العدد 145 -

السنة الثالثة عشرة – صفر 1420 هـ – حزيران 1999م

كلمة الوعي: أخطـار على الأفراد والكتلـة

الحياة الدنيا دار ابتلاء، والآخرة هي دار الجزاء، والمسلم ينتظر البلاء كل لحظة، ويوطّن نفسه على الصمود والثبات، بانتظار ما يجد من بلاءات، يواجهها صابراً برباطة جأش المؤمنين الصابرين المحتسبين. فالله تعالى يقول (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا )، وفي الابتلاء تمحيص، وتكفير عن الذنوب ورفع للدرجات (وليمحص الله الذين آمنوا)، وحامل الدعوة فوق ذلك معرَّض للفتنة عن حمل الدعوة (أحسب الناس أن يُتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يُفتنون * ولقد فتنّا الذين من قبلهم فليعلمنّ الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ) والابتلاء بالخير فتنة، والابتلاء بالشر فتنة (ونبلوكم بالشرّ والخير فتنة) فكم من حامل للدعوة تخلّف عن حملها بسبب الحرص على ما هو فيه من خير ونعيم، ورغد من العيش. ولكنّ الفتنة الأخطر هي الابتلاء بالشرّ، ومنها الملاحقة والاضطهاد، والتشريد والتعذيب، وقطع الأرزاق، والزج في السجون، وهنا تبرز نوازغ الشيطان المتربص بالمسلم لينقض عليه في لحظة غفلته عن ربّه. يقول تبارك وتعالى: (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء) والصورة المقابلة لهذه الصورة المحبِطة المثبِّطة (والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليم )@، ولتحصين النفس ضد نوازغ الشيطان، لا بُدّ من دوام الصلة بالله تعالى، بالالتجاء إليه، والتماس العون منه على النفس الأمّارة بالسوء. وعلى أعداء الله. وأفكار العقيدة الإسلامية تبعث في النفس المؤمنة الطمأنينة والرضا، فالرزق مقسوم، والأجل محدود، (وما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك)، (وكل أمر المسلم خير)، ففي الصبر على الابتلاء أجر، وفي الحمد على النعماء ثواب، (ومن يتوكل على الله فهو حسبه)، هذه الأفكار من مفردات العقيدة الإسلامية، إن بقيت حية فاعلة في نفس المؤمن، تبعث فيه القوة والصلابة، والاستخفاف بالعقبات، والتعالي على المغريات (يثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة). ومن الافتتان، التجاوب مع نصيحة مخلص، أو وصية كهل، بضرورة الاعتدال، وعدم التصادم مع (من إذا قال فعل)، لأن في ذلك تثبيطاً، وتراجعاً عن الاندفاع، وربما أدى ذلك إلى الحيود عن الطريقة، أو تليين الإرادة.

            أما الكتلة، ففي حالات الكفاح السياسي، ومقارعة الظالمين، ومحاسبة الحكام الخائنين، تتعرض لمحاولات الاحتواء بالإغراء بالمكاسب الآنية، أو بالتهديد بالقمع والاضطهاد الوحشي، ولكنّ الثبات أمام هذه المحاولات يزيدها صلابة، ويزيد التكتل تماسكاً، ويجلب احترام الناس لها، والتفاف المخلصين من حولها؛ وليس لهذه المحاولات حظ كبير من النجاح، لأن الكتلة منذ بدأت تقوم بمهامها تعرف ما ينتظرها على أيدي جلاوزة السلطة، ولهذا فهي توطّن نفسها على الثبات ومواصلة الكفاح وتصعيده كلما اقتضى الأمر ذلك، لأنها تدرك بشكل محسوس أن أيّ مظهر ملاينة للحكام، سيُطمع فيها أعداءها، وستخسر بذلك صدقيتها واحترامها لدى أبناء أمتها الذين هم رصيدها وعدّتها في استرجاع السلطان للأمة صاحبة الحق، وواهبته لمن ترتضيه حاكماً لها ومنفّذاً لإرادتها.

            أما الخـطـر الثـانـي، فهـو محاولة حرف الكتلة عن فكرتها أو عن طريقتها، وفي ذلك الطامة الكبرى، لأن الكتلة قامت على فكرة واضـحـة مبلـورة، وتعمل لإيجادها في واقـع الحيـاة بطـريقـة محـدّدة

 

المعالم، فأي انحراف عن الفكرة، أو أي تنكب عن الطريقة، يغيّر حقيقة الكتلة، ويحوّلها إلى كتلة أخرى مغايرة لها في جوهرها وفي سماتها. ويظهر هذا الخطر بشكل أوضح، حين تتأخر الكتلة في تحقيق غايتها التي قامت من أجلها، فتكثر الاجتهادات والتحليلات، ولا بُدّ عندها من مداومة الاطمئنان إلى أن الفكرة في مأمن، ولا بد من مداومة مراجعة انطباق السير على طريقة المصطفى صلى الله عليه وسلم، مع الأخذ بعين الاعتبار اختلاف الأحوال. ويرتبط بهذا الخطر، خطر آخر، وهو خطر الانقسام والتشظي، فقد يرى بعض أفراد التكتل أن تحليلهم لأسباب التأخر في تحقيق الغاية، أدق وأصدق من تحليل غيرهم، فينفصلون عن جسم الكتلة، سيما إن كان بينهم من يداني قيادة الكتلة فهماً ووعياً، وليس في ذلك كبير خطر على عمل الكتلة الأصلية، إن لم ينشغل الأصل والفروع ببعضهم عن العمل في الأمة، أما إن ساروا في موازاة بعضهم، مع التعاون فيما يتفقون فيه، والتنافس في كسب ولاء الأمة، وهدم ثقتها بقادتها وحكامها، فليس في ذلك ما يضير كثيراً.

            أما الخطر الثالث والأخير فهو يظهر حين تنجح الكتلة في تفاعلها مع الناس، فيلتف الناس من حول شبابها، ويعاملونهم بالاحترام والتقدير، وينعتونهم بأحسن الأوصاف، ما يبعث في نفوس بعض ضعاف النفوس الغرور، فيستعلون على أبناء أمتهم، وربما استعلوا على أبناء كتلتهم من صغار السن، أو حديثي الانتماء، أو قليلي الخبر، أو محدودي القدرات. فتظهر الشللية داخل الكتلة، ويكثر الاستزلام، وتصبح المسؤولية تشريفاً لا تكليفاً، ويُـتسابق عليها، ويكثر التجريح في المنافسين، وينسى الشباب قيمهم الرفيعة، فينسون من هم، ويغفلون عن الغاية التي اجتمعوا لتحقيقها، ونذروا أنفسهم وما يملكون من أجل رؤيتها حية في واقع الحياة العملية. وبالنسبة للأمة، تحس الكتلة أنها ليست جزءاً من الأمة، أو أنها جزء من جنس رفيع متميز عن الأمة، فتنفض عنها الأمة بعد احتضان، وتسلمها إلى عدوها يبطش بها وهي تتفرج، وشامتة، ربما، بما أصابها، لأنها لم تجدها معقداً للآمال، ولا موئلاً للرجاء. وفي ذلك الانهيار الذي لا قيامة بعده.

            وقد حذّرت الكتلة من جميع هذه الأخطار، ومن آخرها بشكل أشد، لأن هذا الخطر كفيل أن يهدم الكتلة قبل تحقيق غايتها، وأن يدمرها بعد تحقيق الغاية. وفي التبصير بالخطر قبل وقوعه ضمانة لعدم وقوعه؛ ثم إن الكتلة تؤكد دائماً على أنها خادمة للأمة، لأنها أمة الإسلام، أمة محمد عليه الصلاة والسلام، فهي أمة كريمة، ومن واجب الكتلة أن تقوم بخدمتها خدمة لدينها ولنبيّها صلى الله عليه وسلم. ثم حذّرت الكتلة وبشدة، من إشعار الأمة أننا لسنا جزءاً منها، بل نحن جزء من أمتنا، نفرح لفرحها، ونغضب لما يؤذيها، وإن كانت مجموعة المفاهيم والمقاييس والقناعات التي نحملها تخالف ما عند الأمة من مفاهيم ومقاييس وقناعات، وأننا نريد تغيير ما عند الأمة ليصبح ما عندها هو ما نحمله، وما نريد أن نوصله إلى السلطة.

            أما الطبقية داخل الكتلة، فإن التركيز على أن المسـؤوليـة هي مزيد من الأعباء، ومزيد من الأعمال، وبالتالي مزيد من المساءلة في الكتلة في الحياة الدنيا، وبين يدي رب العالمين، يوم توفّى كل نفس ما عملت، هذا التركيز على هذه البدهيات كفيل بردع النفوس المتشوّفة عن التعالي، وبلجمها عن تجاوز حدودها، بالتعدي على كرامات الآخرين، وبالاستعلاء عليهم، واستصغار شأنهم، والاستخفاف بإمكاناتهم. هذا وإن الفشل في المسؤولية يورّث النفس الهم والكمد، ويعرّض المسؤول للنقد والملامة. أما نجاح المسؤول في القيام بواجبات المسـؤولية، ومنها رعاية إخوانه، والأخـذ بيدهم، والرفـق بهم، والتلطـف إليهم، فإن فيه مجلبـة لرضـى النفـس، (ورضـوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم )@ .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *