العدد 140 -

السنة الثالثة عشرة – رمضان 1419هـ – كانون الثاني 1999م

مع القرآن الكريم: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن

يقول تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) صدق الله العظيم.

فرض الله الصيام على أمة محمد عليه الصلاة والسلام، كما فرضه على الأمم السابقة، وأوجب صيام شهر رمضان بالذات، فلا يجزئ صيام أي شهر آخر عن فريضة الصيام، وهذه الآية الكريمة هي التي تحدّدت الصيام بشهر رمضان في قوله تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ).

(شَهْرُ رَمَضَانَ) الشهر مشتق من الإشهار لأنه مشتهر لا يتعذر علمه على أحد يريده، ورمضان مأخوذ من رِمض الصائم يرمَض إذا حرّ جوفه من شدة العطش كما ورد في لسان العرب، والرمضاء: شدة الحر. قال ابن دريد: لما نقلوا أسماء الشهور من اللغة القديمة سمّوها بالأزمنة التي هي فيها، فوافق رمضان أيام رمض الحر وشدته فسمي به. وقيل: إنما سُمي رضمان لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها بالأعمال الصحالة، من الإرماض وهو الإحراق.

و«شهر» بالرفع على أنه مبتدأ خبره (الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)، وقيل: خير مع إضمار المبتدأ، والمعنى: المفروضَ عليكم صومه شهرٌ رمضان. وقد اختلف هل يقال «رمضان» دون أن يضاف إلى شهر، فكره ذلك مجاهد، ولكن وردت أحاديث صحيحة فيها ذكر رمضان دون الشهر. ففي مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا جاء رمضان فتحت أبواب الرحمة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين». وروى النسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتاكم رمضان شهر مبارك فرض الله عز وجل عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم». وروى النسائي أيضاً عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى فرض صيام رمضان عليكم، وسننت لكم قيامه، فمن صامه وقامة إيماناً واحتساباً خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه».

(الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) نص في أن القرآن نزل في شهر رمضان، وهو يبين قوله تعالى في سورة الدخان: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ)، وقوله في سورة القدر: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) وفي هذا دليل على أن ليلة القدر تكون في رمضان لا في غيره. ومعلوم أن القرآن الكريم أنزل منجماً على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طوال بعثته أي طوال ثلاثة وعشرين عاماً، ولا خلاف أن القرآن أنزل من اللوح المحفوظ جملة واحدة ليلة القدر إلى السماء الدنيا. قال ابن عباس: أنزل القرآن من اللوح المحفوظ جملة واحدة إلى الكتبة في سماء الدنيا، ثم نزل به جبريل عليه السلام منجماً ـ يعني الآية والآيتين ـ في أوقات مختلفة في إحدى وعشرين سنة.

(هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) الهدى: الإرشاد والبيان. والبينات: جمع بينة من بان الشيء إذا وضح. والفرقان: ما فرق بين الحق والباطل أي فصل بينهما. وهذا مدح للقرآن الذي أنزله الله هدى لقلوب العباد، وفيه دلائل وحجج بينة واضحة دالة على صحة ما جاء به من الهدى المنافي للضلال، والرشد المخالف للغي، ومفرّقاً بين الحق والباطل، والحلال والحرام.

(فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) هذا إيجاب حتم على من شهد استهلال الشهر، أي كان مقيماً في البلد حين دخل شهر رمضان، وهو صحيح في بدنه أن يصوم. ونسخت هذه الآية الإباحة في الآية السابقة: (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) والصوم لغة هو الإمساك، قال تعالى مخبراً عن مريم: (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا) أي سكوتاً عن الكلام. والصوم في الشرع: الإمساك عن المفطرات مع اقتران النية به من مطلع الفجر إلى غروب الشمس، وتمامه وكماله باجتناب المحظورات وعدم الوقوع في المحرمات. وصوم رمضان أحد أركان الإسلام الخمسة. وفضل الصوم عظيم، وثوابه جسيم، فقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «يقول الله تبارك وتعالى كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به». (وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) أي ومن كان به مرض في بدنه يشق عليه الصيام معه أو يؤذيه، أو كان على سفر، أي في حالة السفر، فله أن يفطر، فإذا أفطر فعليه عدة ما أفطره في السفر من الأيام. والإفطار للمريض والمسافر رخصة فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه سئل عن الصوم في السفر، فقال: «من أفطر فحسن، ومن صام فلا جناح عليه»، وروى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجَلاً قد ظلل عليه فقال: «ما هذا؟» قالوا: صائم، فقال: «ليس من البر الصيام في السفر» والرخصة بالإفطار في السفر تشمل كل من كان مسافراً أو في حالة السفر. فمن استهل الشهر وهو مقيم ثم سافر فله الفطر، ومن استهل الشهر وهو مسافر فله الفطر ما دام مسافراً أو في حالة السفر. (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ) أي إنما رخص لكم في الفطر في حالتي المرض والسفر. مع تحتمه في حق المقيم الصحيح تيسيراً عليكم ورحمة بكم، وقد رويت أحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن خير دينكم أيسره» و«إن هذا الدين يسر» و«إن دين الله في يسر»، وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما إلى اليمن: «يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا». وأحكام الشريعة كلها في مقدور العباد جميعاً سواء ما كان منها عزيمة أو رخصة، ولا يعني كون الإسلام يسراً أن نخفف من أحكام الإسلام على قاعدة التيسير، بمعنى أن نتنازل عن بعض أحكام الإسلام لأنها لا تتناسب مع العصر، أو غير مستساغة لدى الناس، فهذا انحراف عن الإسلام، والله تعالى حذر رسوله من الفتنة عن حكم من أحكام الإسلام: (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ). وفهم بعض الفقهاء أن في قوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ)  دلالة على أن الذين يطيقونه ليس عليهم فداء، وأنهم يفطرون ولا قضاء عليهم ولا فدية، على خلاف ما عليه الكثير من الفقهاء من أنهم يفطرون وإن عليهم فدية، فهموا ذلك من قوله تعالى في الآية التي سبقت هذه الآية: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ)، والقول بعدم الفداء أرجح والله أعلم.

(وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) أي إنما أمرت المفطر بعذر المرض أو السفر قضاء ما أفطره من الأيام، لتكملوا عدة شهركم. (وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ) أي ولتذكروا الله عند انقضاء عبادتكم، ومن هذه الآية أخذ كثير من العلماء مشروعية التكبير في عيد الفكر، وجاءت السنة الشريفة باستحباب التسبيح والتحميد والتكبير بعد الصلوات المكتوبات. قال ابن عباس: ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير.

(وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي إذا قمتم بما أمركم الله به من طاعته بأداء فرائضه وترك محارمه، وحفظ حدوده، فلعلكم أن تكونوا من الشاكرين. والشكر: الثناء على المحسن بما أولاكه من المعروف. وقال سهل بن عبد الله: الشكر: الاجتهاد في بذل الطاعة مع الاجتناب للمعصية في السر والعلانية. وقال ذو النون المصري: الشكر لمن فوقك بالطاعة، ولنظيرك بالمكافأة، ولمن دونك بالإحسان والإفضال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *