة سيراً على الأقدام لتصل إلى مكان عملها، لأنها ممنوعة من ركوب الأوتوبيس. هذا بالنسبة للأحياء، أما الموتى.. فيمنع دفنهم اليوم كما كان متبعاً في السابق حسب الشريعة الإسلامية.

ويمنع المسلمون من مزاولة أي شعائر دينية في الأعياد والمناسبات الدينية، كالصوم وصلاة العيدين، وإقامة الصلاة، والتضحية في عيد الأضحى.

دار “البلوى”!

وتنتهز الحكومة “فرصة” موت أحد أئمة المساجد، فتُقدم على إغلاق مسجده أو هدمه. كما قطعت الحكومة الاتصال بين دار الفتوى الإسلامية والمراكز الإسلامية في البلاد العربية إلا عبر ممثليها من المجلس الكنسي، والذي جعل مقره دار الفتوى الإسلامية الواقع في قلب “صوفيا” ـ آخر شارع “جدانوف”.

والممثل الكنسي هذا هو الذي يريد شؤون دار الفتوى، واسمه “غوشو”، واسم سكرتيره المفتي “آني”. وهذا الأخيرة مهمتها أخذ كافة المعلومات، وإجراء التحقيق مع كل من يريد الدخول على المفتي لأي غرض كان. ثم يتمم المفتي استكمال تلك المعلومات وتديمها إلى السلطات. ولذلك، “آنى” أحد أنشط أجهزة المخابرات على المسلمين وشباب المسلمين في بلغاريا.

وكما كرت آنفاً، فإن الحكومة قررت إلغاء تدريس اللغة التركية، واعتبرت التحدث بها جريمة. وذلك أن اللغة التركية فهي المصدر الوحيد لمسلمي بلغاريا الذي يمكنهم بواسطته فهم الشريعة الإسلامية، وذلك عبر الكتب التي تهرب من تركيا. لكن كثيراً هذه الكتب يصادر على الحدود بين البلدين (الصورة3).

ولا يقتصر الأمر على ذلك، فمدارس البلغار تتهكم على التراث الإسلامي من خلال برامجها ومقرراتها. فضلاً عن أن أطفال المسلمين يقطعون الكيلومترات للذهاب إلى مثل تلك المدارس، بعد أن أفرغت قراهم من مثل تلك المؤسسات.

تفنن وإبداع!

وليس غريباً أن يعيد التاريخ نفسه. فمحاكم التفتيش في أسبانيا صلحت لأن تكون مصدراً لمعرفة أبشع الأساليب. وها هي سلطات بلغاريا الشيوعية تتفنن في أذى المسلمين.

وقد بلغ من “إبداع” الحكومة الشيوعية أنها استدعت الأطفال في المدارس إلى اجتماع عام، وشكلت لجنة للكشف عليهم ومعرفة المختونين منهم. وكل طقل مختون عوقب أهله بالسجن مدداً تتراوح بين 5 ـ 10 سنوات. وأما من احتج على هذه القرارات فقد أبيدوا داخل السجون المخصصة لهم تحت الأرض. وتمّت عملية الإبادة إما بالغازات السامة، أو بالكهرباء ذات الضغط العالي، أو بالرصاص. ولا يزال قسم كبير منهم في السجون إلى الآن، بعد أن قتل من قتل من الشيوخ والنساء والأطفال.

وأما المسلمين الأتراك، فقد أرادت الحكومة الشيوعية تغيير أسمائهم إلى أسماء نصرانية، وذلك لإزالة آخر مظهر من مظاهر الإسلام تحت اسم “البلغرة”.

فتوى علميّة!

وقد اتبعت السلطات أسلوباً آخر مستخدمة علماء “الأنترولوجيا”، ذلك لإثبات أنَّه لم يكن هناك أتراك في بلغاريا في العهود السالفة. واستناداً إلى تلك الفتوى العلمية، بدأت هجمتها النازية على المسلمين الأتراك.

وقد كان من البديهي أن يرفض المسلمون هذا العمل، كما رفضه من قبل “البومغاتسي” والغجر المسلمون. لذلك تصدّوا لهذه العملية بكل ما أوتوا من قوة، وتأزّم الوضع الأمني في جميع المناطق البلغارية، وأعلنت حالة الطوارئ القصوى في المناطق ذات الأغلبية الإسلامية. واستعانت السلطات بالجيش ـ الجنود ذوي القبعات الحمر، فنزل إلى معظم المدن البلغارية بما فيها العاصمة “صوفيا“، وعاش الناس حالة من الذعر والفوضى.

أجبرت المسلمين البلغار من الأصل التركي على بلغرة أسمائهم، وأصرّت على القول بأن المواطنين وافقوا طوعاً ودون إكراه على ذلك.

ولمحاولة صرف الناس عن التحدث عن تلك الأوضاع، عمدت السلطة إلى تأزيم الوضع الاقتصادي، لاشغال الناس في أمورهم المعيشية. ففقدت بعض المواد الاستهلاكية الأساسية، وقامت بتقنين الكهرباء في المدن الرئيسية، وقطعتها نهائياً عن بعض المدن الصغيرة والأرياف، وعانى الناس قسوة الشتاء لانعدام وسائل التدفئة.

ورغم التعتيم الإعلامي فقد تسربت أنباء تفيد أن المواطنين المسلمين اشتبكوا مع قوى الأمن الداخلي البلغارية التي حاصرت قرى عديدة مثل “فليشكا” و”يابلانوفو” و”فراني كون” و”أوبنيل” و”فيلاريتوفو“. ومفاد تلك الأنباء أن أهالي القرى علموا بما تنوي السلطة القيام به، فأقاموا الحواجز حول قراهم واستعدوا للمجابهة.

“تغيير اسم طوعي”!

وقد حدث ما توقعه الناس، فقد داهمت قوّة من الشرطة قوامها 150 رجلاً قرية مسلمة لإجبارهم على تغيير أسمائهم، إلا أن المسلمين تصدّوا لتلك القوة وردّوها على أعقابها. وتكرّرت العلمية وتكرّر الفشل. وعند ئذٍ، استعانت هذه القوة بالجيش، فنزل بالمصفّحات وبالقنابل المسيلة للدموع، وأطلقت النار على كل من حاول الاعتراض. وبعد اشتباكات عنيفة مع الأهالي، دخل الجيش عنوة، وفرض نظامَ منع التجول، وسقط خلال هذه المقاومة 34 قتيلاً من الأهالي ودخلت قوّات السلطة إلى كلّ بيت، وقدّمت إلى ربّ البيت قسيمة “تغيير اسم طوعي”.

وكما حصل في هذه القرية الصغيرة، تكرّر الأمر في قرى أخرى كثيرة، وبشراسة أشدّ، وهمجيّة أعنف. ورغم ذلك، أعلنت كثير من القرى والمدن العصيان على السلطة، مثل “رازغراد” و”كردزالي” و”يابلونوفو” و”ساموكوف” و”فراني تون” و”أوبيتك” و”غيرلوفا” و”أليورمان“، فأعطت السلطات الأوامر للبلدوزرات والدبابات بالهجوم على القرى المتمرّدة.

قسائم … ووثائق

وقد قام الجيش بهجوم كبير،فسوّيت المنازل بالأرض على رؤوس ساكنيها، وبدأت حملةُ تفتيش عن المصاحف والكتب الإسلامية وأي أثر إسلاميّ. ثم وزّعت القسائم آنفة الذكر على رب كل أسرة، وطلب منه ملؤها، وإلا كان مصيره الإهانة والصفع والركل. ومن أصرّ على الرفض شاهد بأمّ عينه رجال السلطة وهم ينتهكون عرضه بتعرية بناته أو بالاعتداء عليهنّ.

وفي تلك الحوادث، استُشهد من استُشهد، وأُغرق الكثيرون في النهر كما حصل في مدينة “ساموكوف”. وأُحرقت قرية “دوسباد” بالنار. كما دُفن كثير منهم وهم أحياء، أو شنقوا ليكونوا عِبرة لغيرهم.

في منتصف نيسان عام 1985، سمعت أصوات طلقات نارية في منطقة “زانت” شمال شرق اليونان، فاستنفر حرس الحدود اليوناني، واستقبلوا من استطاع الفرار وكتبت له النجاة. وكانت أولى مجموعات الفارين 3 أسر تركية مسلمة قررت اللجوء إلى اليونان والاتصال بالسفارة التركية فيها. وصرح هؤلاء بأنهم مسلمون لم يستطيعوا احتمال أذى السلطات البلغارية، ففرّوا إلى اليونان تحت نيران الحرس البلغار.

وفي ربيع الأول عام 1406هـ، وفي إحدى القرى المسلمة، منعت السلطات البلغارية المسلمين من الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف، وقامت بإغلاق ما تبقى من المساجد العاملة، وإطلاق النار على بيوت المسلمين، مما أدى إلى استشهاد 15 مسلماً، منهم 3 أطفال دون العاشرة.

وعلمت السلطات أن عدداً من المسلمين يتوجّهون إلى بعض المساجد خفية في منطقة “بافاريا”. فقام البوليس بشن حملة اعتقالات واسعة شملت أكثر من 200 مسلم، وُجهّت إليهم تهمة مناهضة النظام الشيوعي، وأودعوا السجن بانتظار المحاكمة.

وحتى المقابر لم تسلم من هذه الهجمة الشرسة، فقد قامت السلطات بهدم القبور وتسويتها. كما أجبرت المسلمين على دفن موتاهم بالتابوت، خلاقاً لأحكام الشرع، وأمرت بالالتزام بالكيفية النصرانية في الدفن.

ومن أمثلة ما يحيق بالمسلمين ما جرى مع نعيم سليمان بطل الأثقال العالمي ذي الأصل التركي، والذي حوّلت السلطات اسمه إلى اسم يهودي هو “نعوم شلامانوف”. ففي سنة 1986، وأثناء وجود البطل في ملبورن بأوستراليا، اتصل بالسفارة التركية طالباً الرجوع إلى تركيا. وحاولت السلطات البلغارية تلاشي الفضيحة، فحاولت إخفاء الأمر، لكنها عادت وادّعت أن الأمر قد تمّ بالتهديد والقوّة، وذلك بعد أن وصل الخبر إلى وسائل الإعلام العالمية. ولا يعلم إلى الله ما حلّ بعائلة هذا البطل.

صليبيون بالدرجة الأولى

هذا غيض من فيض ما يلاقيه المسلمون من اضطهاد على يد السلطات النصرانية الشيوعية، والتي جمعت ما بين الحقد الصليبي التاريخي، والعداء المبدئي للإسلام وأهله. فالمسلمون في بلغاريا ليس هلم حق في الحياة إلا بما تجود عليهم الدولة به من مهن حقيرة. ومنعوا من إقامة شعائرهم الدينية، وحرموا من الهجرة إلى أرض الله الواسعة. حتى أسماؤهم لم تعد ملكاً لهم. وإذا فشلوا في حمل المسلم على اعتناق مذهبهم حياً، فلا أقل من أن يدفن ميتاً على طريقتهم النصرانية.

ولا يصحّ أن يقال إن ذلك قد تم بدافع عداء الشيوعية المبدئي للإسلام، لأن الشيوعية تعادي كلّ الأديان، وتعتبر الدين مطلقاً أفيون الشعوب. لكن السلطات تتصرّف بدافع الحقد الصليبي ليس غير، فرجال الدين النصارى يحظون باحترام كبير، وكنائسهم محترمة ومعطاة حرّية مطلقة. وقد ازداد عدد الكنائس بشكل ملفت للنظر بعد قيام الثورة البلشفية، فضلاً عن الترميم السريع للكنيسة التي تتعرض للتلف. يضاف إلى ذلك أن السلطة تحاول إيجاد أمجاد للكنيسة الأرثوذكسية مستعينة بها على محاربة الإسلام والمسلمين. كل هذا ومثله يدل دلالة قاطعة على أن السلطة تتصرّف بدافع حقدها الصليبي على الإسلام وأهله بالدرجة الأولى.

ولاية في دولة الخلافة

هذه لمحة موجزة عن بقعة كانت حتى الأمس القريب ولاية في دولة الخلافة، كيف كانت وكيف صارت. وإذا كنا نألم لما نقرأ ونسمع عن المسلمين في تلك الأصقاع، فما يعانيه المسلمون حول الكعبة أو رحاب بيت المقدس أو حول الأزهر أو النجف الأشرف ليس بأقلّ. فما دام سلطان الإسلام غائباً عن مسرح الحياة، فالمسلمون حالهم كما يقول النبي : «سيأتي زمان على أمتي القابض على دينه كالقابض على الجمر»، فإذا لم يستجب الناس إذا ما دُعوا لما يحييهم فإن المصيبة عامّة، والبلية طامّة، والله تعالى يقول: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم).

وهؤلاء إخواننا في الدين في بلغاريا، ينتظرون سلطان الإسلام ليدخلوا فيه، وإعلان دولة الخلافة ليبايعوا. ومن العجيب أن تجد بعض المسلمين حتى اليوم في قلب بلاد الإسلام يدعون إلى اعتناق الشيوعية!

فالحياة بإيجاد الإسلام في واقع الحياة ولا وجود له إلا بدولة ترفع راية إله إلا الله محمد رسول الله، فترعى الشؤون، وتحمي الثغور، وتقيم الحدود، وتحكم بشرع الله وتحمل الدعوة إلى العالم!

وإنه، وإن أصاب المسلمين شيء من الوهن، فإن جذوة الإيمان ما زالت متّقدة في النفوس، وسيُحق الله الحقّ بكلماته، وسيقطع دابر الكافرين.

(كتب الله لأغلبنّ أنا ورسلي، إن الله لقوي عزيز).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *