العدد 141 -

السنة الثالثة عشرة – شوال 1419 هـ – شباط 1999م

في رحاب السيرة النبوية: الغزوات والسرايا

بعد أن استتب الأمر للرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، وأقام مجتمع الإسلام فيها، فأقام الدولة الاسلامية الأولى، باشرت هذه الدولة الفتية تطبيق ما ينزل من أحكام الدين، وانطلقت في عملها الأصلي وهو حمل الدعوة الاسلامية بالجهاد في سبيل الله، فبدأت الغزوات والسرايا، فبعد اقل من سنة على مقدمه صلى الله عليه وسلم المدينة، كانت الغزوة الأولى، وهي عزوة ودان (أو غزوة الأبواء).

فقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر صفر من السنة الثانية للهجرة، حتى بلغ ودان يريد قريشاً وبني ضمرة، فوادعته بنو ضمرة، ثم رجع رسول الله إلى المدينة، ولم يجر قتال، فأقام بها بقية صفر وجزءاً من ربيع الأول.

ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبيدة بن الحارث بن المطلب في ستين راكباً، كلهم من المهاجرين، ليس فيهم أنصاري واحد، فسار حتى بلغ ماء بالحجاز، فلقي جمعاً عظيماً من قريش، ولم يكن قتال، إلا أن سعد بن أبي وقاص قد رمي يؤمئذ بسهم، فكان أو سمهم رمي به في الإسلام. والتحق بجمع المسلمين اثنان هما: المقداد بن عمروأ وعتبة بن غزوان، وكانا مسلمين، ولكنهما خرجا مع المشركين ليتمكنا من الفرار إلى المسلمين، وكان المشركون يومئذ مائتين، وعليهم عكرمة بن أبي جهل، وعند الواقدي أنه كان على المشركين أبو سفيان.

ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة بن عبد المطلب إلى سيف البحر في ثلاثين راكباً من المهاجرين، ليس فيهم أحد من الأنصار، فلقي أبا جهل بذلك الساحل في مئة راكب من قريش، ولكن حجز بينهما مجدي بن عمرو الجهني، وكان موداعاً للفريقين، فانصرف الجمعان ولم يكن قتال.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عقد اللواء لسعد ابن أبي وقاص ثمانية رهط من المهاجرين (وقيل في عشرين رجلاً على الأقدام) فكان يسير بهم ليلاً ويسكن نهاراً حتى بلغوا الخرار من أرض الحجاز، ولم يلق كيداً.

ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه في شهر ربيع الأول من السنة الثانية للهجرة يريد قريشاً، واستعمل على المدينة السائب بن عثمان بن مظعون. وقال الواقدي إنه استعمل عليها سعد بن معاذ، في مائتي راكب، وكان لواؤه مع سعد ابن أبي وقاص، وكان مقصده أن يعترض لعير قريش وكان فيه أمية بن خلف ومائة رجل وألفان وخمسمائة بعير. فسار حتى بلغ بواط بالقرب من ينبع، ولم يجر قتال، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فلبث فيها بقية شهر ربيع الآخر وبعض جمادي الأولى.

ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً، واستعمل على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد، وكان لواؤه مع حمزة بن عبد المطلب، وخرج عليه السلام يتعرض لعيرات قريش ذاهبة إلى الشام، فنزل العشيرة من بطن ينبع فأقام بها جمادى الأولى وليالي من جمادى الآخرة، وقد وادع فيها بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيداً.

ثم لم يقم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد رجوعه من غزوة العشيرة إلا بضع ليال، فأغار كرز بن الجابر الفهري على مواشي المدينة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه، واستعمل على المدينة زيد بن حارثة، فسار صلى الله عليه وسلم حتى بلغ وادياً يقال له سفوان من ناحية بدر، ولكن كرز هذا فاته، ولم يجر قتال، وسميت هذه الغزوة غزوة بدر الأولى. ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فأقام بها بقية جمادى الأخرى ورجباً وشعبان.

وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجب عبد الله بن جحش في ثماينة رهط كلهم من المهاجرين، وكتب له كتاباً وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين، ثم ينظر ما فيه فيمضي لما أمره به، ولا يستكره أحداً من أصحابه. فلما سار ابن جحش يومين فتح الكتاب، فإذا فيه: إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة، بين مكة والطائف، فترصّد بها قريشاً، وتعلّم لنا من أخبارهم. فقال: سمعاً وطاعة، ثم قال لأصحابه: قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمضي إلى نخلة أرصد بها قريشاً حتى آتيه منهم بخبر. وقد نهاني أن أستكره أحداً منكم، فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره فليرجع، فأما أنا فماضٍ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف منهم أحد حتى نزل بنخلة، فمرّت به عير لقريش تحمل زبيباً وجلداً، وتجارة من تجارة قريش فيها عمرو بن الحضرمي، فلما رآهم القوم هابوهم، وقد نزلوا قريباً منهم، فأشرف لهم عكاشة بن محصن، وكان قد حلق رأسه، فلما رأوه أمِنوا، وقالوا: عُمّار، لا بأس عليكم منهم، وتشاور الصحابة فيهم، وكانوا في آخر شهر رجب، فقالوا والله لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن الحرم فليمتنعُنّ عنكم به، ولئن قتلتموهم لتقلنّهم في الشهر الحرام، فتردّد الصحابة، وهابوا الأقدام عليهم، ثم شجعوا أنفسهم عليهم، وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم، وأخذ ما معهم، فرموا ابن الحضرمي بسهم فقتله، وأسروا اثنين منهم قدموا بهما وبالعير على رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام». فوقّف العير والأسيرين، ولم يأخذ من ذلك شيئاً، وفي ذلك اعتراف من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأعراف السائدة بين الجماعات، وهي حرمة القتال في الأشهر الحرم؛ ذي القعدة، وذي الحجة، ومحرم ورجب، وبقي هذا العرف سائداً إلى أن نزل قوله تعالى في سورة براءة: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) فأسقط في أيدي عبد الله بن جحش وسريته، وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا. واستغلت ذلك قريش، فأشاعت في العرب أن محمداً وأصحابه استحلوا الشهر الحرام وسفكوا فيه الدماء، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا الرجال، وإنما كان ذلك كله في شهر شعبان، وهو ليس من الأشهر الحرم. فلما أكثر الناس في ذلك، أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم: (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ..) فلما نزل القرآن، فرج الله تعالى عن المسلمين ما كانوا فيه من الخوف، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسيرين، ففدى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأسيرين سعد بن أبي وقاص، وعتبة ابن غزوان، وكانا في أيدي المشركين. وقد سجلت هذه السرية أول غنيمة عنمها المسلمون، وأول مشرك قتله المسلمون وهو ابن الحضرمي، وأول أسيرين أسرهما المسلمون.

وقد طمع عبد الله بن جحش وأصحابه في الأجر، فقالوا: يا رسول الله: أنطمع أن تكون لنا غزوة نعطى فيها أجر المجاهدين؟ فأنزل الله تعالى فيهم: (الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فوضعهم الله عز وجل من ذلك على أعظم الرجاء.

من استعراض هذه الغزوات والسرايا، نرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أراد أن يوطد دولته كقوة مهابة الجانب، لا يطمع فيها طامع، وغزا الناس قبل أن يغزوه، ووادع بعض القبائل، وأمن المناطق المحيطة بالمدينة المنوةر، ورسخ وظيفة الدولة الاسلامية بأنها نشر الإسلام وحمل دعوته، وقد حققت هذه الغزوات والسرايا مقاصدها، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام نداً لقريش، يغزوها، ويطمع فيها ويتعرض لتجارتها، إلى أن كانت غزوة بدر الكبرى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *