العدد 147 -

السنة الثالثة عشرة – ربيع الثاني 1420هـ – آب 1999م

حلقات في الفكر السياسي (4)

لقد تحدثنا في الحلقات السابقة عن الدين من حيث كونه عقائد وأحكام سياسية يجب الالتزام بها والعمل على تطبيقها، وعن المجتمع من حيث كونه مجموعة من الناس تربطهم مجموعة من الأفكار والمشاعر والأنظمة، ويشكلون نسيجاً متميزاً. وعن الدولـة من حيـث كونهـا الكيان التنفيذي لمجـمـوعـة مفاهيم ومقاييس وقناعات تحملها مجموعة من الناس. وسنتحدث اليوم ـ إن شاء الله ـ عن الدار من حيث كونها المكان الذي يعيش فيه الناس، الذين تفـرض عليهم الدولة سـلطـانها، وتطبق عليهم أحكام الدين، أو قوانين وضعية.

            فالدار هي البلاد التي تكون محكومة بسلطان معين ولها أمان معين. والدار داران: دار إسلام ودار كفر، أو حرب، أما دار الإسلام فهي البلاد التي تكون محكومة بسلطان الإسلام مطبقة عليها أحكامه، ويكون أمانها الداخلي والخارجي بأمان الإسلام وقوة المسلمين. أما دار الكفر، أو دار الحرب، فهي البلاد التي تكون محكومة بسـلطـان الكفـر، وتُطبق عليها قوانينه، ويكون أمانها الداخلي والخارجي بأمان الكفر وقوة الكفار.

والدليل على هذا التعريف للدار ما روى سليمان بن بريده عن أبيه أنه قال: «كان رسول الله  صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميراً على جيش أو سرية، أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: اغزوا بسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدة. وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم: أدعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم أدعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونوا كأعراب المسلمين، يجري عليهم الذي يجري على المسلمين، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة شيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين». فهذا الحديث يدل على أن الدخول في الإسلام لا يعني إعطاء التابعية، أي حق الرعوية، لمن يدخل في الإسلام، لأن منح التابعية الإسلامية يتوقف على العيش داخل دار الإسلام، ويعطى التابعية فقط كل من يتحول إلى دار الإسلام، ويخضع لإحكامها بغض النظر عن دينه وعرقه ونسبه. فالتابعية للدار تعني الولاء للدولة التي تطبق الأحكام على من يعيشون في دار الإسلام، بصرف النظر عن كونهم مسلمين أو غير مسلمين.

                والشاهد في الحديث الذي رواه ابن بريده قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثم أدعهم  إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونوا كأعراب المسلمين، يجري عليهم الذي يجري على المسلمين، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة شيء». فدعوتهم للتحول من دارهم إلى دار المهاجرين يعني أن دارهم التي يعيشون فيها، ولا سلطان للإسلام عليها، هي دار حرب، وأما دار المهاجرين فهي دار الإسلام، ثم إخبار الرسول عمن لا يتحول إلى دار الإسلام منهم، بأنه لا يكون له في الفيء والغنيمة شيء، فهذا يعني أن من لا يتحول إلى دار المهاجرين فلا حقوق مالية له، ولا حقوق رعوية تتعلق بالتابعية يمكن له أن يتمتع بها. فالذي لا يتحول إلى دار الإسلام، ولو كان مسلماً، فإنه لا يملك أي حق من حقوق الرعوية. فتكتسب هذه الحقوق بسبب التحول إلى دار الإسلام، ويفقدها من يتحول من دار الإسلام. فالذمي، وهو غير المسلم، الذي يستوطن دار الإسلام ويعطي الولاء للدولة الإسلامية، فإنه يكتسب بذلك الحقوق الرعوية الكاملة لدار الإسلام. وفي هذه الحال يكون للذمي ما للمسلمين من الحقوق وعليه ما على المسلمين من واجبات. وأما المسلم الذي لا يود الإقامة في دار الإسلام، وارتضى العيش في دار الكفر، فإنه لا يتمتع بأية حقوق رعويـة من قبـل الدولة الإسلامية، ولا يرتبط بالدولة الإسلامية بأي ولاء سوى الأخوة الإسلامية التي لا تعني التابعية، ولا ما يترتب عليها من حقوق.

                وهكذا نجد أن دار الإسلام هي تلك الدار التي تطبق فيها أحكام الإسلام، ويكون سلطانها مستنداً إلى الإسلام، وأمانها مستنداً إلى المسلمين، ولو كان جل أهلها من غير المسلمين. بينما دار الكفر، أو دار الحرب، فهي تلك الدار التي تطبق فيها قوانين الكفر، ويكون سلطانها مستنداً إلى الكفر، وأمانها مستنداً إلى الكفار، ولو كان كل أهلها من المسلمين.

                وبلاد المسلمين اليوم ليست دار إسلام، لأنها وإن كانت تعيش فيها أغلبية من المسلمين، فإنها دار كفر بسبب كونها محكومة بأحكام الكفر، ومعتمدة في سلطانها وأمانها إلى الكفار، ولا يوجد اليوم دار إسلام واحدة لأنه لا توجد دولة إسلامية. فوجود الدولة الإسلامية سبب في وجود دار الإسلام، فإن وجدت الدولة وجدت الدار، وإن  عدمت الدولة عدمت الدار.

                ومصطلحات دار الإسلام ودار الكفر أو دار الحرب هي مصطلحات شرعية، لا يجوز الاستعاضة عنها بأية مصطلحات أخرى. فلا يجوز استعمال مصطلحات الوطن أو الأرض أو البلد عوضاً عنها، فضلاً عن أن كل مصطلح له مدلول خاص يختلف عـن الـمـصـطـلـح الآخـر.

                وقد روج الغربيون كثيراً لمصطلح الوطن والوطنية، وجعله المضبوعون بالثقافة الغربية  بديلاً عن مصطلح الدار، وجعلوه يطغى على مصطلح الدار، حتى أصبح يتردد على ألسنة المسلمين جاهلين أو متجاهلين المصطلح الشرعي وهو الدار. ومصطلح الوطن هو مصطلح وضعي غزانا به الغرب الكافر، وروجه بين المسلمين ليستعملوه ويتداولوه على نطاق واسع، ليحل محل المصطلح الشرعي وهو مصطلح الدار، فبدلاً من أن يكون الولاء للدار أصبح الولاء للوطن، وشتان بين الولاءين، فالولاء للوطن يعني الولاء للأرض ولنظام الحكم الوضعي، وللحاكم الذي يحكم بنظام وضعي كافر، بينما الولاء للدار يعني الولاء لله ورسوله والمسلمين.

                وفوق ذلك فإن الولاء للوطن ـ حتى عند حَسنيّ النية ـ ولاء غامض لا يستطيع صاحبه تحديد الجهة التي يواليها، لأن مفهوم الوطن مفهوم عام ومشترك غير محدد ولا مبلور، فلا يدري الوطني لمن يعطي ولاءه، هل يعطيه لتراب الأرض وصخورها؟ أم يعطيه لنظام الحكم الجائر في بلده؟ أم يعطيه للحاكم الذي لم يشترك هو في اختياره؟. ومن جراء هذا الإبهام في مفهوم الوطن تحول الولاء نحو الوطن إلى مجرد شعور بالحب والحنين لذلك البلد وانحسر وضاق إلى حد لم يعد معه يمثل أي ولاء حقيقي.

                أما الولاء لدار الإسلام فإنه ولاء محدد واضـح، يدرك صاحبه أنه يوالي الدولة، والخليفة، والنظام المأخوذ من الكتاب والسنة. ولا يدخـل فيـه ما هو ليس منـه كالـشـعـور بالحنين والحـب للأرض. فهو ولاء سـيـاسـي لنظـام حكـم ونظـام حيـاة، وهـذا قـد يوجـد عند غير المسـلمين الذين يدركون عدالة النظام المطبق في دار الإسلام، ويسـتشعرون الإنصاف والطمأنينة بغض النظر عن إيمانهم واعتقادهم.

                ولقد ذكر لنا التاريخ أن نصارى بلاد الشام قد أحبوا العيش في ظل الدولة الإسلامية على العيش في ظل الدولة الرومانية، لإدراكهم واستشعارهم عدالة وإنصاف حكم المسلمين، وعبَّر عن ذلك قولهم لأبي عبيده عندما أرجع إليهم الجزية التي أخذها لعدم قدرته على الاستمرار في حكم بلادهم وحمايتهم بأنهم يفضلون حكم الإسلام على حكم الرومان. قال أبو يوسف، رحمه الله، في خراجه: «فلما رأى أهل الذمة وفاء المسلمين لهم، وحسن السيرة فيهم، صاروا أشدّاء على عدو المسلمين، وعوناً للمسلمين على أعدائهم، فبعث أهل كل مدينة ممن جرى الصلح بينهم وبين المسلمين رجالاً من قِبَلهم، يتجسسون الأخبار عن الروم، وعن ملكهم، وما يريدون أن يصنعوا، فأتى أهلَ كل مدينة رسلُهم، يخبرونهم بأن الروم قد جمعوا جمعاً لم يُرَ مثله. فأتى رؤساء أهل كل مدينة إلى الأمير الذي خلّفه أبو عبيدة عليهم، فأخبروه بذلك، فكتب والي كل مدينة ممن خلّفه أبو عبيدة، إلى أبي عبيدة يخبره بذلك، وتتابعت الأخبار على أبي عبيدة، فاشتد ذلك عليه وعلى المسلمين، فكتب أبو عبيدة إلى كل والٍ ممن خلّفه في المدن التي صالح أهلها، يأمرهم أن يردّوا عليهم ما جبي منهم من الجزية والخراج، وكتب إليهم أن يقولوا لهم: إنما رددنا عليكم أموالكم، لأنه قد بلغنا ما جُمع لنا من الجموع، وأنكم اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنّا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم على الشرط وما كتبنا بيننا وبينكم، إن نصرنا الله عليهم؛ فلما قالوا ذلك لهم، وردّوا عليهم الأموال التي جَبوْها منهم، قالوا: ردّكم الله علينا ونصركم عليهم، فلو كانوا هم، لم يردّوا علينا شيئاً، وأخذوا كل شيء بقي لنا، حتى لا يدعوا لنا شيئاً.» فلما نصر الله المسلمين على أعدائهم، بعث أهل المدن التي لم يصالح عليها أبو عبيدة، يطلبون الصلح، فأجابهم إلى ما طلبوا على مثل ما أعطى الأولين. فأدّوا إليه الجزية، وفتحوا له أبواب المدن، وتلقّوه بالأموال التي كان ردّها عليهم من خلّفهم عليهم.

                وتطبق الدولة أحكام الإسلام على المسلمين باعتبارها ديناً لهم آمنوا به، أما على غير المسلمين، فتطبق عليهم أحكام الله باعتبارها قوانين، ارتضوا أن يعيشوا عليها، وهذا شرط قبولهم كأهل ذمة.

                وينبغي في هذا المقام، التفريق بين دار الإسلام، والبلاد الإسلامية، فكل بلد ارتفعت فوق أرضه راية «لا إله إلا الله محمد رسول الله» هو بلد إسلامي، يجب استرجاعه إلى سلطان المسلمين، ويجب الجهاد من أجل ذلك، سواء اقتُلع المسلمون منه، كما هو الحال في بلاد الأندلس، أم ما زالوا يعيشون فيه، أكثرية كانوا أم أقلية، كبلغاريا، واليونان والهند، فكلها بلاد إسلامية، ويجب أن تعود إلى سلطان المسلمين، وأن تعود جزءاً من دولة الخلافة.

                نعم إن دار الإسلام هي مصطلح هام، ومفهوم أساس في نظام الحكم الإسلامي، ولا بد من بلورته في الأذهان، ولا بد من التمسك به والدعوة له، والعمل حتى تنزاح سيطرة الكفار على المسلمين، ويكون الدين لله، وتصبح بلاد المسلمين داراً إسلامية واحدة، تأتمر بأمر خليفة واحد، ترفع من بينها الحواجز المصطنعة، التي أراد لها الكافر أن تقطع أوصال الأمة الواحدة الكريمة. ويعاد تقسيم الدولة الكبرى الواحدة إلى ولايات وعمالات تلغي كل أشكال التقسيمات القائمة على أساس وطني، أو قومي، أو مذهبي، بحيث تمتزج الأمة امتزاجاً حضارياً فيما بينها، وتتميز تميزاً حاسماً عن غيرها. ويجب أن تسن القوانين التي من شأنها حماية وحدة الأمة، ووحدة الخلافة، فكل من يُعرِّف على نفسه بأكثر من أنه مسلم من مواليد مدينة أو قرية كذا تجب محاسبته، فالإسلام هو هوية المسلمين الواحدة.

                أبي الإسلامُ لا أبَ ليْ سواهُ

                                                                إذا افتخروا بقيسٍ أو تميمِ

                فالمحافظة على وحدة الأمة بعد إنجازها، يبقى أشق وأهم من تحقيقها .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *