العدد 146 -

السنة الثالثة عشرة – ربيع الأول 1420 هـ – تموز 1999م

كلمة الوعي: وقفة مع الذات

تجتاح معظم الحركات الإسلامية حالة من عدم الاستقرار، يستوي في ذلك الحركات في مغرب العالم الإسلامي وفي مشرقه، والتيارات التي في السلطة أو خارجها، والحركات الإصلاحية والحركات التغييرية، والحركات الدستورية والحركات الإقليمية. وتتجلى هذه الحالة في أمرين: أحدهما: إعادة النظر في الأفكار والخطاب السياسي وفي طرائق العمل؛ وثانيهما: الانشقاقات التي تنتاب هذه الحركات. ففي الجزائر انشقت حركة النهضة إلى جناحين: جناح لا يمالئ السلطة وهو الذي يقوده الشيخ جاب الله، وجناح يوالي السلطة ويحمل طروحاتها. وأخيراً، وبعد الهدنة التي أعلنها جيش الإنقاذ في الجزائر، ومباركة عباسي مدني لها، ومبايعته لبوتفليقة، ظهر تيار قوي داخل جبهة الإنقاذ يعارض مهادنة «الاستئصاليين». وسبق أن انشقت حركة الاتجاه الإسلامي في تونس، ثم جرى تصفيتها، ولم نعد نسمع عن وريثتها، حركة النهضة، إلا ما نقرأه عن نشاط راشد الغنوشي. وفي مصر، خرج الكثيرون من جماعة الإخوان المسلمين، ومنهم الذين يحاولون دون جدوى تأسيس حزب الوسط، كما خرج عدد من أعضاء مجلس الشورى. أما الجماعة الإسلامية، فقد أصدر قادتها داخل السجون المصرية، وفي الخارج، وعلى رأسهم الشيخ عمر عبد الرحمن، بياناً يتخلون فيه عن العمل المسلح لصالح العمل السياسي والفكري، ولكنهم لا ينوون تشكيل حزب سياسي، ويحتاج تغيير منهجهم إلى وقت للتثبت إن كان ناشئاً عن رؤية شرعية جديدة، أو أنه تغيير أملته الظروف الاستثنائية التي تمر بها الحركة من الملاحقات والاعتقالات والتصفيات.

    أما في السودان، حيث تتوهم الجبهة القومية أنها تمسك زمام السلطة، فقد أقرت الحكومة قانون تعدد الأحزاب، وهي التي اتهمتهم، منذ ثورة الإنقاذ، بأنهم فاسدون، وأفسدوا الحياة السياسية، وخرّبوا الاقتصاد والمؤسسات، وسُمِح حتى للأحزاب القديمة باستئناف نشاطها. وفي إيران، حيث مبدأ ولاية الفقيه، بدأ هذا المبدأ يتعرض للانتقاد، وبدأت إيران تخرج من عزلتها الدولية، بتغيير طروحاتها، وجعلها منسجمة مع طروحات ما يسمى المجتمع المتحضر، ولهذا أوقفت تصدير الثورة، وقبلت بالتعايش مع الجيران وعدم التدخل في شؤونهم الداخلية، ولا نظن أن أحداً يرى أن حكام السعودية أو مصر اقتربوا من إيران، ولكن إيران هي التي تنازلت عن طروحاتها، وغيّرت خطابها السياسي، لتصبح مقبولة عند الآخرين. حتى الحركة السلفية أصبحت تيارين: تيار تقليدي، يتبع المفتي العام في السعودية، وتيار جهادي، يعمل لتغيير الأوضاع في بلاد المسلمين لتنسجم مع أحكام الإسلام، والذي أُدخل رموزه سجون السعودية منذ سنوات. ولم تكن الجماعة الإسلامية في لبنان، لتشذ عن هذا السياق، فبعد أن كان أمينها العام السابق يسخر من فكرة «طلب النصرة»، ويقول عنه إنه «منطق غريب» صارت صحيفة «الأمان» التي تصدرها الجماعة تعترف بمبدأ «طلب النصرة» وإن كانت الفكرة لم تتبلور عندها بعد، فلا تزال فيها ميوعة، لأن طلب النصرة هو الطريق الشرعي الوحيد لإقامة الخلافة، وهو الاستنصار بأهل القوة والنخوة والإيمان الإخلاص، لإيصال الفكرة الإسلامية، وحملتها الواعين، إلى الحكم، والمحافظة على نظام الخلافة، والقائمين على تطبيق أحكام الإسلام، وعلى الدولة التي تباشر تنفيذ أحكام الإسلام، وعلى حمل دعوة الإسلام للعالم أجمع؛ وهؤلاء القادرون على ذلك يختلفون من بلد إلى آخر، ولهذا يجب معرفة هؤلاء القادرين، والتأكد من قدرتهم على القيام بما يُندَبون له، ومن ثمّ يستنصر بهم، لا بسواهم، وعلى هذا الأساس، لا يُتَصور أن تكون النقابات أو الجمعيات قادرة على نصرة الإسلام وحملة دعوته، كما تطالب صحيفة الأمان.

    هذه الحالة التي تعصف بالحركات الإسلامية في مجملها، أصبحت واضحة للعيان، حتى إن هناك من يتصور أن الحركات الإسلامية تمر في حالة انعطاف حاسم، ويراهن بعض الموتورين على أن ساعة تلاشي الحركات الإسلامية قد دنت، وبدأ يطرح مرحلة «ما بعد الحركات الإسلامية». ومنذ سنوات طرح بعض الكتاب المحسوبين على التيار الإسلامي، مقولة أن الحركات الإسلامية فشلت، وأن خير ما يمكن أن تقدّمه للإسلام كدين، وللمسلمين كمجموعة بشرية، أن تقوم بالعمل الدعوي التنظيري، وأن تتخلى عن العمل السياسي، لأنها لن تستطيع تحقيق أهدافها، وحتى لو أخذت السلطة، فإنها لا تملك تصورات كاملة لحلول مشاكل الناس، والتي أكثرها ناشئ عن إبعاد الإسلام عن الحياة، وتطبيق القوانين الوضعية بديلاً عن أحكام الشريعة المنزلة. وقد بشّر الدكتور البوطي، منذ سنوات بضرورة أن يبقى الإسلام حَكَماً، وأن ينأى حملة الإسلام بأنفسهم عن استهداف الحكم، لأنهم بذلك يصيرون كالأحزاب الأخرى الطامعة في السلطة، ويفقدون أهميتهم كمرجع للاحتكام إليه. ولا يبعد هذا الكلام كثيراً عن الفكرة التي روّج لها الحكام في الخمسينيات والستينيات من هذا القرن، والتي مفادها أن الإسلام قيم رفيعة، وأن السياسة كذب ونفاق وتدجيل، ويجب أن لا ينزلق الإسلام «المثالي» في متاهات السياسة، بحسب مفهومهم، ولهذا نادوا بإبعاد الدين عن السياسة.

    إنّ مراجعة السير، أو إعادة النظر فيما تحقق، وما لم يتحقق، أمر جيّد ومطلوب بشكل دوري، أو كلما لزم، لكن ذلك يقتضي أن يكون هناك أساس ثابت لا يعتريه الشك أو التغيير، أو إعادة النظر. وإعادة النظر، أو مراجعة السير شيء، وما يسمى «النقد الذاتي» شيء آخر. فإعادة النظر تعني مقابلة السير على منهج ثابت مقطوع به، وهو في حالة الحركات الإسلامية سيرة رسولنا المصطفى صلى الله عليه وسلم، الذي قال الله تعالى فيه: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) ، فسيرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعية ثابتة، نردّ كل خطوة، وكل خطة، وكل عمل إليها، لنعلم إن كان سيرنا متطابقاً مع سيرة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام.

    أما «النقد الذاتي»، فهو إعادة الحكم على المواقف والتصرفات والأعمال والخطط، وهذا نوع من الترف الفكري، لأن الحكم على واقعة بعد حصولها بأيام يختلف عن الحكم عليها حال حدوثها، لأنه تجدّ مستجدات كثيرة، وتظهر معلومات كثيرة، لم تكن معروفة عند حدوث الواقعة، والحكم عليها، وبذلك يختلف الحكم في الأعم الأغلب. ولهذا يجب أن لا تنشغل الحركة، في إعادة تقويم مواقفها، لأنه طبيعي أن يحصل اختلاف، فالذي يمكن أن تفسره اليوم على نحو معين، قد تفسره بشكل آخر بعد أن تتكشفَ حقائق كانت مستورة، ولا نظن أن أحداً بحاجة إلى أن نقيم له دليلاً على ذلك، فالمتابعون للأوضاع، وللأحداث السياسية يلمسون ذلك لمس اليد كل يوم.

    أما أن يطال التغيير، وإعادة النظر، والمراجعة الشاملة، كل شيء، حتى الأسس، فذلك يعني غياب المرجعية، ويكشف عن خلل كبير في البناء الفكري، وفي المنهج الحركي، وهذا يستتبع أن هناك حركة جديدة بدأت تتشكل، لا علاقة لها بالحركة الأصلية الأم. فهناك كثير من الحركات الإسلامية نشأت من رحم جماعة الإخوان المسلمين، ولكنها لم تعد فرعاً على الأصل، ولم يعد يربطها بالحركة الأم من تصور فكري أو منهجية حركية، اللهم إلاّ الصداقات الشخصية بين العاملين في كلٍّ من هذه الحركات.

    لقد نبهنا في كثير من إصداراتنا، وعلى صفحات هذه المجلة، إلى خطورة العمل من خلال المؤسسات القائمة، لأنها مفصلة تماماً على مقاس الحاكم، إلى أن حرم الجنرالات في الجزائر جبهة الإنقاذ الإسلامية، من مواصلة انتصارها الكاسح في الانتخابات النيابية، فحلّوا الجبهة، واعتقلوا قادتها، ولاحقوا أعضاءها قتلاً وسجناً وتشريداً، ولا يزالون، حتى إن مناصري الجبهة، ممن صوتوا لمرشحيها في الانتخابات، لم يسلموا من الذبح والتشريد. وكذلك في تركيا، تدخل العسكر، بعد أن استنفذوا أغراضهم من حكومة أربكان، بأن وقّعت الحلف العسكري مع الدولة اليهودية، وأقالت العديد من رجال الجيش والشرطة لكونهم متدينين، تدخل هؤلاء العسكر فأطاحوا الحكومة، وحَلُّوا حزب الرفاه، وحرموا عدداً من قادته من العمل السياسي لسنوات قادمة، وذلك كله عن طريق القضاء، وهم يعملون الآن لحل حزب الفضيلة، وحرمان قادته من العمل السياسي.

    وقد حذّرنا كثيراً من خطورة العمل المسلح، على العمل الإسلامي، والعاملين للإسلام، وأنه مخالف لطريقة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، فلم تروِ لنا كتب السيرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام بعمل مادي، أو أمر بالقيام بعمل مادي، قبل قيام دولة الإسلام في المدينة المنورة، وكان يطوف بالكعبة. والأصنام تطل عليه من فوق رأسه، وكان سهلاً على أي مسلم أن يحطمها، ولكن الرسول لم يأمر أحداً بذلك، إلى أن تم تطهير الكعبة من رجس الأوثان يوم الفتح. وأوضحنا فهمنا بشكل دقيق، أن منابذة الحكام بالسيف، حين ظهور الكفر البواح، تكون فرضاً على أولئك الذين يشهدون التحوّل عن أحكام الإسلام إلى أحكام الكفر، أي الذين كانوا مكلفين حين أدخلت القوانين الغربية في دولة الخلافة العثمانية، فأولئك كان عليهم أن يشهروا السلاح في وجه الحكام حينذاك، أما مسلمو اليوم، فجاءوا إلى الحياة، والبلاد تحكم بأنظمة الكفر، ولهذا يجب عليهم أن يحملوا الدعوة لإقامة سلطان الإسلام بالطريق نفسه الذي حملها به سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام، أي بالطريق الفكري والسياسي. ولقد ذكّرنا إخواننا في الحركات الإسلامية، إلى أن الحكام قد يلصقون بالحركات الإسلامية بعض المؤامرات زوراً وبهتاناً، من أجل تبرير تصفية أعضائها جسدياً، وأنه يجب أن لا نعطيهم المبرر، بتصرفات، أقل ما يقال فيها، إننا لسنا مأمورين بها وجوباً في الوضع الراهن، أي قبل استقرار أحكام الإسلام في واقع حياة الناس.

    وختاماً، فإننا نهيب بإخواننا المخلصين من أبناء الحركات الإسلامية خصوصاً، ومن أبناء أمتنا الإسلامية، الغيورين على دينهم، والحريصين على تغيير مجتمعاتهم، وإنهاض أمتهم، أن يعاودوا مناقشة فهمنا لطريقة الرسولصلى الله عليه وسلم ، في بناء دولة الإسلام، وأن يؤازرونا في هذه المهمة المبرورة، وأن يضموا جهودهم مع جهودنا في هذا الاتجاه، عسى الله أن يعجّل لنا ولأمتنا بالفرج والنصر المبين (وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرَّقَ بكم عن سبيله ذلكم وصّاكم به لعلكم تتقون) صدق الله العظيم .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *