العدد 140 -

السنة الثالثة عشرة – رمضان 1419هـ – كانون الثاني 1999م

في رحاب السيرة النبوية الشريفة: الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة

حفظ الله رسوله وصاحبه في هجرتهما من مكة إلى المدينة، وسلك بهما دليلهما طريقاً لا يفطن إليه مشركو قريش، واستمرت سفرته من مكة إلى المدينة قرابة الأسبوعين، وقد روى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجاراً عائدين من الشام، فكسا الزبير رسول الله وأبا بكر ثياباً بياض. وقد سمع المسلمون في المدينة بمخرج رسولهم عليه السلام إليهم، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة ينتظرون مقدمه حتى يردهم حر الظهيرة. حتى إذا كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، انقبلوا إلى بيوتهم بعدما اشتد عليهم الحر، وأطالوا انتظارهم، ولم يبق ظل يتفيأونه، فكان أن بصر برسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود، فصاح بأعلى صوته: يا معشر العرب هذا جدكم الذي تنتظرون! فثار المسلمون إلى السلاح، فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في ظل نخلة ومعه أبو بكر رضي الله عنه، وازدحم عليه الأنصار، وأكثرهم لم يكن رآه من قبل، ولم يكن يميزونه من أبي بكر حتى زال الظل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام أبو بكر فأظله بردائه، فعرفوه عند ذلك. وقد كان قدومه صلى الله عليه وسلم إلى قباء يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف، وبنى أول مسجد في الإسلام وهو مسجد قباء، الذي نزل فيه قوله تعالى: (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ)، وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولبث في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة، كما يزعم بنو عمرو بن عفو، أما ابن إسحاق فقد ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بقباء أيام الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، ثم أخرجه الله من بين أظهرهم يوم الجمعة، ثم ركب راحلته، وسار يمشي معه المسلمون، فاعترضته القبائل تبغي نزوله عندها، ولكن رسول الله قال: «خلوا سبيلها، فإنها مأمورة»، حتى إذا أتت دار بني مالك بن النجار، بركت في مربد لغلامين يتيمين من بني النجار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا إن شاء الله المنزل»، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ناقته، واحتمل أبو أيوب الأنصاري رحله، فوضعه في بيته، ونزل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بنى مسجده ومساكنه، وشارك صلى الله عليه وآله وسلم في بنائه ليرغب المسلمين في العمل فيه، وعملوا فيه جميعاً مهاجرين وأنصاراً، وارتجزوا:

        لا عيش إلا عيش الآخرة

                                             اللهم ارحم الأنصار والمهاجرة

فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا عيش إلا عيش الآخرة     اللهم ارحم المهاجرين والأنصار».

وهو المسجد النبوي الشريف بالمدينة المنورة. وتلاحق المهاجرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبق بمكة منهم أحد إلا مفتون أو محبوس، وتركوا أموالهم وديارهم هجرة إلى الله ورسوله، وآخر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار فقال صلى الله عليه وسلم: «تآخوا في الله أخوين أخوين، ثم أخذ بيد علي ابن عمه فقال: هذا أخي، وكان حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخوين، وبذلك أحس الجميع بالتغير الجديد الذي لحق بالمجتمع، ودخلت الحياة الجديدة دور المسلمين جميعاً.

وكانت أو خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، أن حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: «أما بعد، أيها الناس، فقدموا لأنفسكم. تعلمن والله ليصعقن أحدكم، ثم ليدعن غنمه ليس لها راع، ثم ليقولن له ربه، وليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه: ألم يأتك رسول فبلغك، وآتيتك مالاً وأفضلت عليك؟ فما قدمت لنفسك؟ فلينظرن يميناً وشمالاً فلا يرى شيئاً، ثم لينظرن قدامه فلا يرى غير جهنم. فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق تمره فليفعل، ومن لم يجد فبكلمة طيبة، فإنها تجزى الحسنة عشر أمثالها، إلى سبع مائة ضعف، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته».

وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً بين المسلمين وادع فيه يهود وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم وشرط لهم واشترط عليهم. وفيما يلي بعض ما ورد من الكتاب:

«بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم، وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة من دون الناس… وأن لا يحالف مؤمن مولى مؤمن من دونه، وأن المؤمنين المتقين على من بغى عليهم أو ابتغى دسيعة (عظيمة) ظلم، أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعاً ولو كان ولد أحدهم، ولا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر، ولا ينصر كافراً على مؤمن، وأن ذمة الله واحدة، يجيز عليهم أدناهم، وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس، وأنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصرين عليهم، وأن سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله، إلا على سواء وعدل بينهم… وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر، أن ينصر محدثاً ويؤويه، وأنه من نصره أو آواه، فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل، وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء، فإن مرده إلى الله عز ولجل، وإلى محمد صلى الله عليه وسلم، وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين». وعدد طوائف من اليهود: يهود بني عوف، وبني النجار، الحارث، وبني ساعدة، وبني جشم، وبني الأوس، وبني ثعلبة، وأنهم أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم.

وبذلك وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم صيغة التعايش داخل المدينة المنورة، بين المسلمين ومن يساكنهم من اليهود، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة، وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.

فلما اطمأن الرسول الكريم بالمدينة، واجتمع إليه إخوانه من المهاجرين، واجتمع أمر الأنصار، استحكم أمر الاسلام، فقامت الصلاة، وفرضت الزكاة والصيام، وقامت الحدود، وفرض الحلال والحرام، وصار بلال رضي الله عنه يؤذن للصلاة، الأذان الذي نعرفه الآن، دخل في الإسلام كثيرون نفاقاً، وأخفوا الكفر، ومنهم اليهود، الذين حالهم أن يصير للأميين كيان ودين، فامتلأت نفوسهم غيظاً وحسداً، فمنهم من ناصب المسلمين العداء، وهم من كانوا حول المدينة، ومنهم من دخل الإسلام لعلهم يستطيعون أن يكيدوا لهذا الدين ولأتباعه. (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) وكان أحبار اليهود بأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه عن كثير من المغيبات، فيأتيه الوحي مبيناً جواب أسئلتهم، ولكنهم أصروا على كفرهم، واستكبروا استكباراً، وكان السلمون قليلاً ما يسألون عن أحكام دينهم فيأتيه الوحي، ويلتزمون بما يعلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهناك الكثير من الآيات في القرآن الكريم تبدأ بقوله تعالى: (يَسْألونك). وأول ما نزل من القرآن الكريم بالمدينة المنورة سورة البقرة، وفيها الكثير من الأحكام الشرعية، وفيها الكثير من التعاطي مع اليهود وعقائدهم. ثم نزلت سورة الأنفال في السنة الثانية للهجرة، وتوالي نزول السور، حتى اكتمل نزول القرآن الكريم.

وقد اقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة سوقاً للناس، أشرف عليه بنفسه، ليرعى المعاملات بين الناس ويضبطها بدين الله، وبهذا اكتملت عناصر الحياة الجديدة في المدينة بتوفر الجانب التمويني والاقتصادي، وبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الكفار خارج المدينة إلى الإسلام فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يهود خيبر يدعوهم إلى الإسلام: «بسم الله الرحن الرحيم، من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، صاحب موسى وأخيه، والمصدق لما جاء به موسى: ألا إن الله قد قال لكم يا معشر أهل التوراة، وإنكم لتجدون ذلك في كتابكم: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا). وإني أنشدكم بالله، وأنشدكم بما أنزل عليكم، وأنشدكم ي أطعم من كان قبلكم من أسباطكم المن والسلوى، وأنشدكم بالذي أيبس البحر لآبائكم حتى أنجاهم من فرعون وعمله، إلا أخبرتموني: هل تجدون فيما أنزل الله عليكم أن تؤمنوا بمحمد؟ فإن كنتم لا تجدون ذلك في كتابكم فلا كره عليكم. (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ) فأدعوكم إلى الله وإلى نبيه». ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم غازياً في صفر على رأس اثني عشر شهراً من مقدمه المدينة، واستعمل عليها سعد بن عبادة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *