العدد 144 -

السنة الثالثة عشرة – محرم 1420 هـ – أيار 1999م

السـياسـة الأميركيـة في احـتـواء أوروبا والسـيطـرة عليها

إن أوروبا خليط من الأجناس والشعوب والأعراق والطوائف واللغات والأديان، ومزيج من العادات والتقاليد والأعراف والأفكار والمشاعر المتباينة، وحقيقة هذا الواقع أنه عامل من عوامل الضعف سواء في حالة القوة أو حالة الضعف لأوروبا ولغيرها من القوى السياسية،كحال روسيا الآن، ولهذا كان من الطبيعي أن تكون أوروبا بؤرة للمشاكل الداخلية والدولية والحروب الأهلية والعالمية والصراعات الدموية العنيفة بين شعوبها وسائر الشعوب، وأن تسيل على أرضها أنهار من الدماء، وأن تكون تربة خصبة لإشعال الحرائق، بل إن خواصها الطبيعية تتضمن القنابل الموقوتة القابلة للانفجار في كل لحظة، وتحتوي على القابلية العالية للتشرذم والتقسيم والصراع في داخلها وبين شعوبها.

إن فهم محتوى السياسة  الأمريكية وغاياتها تجاه أوروبا يستلزم فهم قضية أوروبا وواقع الشعوب الأوروبية التي لها شأن أو يمكن أن يكون لها تأثير، وواقع سياسة إنجلترا وفرنسا وأبعادها وفق الحقائق والمفاهيم السياسية، وإدراك القواعد والأسس والمعلومات للسياسة الأمريكية تجاه أوروبا والعالم، وتتبع أعمال أمريكا السياسية وتصريحاتها تجاه أوروبا مرتبطة بظروفها وغير منفصلة عن الحقائق والأسس والقواعد، مع ربط ذلك كله بالموقف الدولي والتأثير فيه وبالسياسة الأمريكية الدولية.

                إن قضية أوروبا قضية تتعلق بوجود الدول الكبرى بوصفها كبرى، وتتعلق بالتوازن بين القوى الكبرى، وتتعلق بالسيطرة العالمية ومداها، وهي أقدم القضايا وأكثرها خطراً على ما يسمى بالسلام العالمي. أما كونها أقدم القضايا فإنها هي القضية التي أوجدت في العالم ما يسمى بالأسرة الدولية أو المجموعة الدولية، والتي من أجلها وجد ما يسمى بالقانون الدولي. فمن أجل ضرب نابليون ومنع توسع فرنسا وجد ما يسمى بالتحالف المقدس، ثم من أجل منع ألمانيا من أخذ نفط الشرق الأوسط، والحد من قوتها كانت الحرب العالمية الأولى، ثم من أجل مقاومة ألمانيا ومنعها من الإخلال بميزان القوى في أوروبا اتفقت الدول الكبرى الأربع: إنجلترا وفرنسا والولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، على سحق ألمانيا ومنعها من أن ترجع دولة كبرى ثانية. فإذن قضية أوروبا هي قضية القضايا وهي محل الاهتمام الأول من أمريكا وروسيا وفرنسا وإنجلترا.

                وأما كون قضية أوروبا هي أخطر القضايا على ما يسمى بالسلام العالمي فإن ذلك متمثل في سلوك وتصرفات كل من فرنسا وإنجلترا وألمانيا، وفي تصرفات روسيا وأمريكا قبل الاتفاق بينهما وفي تصرفاتهما بعد الوفاق، وفي تصرفات الولايات المتحدة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتحقق الوحدة الألمانية.

                أما فرنسا وإنجلترا وأمريكا قبل اتفاق العملاقين عام 1961، فقد كانت تمثل المعسكر الغربي. وكانت قضية أوروبا تمثل تصفية ذيول الحرب العالمية الثانية، وكانت تتمثل لدى المعسكرين ـ الغربي والشرقي ـ في البحث في مستقبل أوروبا الغربية ومستقبل ألمانيا، فالمعسكر الغربي، بقيادة الولايات المتحدة، كان يرى توحيد أوروبا لتقف في وجه روسيا، وكانت أمريكا تعنى بشكل خاص في بعث العسكرية الألمانية وإيجاد جيش ألماني قوي للوقوف في وجه روسيا ولإيجاد توازن جديد بين ألمانيا وفرنسا وإنجلترا. وأما روسيا فقد كانت تتزعم المعسكر الشرقي، وكانت ترى الخطر المحقق عليها إنما يأتي من أوروبا، ومن ألمانيا بشكل خاص، ولذلك كانت تقف في وجه توحيد ألمانيا، وفي وجه توحيد أوروبا، وضد الجيش الأوروبي، وضد إعادة تسلح ألمانيا.

                أما بعد اتفاق العملاقين، الذي تم بين خروشوف وكندي، فإن الحال قد تغير، إذ توحد رأي أميركا وروسيا تجاه قضية ألمانيا، واتفقا على رأي واحد تجاه قضية أوروبا. وقد ظهر ذلك فور اجتماعهما، فقد أعطى جون كندي رئيس الولايات المتحدة حينئذ تصريحاً قال فيه: «إن تخوفات روسيا من غزو أوروبا لها غزواً عسكرياً، لها ما يبررها، فإن روسيا ضربت من أوروبا مرتين في التاريخ، فالمرة الأولى ضربتها فرنسا في عهد نابليون، والمرة الثانية ضربتها ألمانيا في عهد هتلر، ولذلك لا بد من وجود ما يضمن عدم وجود خطر على روسيا من أوروبا كنـزع سلاح أوروبا الوسطى مثلا». وهذا التصريح يدل دلالة لا لبس فيها على أن رأي روسيا وأمريكا تجاه قضية أوروبا وقضية ألمانيا بشكل خاص صار رأياً واحداً. وبعد تفكك وانهيار الاتحاد السوفييتي وتحقق الوحدة الألمانية صارت الرؤية الأمريكية تجاه أوروبا هي منع أوروبا من الوحدة والعمل على تفتيت أوروبا والتدخل في شؤونها وسيادتها الداخلية والإشراف على البيت الأوروبي وتقسيمه وترتيبه وفق مصالحها الاستعمارية وعلى أساس الاستغلال لثرواته وكنوزه وشعوبه، وخلق الأزمات السياسية والاقتصادية والعرقية فيه، والحيلولة دون تمكين ما يسمى بالاتحاد الأوروبي من الانعتاق من ربقة سيطرتها السياسية والاقتصادية والنقدية وهيمنتها العسكرية الجاثمة على قلب أوروبا، وهي تريد تقوية ألمانيا بالمظهر والطابع الذي لا يشكل خطراً على مصالحها في أوروبا لإيجاد توازن إقليمي لا دولي بين ألمانيا وفرنسا وإنجلترا، على أن يكون هذا التوازن واقعاً ضمن السيطرة الأمريكية لتسخيره لخدمة مصالحها الدولية لا الأوروبية فقط. وهذه الرؤية الأمريكية للبيت الأوروبي واضحة في تصرفاتها وتصريحات مسؤوليها، فقد ألقى أنتوني ليك مستشار الرئيس كلينتون السابق للأمن القومي محاضرة بعنوان ـ من الاحتواء إلى التوسع ـ قال فيها: [يجب علينا نشر الديمقراطية واقتصاد السوق في العالم لأنها تحمي مصالحنا وتحفظ أمننا، وتعكس في الوقت نفسه قيمنا التي هي قيم أمريكية وعالمية] وورد في صحيفة هيرالد تربيون في آذار عام 1992: [نحن يجب أن نبحث عن إعاقة ظهور أنظمة أمنية أوروبية بالدرجة الأولى تعمل على الحلول محل الحلف الأطلسي] وقد فرضت أمريكا على أوروبا في معاهدة ماستريخت النصوص الآتية: [يتحرك الاتحاد الأوروبي طبقا للقرارات المتبناة في الحلف الأطلسي]، وورد أيضا أن هدف هذه الاتفاقية: [هو تطوير الاتحاد الأوروبي الغربي، باعتباره وسيلة لتقوية الثقل الأوروبي في الحلف الأطلسي].

                وأما فرنسا فإنها، بعد مجيء ديغول إلى الحكم وحتى زيارة ديغول للولايات المتحدة واجتماعه بنيكسون في شهر آذار 1969، تعمل لتوحيد أوروبا وجعلها قوة ثالثة تقف بين المعسكرين، لذلك كان ديغول يعمل لتقوية ألمانيا إلى الحد الذي لا يشكل خطراً على فرنسا، وإيجاد اتحاد كونفدرالي بين دول أوروبا مع ضمان السيادة لفرنسا، ويجهد ما استطاع لإبعاد إنجلترا عن أوروبا لاعتقاده أن سياستها التقليدية منذ فجر التاريخ حتى الآن الحيلولة بكل الوسائل دون توحيد أوروبا.

                ومما جاء في مؤتمر ديغول الصحفي بشأن دخول إنجلترا السوق المشتركة ما يلي: ـ

                [في الحقيقة فإن بريطانيا جزر ودولة بحرية ترتبط عن طريق تجارتها وأسواقها وموارد غذائها بأقطار عديدة و بعيد … إن طبيعة النظام الاقتصادي البريطاني وهيكليته تختلف بدرجة كبيرة عن أنظمة الدولة الأوروبية الأخرى … والسؤال هو أن نعرف فيما إذا كانت بريطانيا تستطيع في الوقت الحاضر أن تضع نفسها في القارة الأوروبية، وأن تحبها، ضمن تعرفة جمركية مشتركة، وأن تتنازل عن الأفضلية التي تتمتع بها في الكومونولث، وأن تكف عن المطالبة بامتيازات في المنتَجات الزراعية، وأكثر من ذلك أن تلغي روابطها مع المنطقة الصناعية الحرة. هذا هو السؤال المطروح، ولا يستطيع أحد القول بأن هذا التساؤل قد حل أو بأنه سيحل يوماً ما. إن بريطانيا وحدها قادرة على الإجابة]. [يجب الاتفاق على أن دخول بريطانيا إلى السوق، ثم الدول الأوروبية الأخرى، سيغّير بالكامل التعديلات والاتفاقات والتعويضات والنظم التي وضعتها دول السوق … وبذلك فإننا سنرى سوقاً جديداً لا تشبه السوق التي أنشأتها الدول الست. يضاف إلى ذلك أن سوقاً بهذا الاتساع ستواجه مشاكل عديدة في علاقاتها التجارية مع حشد من الدول الأخرى، وعلى رأسها أمريكا. وما هو منظور، فإن تماسك أعضاء بهذا العدد والتنوع لن يدوم طويلاً، وستظهر في النهاية منظومة أطلسية ضخمة تعتمد على أمريكا وتكون بقيادتها وتحت إمرتها، مما يمكنها من استيعاب المنظومة الأوروبية. وقد يكون لهذا الواقع ما يبرره في نظر البعض، لكنه ليس ما أرادته فرنسا أو ما تريده، وهو الصرح الأوروبي]. ولهذا رفض ديغول بشدة انضمام بريطانيا إلى السوق الأوروبية، لأنه لم يكن يعتبرها دولة أوروبية، وكان يشترط على بريطانيا أن تقرّر وضعها:  هل هي دولة أوروبية أو لا ؟ قبل أن تنضم إلى السوق الأوروبية، كما أن ديغول كان يدرك أن دخول بريطانيا السوق المشـتركة سـيؤدي إلى خلخلتها وإضعافها، وهو ما تريده أميركا أيضاً.

                ولكن بعد استقالة ديغول، فإن فرنسا لم تبلغ بها الحصافة إلى حد منع إنجلترا من الاشتراك في قضايا أوروبا، وبالتالي من دخول السوق المشتركة التي تطورت فيما بعد إلى ما يسمى بالاتحاد الأوروبي، وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي تريد فرنسا تقوية ألمانيا بشكل وحجم لا تشكل خطراً عليها وتريد تسخير القوة الألمانية والاتحاد الأوروبي للوقوف في وجه الاحتلال والهيمنة والسيطرة الأمريكية على أوروبا لكي تتمكن بعدها من العودة إلى مجدها وعظمتها الدولية.

                وأما إنجلترا فإنها توطد صلتها بألمانيا وتطلعها على مؤامرات أمريكا وروسيا ـ إبان الوفاق ـ ضد تطور ألمانيا وضد تقويتها وضد توحيدها، وكانت كذلك تحاول دخول السوق المشتركة من أجل أن تسجل نفسها رسمياً أنها دولة أوروبية ولم تنجح في ذلك إلا بعد استقالة ديغول من أجل استخدام أوروبا كقوة ضد العملاقين. وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي تريد إنجلترا تكتيل أوروبا ـ لا توحيدها ـ بمعزل عنها لتقف في وجه الغطرسة والهيمنة الأمريكية على أوروبا وعلى العالم، وهي تشجع تقوية ألمانيا لكي تتوازن مع فرنسا ولتسخير ألمانيا وفرنسا وسائر دول أوروبا للوقوف في وجه السيطرة الأمريكية على أوروبا، ولهذا شجعت إنجلترا أمريكا الإبقاء على الحلف الأطلسي كقوة عدوان واحتلال لأوروبا لتثير دول أوروبا وروسيا وتدفعهم نحو التكتل والتحالف لمعالجة خطر القوة الأمريكية، ولهذا تحرص على الإبقاء على علاقاتها مع كل من أمريكا وأوروبا، وترفض ربط عملتها بالعملة الأوروبية الموحدة، والمشاركة في الفيلق الفرنسي الألماني، كما ترفض مقاومة السياسة الأمريكية علنا فيما يتصل بأوروبا، فالتفكير البريطاني في معالجة القوة الأمريكية لم يتغير وهو ما كشفه تشرشل، وكان مما قاله: إن الولايات المتحدة عملاق لا يمكن التغلب عليه إلا إذا أثخن بالجراح، وإن أضخم الأشجار هي التي تنمو بعيداً عن الغابة. فساسة بريطانيا يدركون قوة الولايات المتحدة ويدركون أطماعها في العالم وفي الإمبراطوريات الأوروبية ولهذا يريدون معالجة هذه القوة على المستوى العالمي دون أن يتدخلوا في معالجة هذه القوة عملياً. فقضية أوروبا قبل وجود العملاقين قوة كبرى في العالم وبعد وجودهما وبعد انفراد الولايات المتحدة بزعامة العالم، قائمة على أساس أنها قـضــيـة تهـدد بانـدلاع شـرارة الـحـرب مـنـهـا. ولذلك تعتبر قضية أوروبا قضية خطرة على ما يسمى بالسلام العالـمي .

سعيد عبد الرحيم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *