العدد 149 -

السنة الثالثة عشرة – جمادى الآخرة 1420هـ – تشرين الأول 1999م

أولويـات الدعـوة الإسـلاميـة

فيما يلي نص الكلمة التي ألقاها الأستاذ أحمد القصص في المؤتمر الذي عقد في بيروت في  06/06/1999 في كلية الدعوة الإسلامية تحت عنوان «أولويات الدعوة الإسلامية في لبنان».

بسم الله الرحمن الرحيم

                قال تعالى: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين )*.

                إن عنوان هذا المؤتمر يتمحور حول «الدعوة الإسلامية». فموضوعنا إذاً هو الدعوة إلى الإسلام. والدعوة إلى الإسلام هي من أهم واجبات الأمة الإسلامية، بل هي سمتها الأساسية، قال تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله). إلا أن عنوان «الدعوة إلى الإسلام» عنوان عريض واسع، يتضمن الكثير من التفصيل. وحامل الدعوة يجب أن يتحرى ما يلزم للواقع الذي يعيشه. فإذا كانت مادة الدعوة هي الإسلام دائماً، فإن الإسلام يطرح العديد من القضايا والأهداف التي لا يمكن تفكيكها وفصلها الواحدة عن الأخرى، إلا أن فيها من التراتبية ما يدفعنا إلى القول بوجوب البحث عن الأولويات.

                إلا أن المشكلة التي يقف أمامها كثير من حملة الدعوة الإسلامية اليوم هي: «مقياس معرفة الأولويات». على أي أساس نحكم بأن هذه القضية هي أولى من تلك وأن تلك أولى من هاتيك؟

                لذلك فإن ما نبادر إلى التشديد عليه: أن سُـلَّم الأولويات لا يجوز أن يُرتب بناءً على ما هو «متاح» مثلاً، أو ما هو «متيسر» أو «مسموح به». إن صاحب الحق في تحديد الأولويات الشرعية هو الشرع نفسه، وليس من حق أحد أن يعطي نفسه هذا الحق من غير هذا المصدر. فالشرع حين شرع الأحكام جعل الواجب أولى من المندوب، وجعل الحرام أخطر من المكروه. وكذلك بيّن أن هناك واجبات مهمة وواجبات أهم وأن هناك محرمات خطيرة ومحرمات أخطر. فأركان الإسلام هي أهم الواجبات، كما أن الكبائر هي أعظم المحرمات. وإن الذي يستقرئ الشريعة الإسلامية يلمس في تفاصيلها بوضوح كيف جعل الإسلام بعض القضايا أولى من البعض الآخر. فقد جعل حفظ الدين مثلاً في أعلى المستويات، إذ شرع لما يشكل خطراً عليه أشد العقوبات، قال تعالى: (والفتنة أشد من القتل)، وقال النبي r: «من بدل دينه فاقتلوه». وجعل الحكم بما أنزل الله والحفاظ عليه في أعلى المراتب، وواجه الاعتداء عليه بأشد الإجراءات، إذ أمر بمنابذة الحاكم الذي يحكم بغير ما أنزل الله بالسلاح، فقد ورد في حديث عبادة بن الصامت «وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن ترْوا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان». وجعل وحدة الأمة من أهم القضايا، إذ أوجب على المسلمين الانقياد لإمام واحد، ودعا إلى الحفاظ على هذه الوحدة ولو بقوة السيف «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما». بينما أوجب المحاسبة باللسان إذا قصّر الحاكم أو أساء أو ظلم، دون إشهار السلاح، إذا لم يحكم بالكفر البواح، «إسمع وأطع ولو أكل مالك ولو جلد ظهرك».

                إن واقع المسلمين اليوم يطرح عليهم قضايا كثيرة يصعب حصرها. إلا أن تحديد ما هو أولى وأخطر من بين هذه القضايا لا يجوز أن تحكمه مقاييس فاسدة ومنحرفة تلهي حملة الدعوة وسائر المسلمين عن قضاياهم المصيرية. فلا يجوز أن يكون مقياس الأولويات ما هو سهل التحضير مثلاً، كما أنه لا يجوز أن يحدد أعداء الإسلام لحملة الدعوة أولوياتهم، وإلا كان ذلك انجرافاً مع الواقع الفاسد. فحملة الدعوة يجب أن يجعلوا الواقع «محل» التفكير لا مصدر التفكير، والتفكير والعمل للتغيير يجب أن يُستمَدّ من المبدأ من أجل تغيير الواقع، ولا يجوز أن يُستمد من الواقع الفاسد نفسه.

                وقضايا المسلمين وهمومهم الكبرى والمصيرية لا يجوز أن تتعدد بتعدد أقطارهم والكيانات المصطنعة في بلادهم. فالمسلمون أمة واحدة، قال تعالى: (إنما المؤمنون إخوة) وقال عليه الصلاة والسلام في وثيقة المدينة يصف المسلمين: «إنهم أمة واحدة من دون الناس» وقال: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم». وقال: «مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر». فهوية حامل الدعوة هي الإسلام والإسلام فقط، وانتماؤه هو إلى الأمة الإسلامية لا غير. وإن من أكبر الأخطار على أبناء الأمة وحملة الدعوة، تجزئة همومهم وقضاياهم وجعلها قضايا إقليمية ووطنية ومحلية، فإن هذا يعني الوقوع في حبائل الكافر المستعمر، من تشتيت للأمة وتفريق لوحدتها.

                لذلك فإن غياب الحكم بما أنزل الله، وظهور أنظمة الكفر في بلاد المسلمين، وغزوهم بالحضارة الغربية، هي مشاكل المسلمين في لبنان وغيره. وكذلك قضية فلسطين وكوسوفا وقضية كشمير وقضية العراق هي قضايا لمسلمي لبنان ومسلمي العالم.

                إن قضايا المسلمين الكبرى في الحاضر، لا يجوز أن يختلف فيها اثنان. إنها باختصار: استئناف الحياة الإسلامية، وتحكيم الشريعة الإسلامية بكاملها، وتحرير البلاد الإسلامية التي احتلها الكفار، كفلسطين والخليج والبلقان وكشمير وغيرها، وطرد سلطان الكفار ونفوذهم من سائر البلاد الإسلامية، وإعادة توحيد الأمة الإسلامية في دولة واحدة. وسائر القضايا هي في حقيقتها فروع عنها. وإن الناظر في هذه القضايا يجد أن الطريقة الوحيدة للقيام بواجبها، هي أولى أولويات الفرائض التي أوجبها الله تعالى علينا، وهي إقامة الخلافة الإسلامية التي تحكم بما أنزل الله، وتطرد نفوذ الكفار وتعمل على وحدة الأمة، وتحرير بلادها، وحمل الإسلام رسالة إلى العالم.

                إن هذا العمل كبير وشاق. وبقدر ما هو كبير وشاق فإنه مهم. فهو القضية المصيرية التي لا يمكن للمسلمين أن يحلوا أي مشكلة من مشاكلهم إلا بها. وحين يكون العمل كبيراً وشاقاً فهذا يعني أنه من الأولويات التي يجب أن تتكاتف لأجلها الجهود.

                إن إقامة الخلافة ليست قفزة، ولكنها عمل يمر بمراحل. وكونها القضية المصيرية الأولى يعني أن تكون مراحلها هي أولويات الدعوة الإسلامية. فالأعمال المؤدية إلى إقامة الخلافة هي أولويات الدعوة الإسلامية في الحاضر، في هذا البلد وغيره.

                وفي هذا السياق نقول: إن وعي المسلمين على هذه القضية وعياً تاماً، هو من أولى أولويات الدعوة الإسلامية. وهذا الوعي سوف يؤدي حتماً بإذن الله تعالى إلى التغيير المنشود، قال تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).

                وهذا التغيير الذي تطلبه الآية لا يقتصر على العبادات والأخلاق، وإنما يتناول كافة شؤون الحياة. فعلى سبيل المثال: يجب أن تعي جماهير المسلمين في البلاد الإسلامية أنه لا يجوز أن يحكمهم كافر ولا يطبق عليهم قانون كفر، وبالتالي لا يجوز أن يعطوا الولاء للكافر الذي يحكمهم، ولا يجوز أن يعتبروه رئيساً لهم أو أن يظهر منهم التأييد له، أو ما يفيد الرضى به، ويجب أن يتخذوا المواقف التي تعبر عن هذا الوعي. ويجب أن يعوا أنه لا يجوز إعطاء الولاء لمن لا يحكم بما أنزل الله.

                ويجب أن يعي المسلمون أنهم مسؤولون عن مناصرة إخوانهم المسلمين في كل الأرض، وأنه يجب عليهم إعداد القوة لنصرتهم، وأن هذه القوة التي ينشدونها رهينة الأنظمة، التي تعطل الشريعة وتنفذ خطط الكافر المستعمر، وتحافظ على تجزئة العالم الإسلامي. فعليهم أن ينتزعوا قوتهم من هؤلاء، فالجيوش جيوشهم والأموال أموالهم والعتاد عتادهم والقرار يجب أن يكون لهم.

                ويجب على المسلمين أن يعوا أن أي محاولة لنصرة الإسلام عن طريق أنظمة الكفر هي محاولات فاشلة فضلاً عن كونها مخالفة لأحكام الشرع. والله تعالى يقول: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا)، وأن الركون إلى الظالمين انتحار يُمكِّن سلطان الظالمين.

                ومن أولويات الدعوة في المرحلة الحاضرة مخاطبة أصحاب القوة والمنعة من المسلمين المخلصين، لحمل الدعوة إليهم وتحميلهم مسؤولية التغيير، إذ قد يكونون هم القادرين على التغيير المادي باليد لتحويل البلاد إلى دار إسلام.

                ومن أولى الأولويات أن يجعل حملة الدعوة السيادة في فكرهم وخطابهم وعملهم للشرع وحده، بحيث يستمدون من القرآن والسنة منهج العمل والتغيير وكيفية حمل الدعوة. فلا تجوز مخالفة الشرع من أجل تحقيق مكاسب وأهداف آنية، بحجة جلب المصالح أو بحجة الضرورات. ولا يجوز التلهي بأهداف رخيصة، وأُلهيات توضع في طريق حملة الدعوة. وعلى حملة الدعوة أن يكسروا حاجز الخوف وأن يتواصوْا بالحق والصبر، وأن يضربوا للأمة المثال على تحمل المشاق والعنت والابتلاء في سبيل إعلاء كلمة الله والثبات على المنهج حتى تحقيق الهدف المنشود، ألا وهو خلافة على منهاج النبوة، (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون )*

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *