العدد 147 -

السنة الثالثة عشرة – ربيع الثاني 1420هـ – آب 1999م

هيبة الأمّـة من هيبة الدولة

            هذه إحدى الكلمات التي ألقيت في المسجد العمري في البيرة ببيت المقدس، بمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف، يوم الأحد 13 من ربيع الأول 27/6/99:

بسم الله الرحمن الرحيم

                الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، إمام المجاهدين، الهادي إلى صراط مستقيم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن استنّ بسنته وسار على نهجه إلى يوم الدين.

                أيها الحضـور الكـرام: السـلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد؛

                لا يسعنا ونحن نستذكر سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم في ذكرى مولده العطرة، إلا أن ننهل من نبعها الصافي ما يفيد الأمة الإسلامية اليوم، وهي أحوج ما تكون للعودة إلى معينها المصون وكنـزها المرهون.

                ولكي لا يخلو إحياؤنا لهذه المناسبة الزكية من معادن متميزة، وحتى لا نضيعها في الإنشاء واللهو كما تفعل الحكومات ووزارات أوقافها في بلادنا الإسلامية، فإننا ندعوكم في هذه الساعة إلى العيش ساعة صدق وبرهة مكاشفة في مجلسكم الكريم هذا.

                أيها الاخوة الكرام: بداية لا بد من تذكيركم بالحقيقة المرة، التي يجب علينا جميعاً استمرار تذكرها والاعتراف بها، حتى يتسنى لنا العمل بجد على تغييرها وهي: أننا أمة فقدت هيبتها بين الأمم، ولم يعد لنا شأن يذكر في ميزان القوى، وبالرغم من أننا تجاوزنا المليار نسمة، إلا أنه، وللأسف الشديد، يمكن الحكم علينا بأننا غثاء كغثاء السيل ـ إلا من رحم ربي ـ وبالرغم من أن لنا دولاً كثيرة، إلا أنها دول ضعيفة عاجزة، لا تقوى على الوقوف من غير عكازات من صنع غيرها، وهذه الدول الكرتونية ألحقت بنا العار، ومرغت أنوفنا بالوحل، وأطاحت كبرياءنا في الحضيض، والسبب معروف وبسيط وهو ابتعادها عن كتاب الله وسنة نبيه، وتركها الحكم بما أنزل الله، ومحاربتها أحكام الإسلام وحملة دعوته.

                ولسنا هنا بصدد البحث عن أسباب سقوط دولة الخلافة، ولا في أسباب انحطاط الأمة، وانحسار فاعليتها، واختفاء معالم عزتها ونهضتها، ولكننا هنا بصدد البحث عن أسباب هيبة الأمة أو أسباب خيبتها.

                إن أمتنا الإسلامية اليوم مجزأة في أكثر من خمسين دولة هزيلة عميلة تابعة، وهذه الدول أو قل الدويلات لم تعرف الأمة في ظلها طعم العزة والنصر والكرامة. ومن هنا فإنني أدعوكم ـ إخوة الإسلام ـ في هذه الجلسة المباركة ـ إن شاء الله ـ لنستخلص دروساً وعبراً من سيرة نبينا عليه الصلاة والسلام، لعلها تنفعنا في حياتنا وبعد مماتنا، ولعلها تساهم ولو بالشيء القليل في إنقاذنا مما نحن فيه من ضنك وشقاء.

                تقول السير: أعانت قريش بني بكر على خزاعة، وكانت خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم، فأنشد رجل من بني بكر يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له بعض خزاعة: لئن أعدته لأكسرن فمك، فأعاده فكسر فاه، وثار بينهم قتال، فقتلوا من الخزاعيين أقواماً، فخرج عمرو بن سالم الخزاعي في نفر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره به، فاغتسل وقال: لا نُصرت إن لم أنصر بني كعب، ثم أمر بالتجهز والخروج إلى مكة فكان الفتح، ونزل بهذه المناسبة قرآن يتلى، قال تعالى: (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين )@.

                وتقول التفاسير في تفسير هذه الآية إن فيها خمسة فوائد وكلها تحافظ على هيبة الأمة وهي:

 1ـــ إن تعذيب الكفار الذين آذوا المسلمين يكون بأيدي المؤمنين وذلك بالقتل أو الأسر (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم).

 2ــ إن الإخزاء يقع على الكفار بالأسر أو بالذل والهوان (ويخزهم).

 3ــ إن الـنـشـوة تتـحـقـق للـمـسـلـمـيـن بالـنـصـر والـغـلـبـة (ويـنـصـركـم).

 4ـــ يحصل تشفي الصدور بالقتال لا بغيره.

 5ــ وبالقتال أيضاً يذهب غيظ قلوب المؤمنين الذين نالهم بسبب ما وقع عليهم من الكفار من الأمور الجالبة للغيظ وحرج الصدور (ويشف صدور قوم مؤمنين @ ويذهب غيظ قلوبهم).

                هذا أول درس يجب أن تدركه الأمة وتهضمه جيداً إذا أرادت أن ترد اعتبارها وترد هيبتها. فأين حكام الأمة وأين علماؤها من هذا الدرس البليغ.

                إن شعوب أمتنا الإسلامية قد أُذلت وبعضها قد شُرد برمته، وكثير منها قد عُذب ونُكل به، واغتُصبت أراضيه، وانتُهكت أعراضه، كما حصل مع إخواننا في كوسوفا والبوسنة، وما حصل ويحصل حتى الآن مع أهل فلسطين وكشمير، الذين ضُيعوا منذ أكثر من خمسين عاماً، وهاموا على وجوههم، ولم يجدوا لهم ناصراً ولا مغيثاً حتى الآن.

                لم يسمع أحد منا ولو قولاً واحداً من زعماء المسلمين وحكامهم، ما يشير إلى التعهد بحفظ ما تبقى لنا من هيبة أو كرامة، مع أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم لعمرو بن سالم: لا نُصرت إن لم أنصر بني كعب›هو نبراس لنا، ودليل يوجب علينا التأسي به، ولأن به وحده يمكن حفظ الهيبة واسترداد الحقوق.

                سمعنا أقوالاً كثيرة وما زلنا نسمع الكثير منها كل يوم، ولكن ما نسمعه يوجد الغصة في الحلق، والمرارة في الكبد، فإننا نسمع ليل نهار من الحكام والزعماء بأن الغاصب قد أقر على ما اغتصبه، وأن له الحق في الوجود على أرضنا، ومن آخر ما سمعناه عن أعدائنا ورموزهم من الحكام المتسلطين علينا مزيد من الإطراء والمدح والإكبار، فمن قائل إن باراك رجل قوي شريف ورجل سلام، ومن قائل بأنه يأمل أن يسير باراك على نهج رابين … هذا ما سمعناه، ولم نشهد إلا بما وقع وبما حدث وبما علمنا.

                أيها الإخوة المسلمون: إن الحقيقة القاطعة التي لا بد من إدراكها بناء على ما ورد في كتاب الله، وما استخلصناه من سيرة رسولنا عليه الصلاة والسلام، أن رد الاعتبار لخير أمة أخرجت للناس لا يكون إلا بقتال الكفار وتعذيبهم بأيدينا، وبإخزائهم، وبالغلبة عليهم، وبشفاء الصدور من أذاهم، تحقيقاً لقوله تعالى: (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين )@، وما لم يحصل هذا كله، فلن ترجع للأمة هيبتها مطلقاً. وأما ما يدعون إليه من ضرورة التعايش والسلام والحوار مع أعدائنا، فهو عينه الذل والهوان وإعلال الصدور، ولكن بألفاظ مخادعة، وهو عكس ما أرشدت إليه الآية القرآنية الكريمة تماماً. وطالما استمرت الأمة بالركون إلى الكفار فلا أمل لها بشفاء الصدور ورد الهيبة، إلا أن تعود إلى القتال ـ وهذه حقيقة قرآنية وسنة كونية لا تتخلف ـ.

                أيها الحضور الكرام: في خضم بحثنا عن أسباب الهيبة، تبصروا معي في هذه الحوادث التالية التي سجلتها السيرة، وانظروا فيها لتروا كيف كان يقوم الرسول صلى الله عليه وسلم بالأعمال الجهادية والسياسية، التي من شأنها أن تحفظ هيبة الأمة والدولة:

  l           شبب كعب بن الأشرف اليهودي من بني قريظة بنساء المسلمين، وحرض ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبكى قتلى مشركي قريش الذين أصيبوا ببدر، فآذى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وساء المسلمين، فماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال صلى الله عليه وسلم: من لي بابن الأشرف؟ فقال مسلمة أنا له يا رسول الله، أنا أقتله. قال: فافعل إن قدرت على ذلك. فخطط مسلمة لقتله وقتله في معقله بالفعل، وأراح المسلمين من شره ومن أذاه.

  l           كان سلام بن أبي الحقيق، وهو يهودي من خيبر، من الذين اشتركوا في تحزيب الأحزاب ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق. وبعد انتهاء المعركة، أحس المسلمون بغدره وعدوانه، فاستأذن جماعة من الخزرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتله، فأذن لهم فقتلوه في عقر داره، وأشفوا صدورهم من أذاه وخطورته.

  l           وصل إلى أسماع المسلمين أن اليسير بن رازم، كان يجمع غطفان لغزو الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، فأرسل إليه الرسول عليه الصلاة والسلام عبد الله بن رواحة، على رأس سـريـة فقتلوه قبل أن يفلح في جمعه.

  l           جاءت الأخبار تحدث بأن خالد بن سفيان الهذلي، يجمع الناس لقتل الرسول صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه الرسول صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أنيس على نفر من أصحابه، فقتله وبقتله تفرق جمعه.

  l           علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن رفاعة بن قيس الجشمي كان يجمع قيساً على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليه ابن أبي حدرد، على رأس جماعة من المسلمين، فقتلوه وأجهضوا صنيعه.

  l           وصل إلى مسامع المسلمين شعر لأبي عفك يرثي أحد الذين قتلهم الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام:‹من لي بهذا الخبيث؟›فاستجاب سـالـم بن عمـير، وذهب إليه على رأس سرية وقتله وأسكت إذاعته.

  l           لما قتل أبو عفك نافقت عصماء بنت مروان، وأنشدت شعراً تعيب فيه على الإسلام وأهله، فلما بلغ شعرها مسامع الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ألا أخذ لي من ابنة مروان؟›فسرى إليها عمير بن عدي في بيتها وقتلها، ثم أصبح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني قد قتلتها، فقال: نصرت اللّـهَ ورسـولَـه يـا عـمـيـر.

                هذه سبعة اغتيالات سياسية، نفذها الرسول صلى الله عليه وسلم بعد قيام الدولة الإسلامية في المدينة المنورة عبر فِرَق ـ كوماندوز ـ كما يسمونها اليوم، في أشخاص أساءوا إلى الرسول وإلى الإسلام وإلى المسلمين. وبقتله لهم أراح الدولة الإسلامية من شرهم أولاً، وردّ هيبة المسلمين التي اهتزت ثانياً، وذلك بعد أن تغلغل الوهن إلى قلوب المسلمين، وتسرب الخوف إلى جزء من جماعتهم إثر بعض الخسائر التي تكبدها المسلمون. وبهذه الاغتيالات حَفِظ للأمة هيبتها، وللدولة قوتها وللإسلام عزته.

                إننا ـ ايها الاخوة الأعزاء ـ نرى الآية اليوم مقلوبة، فإسرائيل هي التي تغتال وتقصف وتقتل، بينما من يسمون أولياء أمور المسلمين»يمدون لها يد العون، ويقدمون لها كل آيات الخنوع والاستسلام والمذلة.

                إسرائيل تسرح وتمرح، وتجيء وتروح في لبنان كما تشاء، تقصف الجسور ومحطات الكهرباء وتدمر البنى التحتية، وتتبجح بما تصنع، وتهدد وتتوعد، حتى إن قلب المؤمن لينفطر غيظاً، ويكاد ينفجر من شدة الأسى من أفاعيلها، بينما المسلمون في وهدتهم سامدون، لا يحركون ساكنا، ولا نكاد نسمع لهم صوتاً، سوى بعض الجعجعات الإعلامية هنا أو تقديم شكاوى للأمم المتحدة هناك، وحتى التنديد لم نعد نسمعه من زعمائهم، فالظاهر أن التنديد بإسرائيل أمر يخالف اتفاقيات السلام معها، فالتظلم من إسرائيل لا يجوز أن يبلغ حداً أكثر من الاحتجاج اللفظي!!.

                إسمعوا عباد الله وعوا .. أخرج ابن إسحق عن يزيد بن ردمان قال: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني النضير تحصنوا منه في الحصون فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع النخل والتحريق فيها، فنادوه: يا محمد لقد كنت تنهى عن الفساد، وتعيب على من صنعه، فما بال قطع النخل وتحريقها؟ فنـزلت آية: (ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين )@.

                بمثل هذا ـ إخوة الإسلام ـ نستطيع أن نقضي على دولة اليهود ونستأصلها من شأفتها، ونسترد الهيبة المفقودة منذ زمن بعيد .. بمثل هذا ـ وحسب ـ نقدر على مواجهة قوى الكفر والبغي والعدوان كأميركا وبريطانيا. بمثل هذا ـ فقط ـ نتمكن من حمل الدعوة إلى العالم، لنخرجه من جور المبادئ والأديان، إلى عدل الإسلام. أما أن نظل معتمدين على الدول الكبرى والهيئات الدولية فهذا هو الخسران المبين.

                إن هذه الدروس البليغة ـ أيها الاخوة الأعزاء ـ المستمدة من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، تعلمنا أن أبسط قواعد النهضة، واستعادة الهيبة، تكمن في وجوب اعتمادنا على قدراتنا الذاتية، في الردع وفي استخدام القوة التي ترهب الأعداء، وفي إيجاد إرادة القتال، ومن دون ذلك حرام أن نسمي أن لنا دولة. فالدولة تعني الهيبة، والهيبة تتطلب القدرة والردع والإرادة، أما أن نُسمي علينا دولاً تعجز عن ممارسة سلطانها على أرضها، ولا تجلب لنا سوى الخيبة، فعدمها أفضل من وجودها.

                وفي الختام أقول: إن على الدول المزعومة القائمة في عالمنا الإسلامي، أن تخلي مكانها لدولة الخلافة العتيدة، إما طوعاً وإما قسراً، لأنها الوحيدة القادرة على رد الهيبة للأمة، وهي القادرة على الوقوف أمام الكفار والحد من صلفهم واستكبارهم وجبروتهم، لتعود أمتنا الإسلامية إلى اقتعاد مكانتها اللائقة في مقدمة الأمم، ولترجع خير أمة أخرجت للناس، كما وصفها ربها سبحانه، فتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتدعو إلى الإسلام وتحمله إلى كل مكان بالجهاد والقتال، رسالة وحضارة ونظام حياة.

                وفقنا الله وإياكم لما فيه خير الأمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *