العدد 149 -

السنة الثالثة عشرة – جمادى الآخرة 1420هـ – تشرين الأول 1999م

غزوة بني قريظة

بعد أن منَّ الله على رسوله والمسلمين باندحار الأحزاب، رجع صلى الله عليه وسلم والمسلمون إلى المدينة المنورة، ووضع المسلمون سلاحهم، فأتاه جبريل عليه السلام فأخبره أن الملائكة لم تضع سلاحها بعد، وإن الله يأمره بالمسير إلى بني قريظة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذناً فأذن في الناس: من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلينَّ العصر إلا في بني قريظة،. واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم.

فانطلق المسلمون نحو بني قريظة، وأدرك بعضهم العصر في الطريق، فمنهم من صلّى العصر في وقته، ولم يؤخره، فهماً منهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يستحثهم على الإسراع في الاندفاع نحو بني قريظة. ومنهم من التزم حرفية النداء، فاخّر صلاة العصر إلى حين وصوله إلى بني قريظة، وأقرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الفريقين على عملهما، ولم يعنف أحداً منهما، لأن في النداء ما يُفهم كلا المعنيين.

                روى البيهقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بمجالس بينه وبين بني قريظة فسألهم: هل مرّ بكم أحد؟ فقالوا: مرَّ علينا دحية الكلبي على بغلة شهباء تحته قطيفة ديباج، فقال الرسول لأصحابه: ذلك جبريل، أُرسل إلى بني قريظة ليزلزلهم ويقذف في قلوبهم الرعب. وقدّم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب برايته إلى بني قريظة، حتى إذا دنا من الحصون، سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع فتلقى الرسول الكريم، وقال: يا رسول الله لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابث. ففهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سمع منهم أذىً له صلى الله عليه وسلم، فدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم، وقال: يا إخوان القردة، هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته؟ ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على بئر من آبار بني قريظة، وحاصرهم رسول الله بكتائب المسلمين بضع عشرة ليلة (وعند ابن إسحاق خمساً وعشرين ليلة) حتى جهدهم الحصار، فصرخوا بأبي لبابة، وكان حليفاً للأنصار، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم، فأذن له صلى الله عليه وسلم، فأتاهم أبو لبابة فبكوا إليه، واستنصحوه، ماذا يعملون فإنه لا طاقة لهم بالقتال، فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه، وأمرَّ عليه أصابعه، يريهم أنما يراد بهم القتل. فلما انصرف أبو لبابة، رأى أنه قد أصابته فتنة عظيمة، بتسريب خطة المسلمين إلى عدوهم، فأقسم أن لا ينظر إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يتوب إلى الله توبة نصوحاً يعلمها الله من نفسه، فربط يديه إلى جذع من جذوع المسجد وعاهد الله أن لا تطأ قدماه بني قريظة أبداً، حيث خان الله ورسوله، وفيه نزل قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون )*.

                فلما بلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم خبر أبي لبابة، قال صلى الله عليه وسلم: أما إنه لو جاءني، لاستغفرت له، فأما إذ قد فعل فما أنا الذي يطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه. قال ابن هشام: أقام أبو لبابة مرتبطاً بالجذع ست ليال، تأتيه امرأته في كل وقت صلاة، فتحله للصلاة، ثم يعود فيرتبط بالجذع، إلى أن نزلت في توبته آية: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم )*.

                وقد نزلت توبته من السحر، والرسول صلى الله عليه وسلم في بيت أم سلمة، فاستأذنت الرسول صلى الله عليه وسلم في أن تزف له البشرى فأذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقامت على باب حجرتها فقالت: يا أبا لبابة، أبشر فقد تاب الله عليك. فثار الناس إليه ليطلقوه، فأبى إلا أن يطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فلما مرّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خارجاً إلى صلاة الفجر أطلقه.

                ولما أيقنوا أن محمداً صلى الله عليه وسلم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم، قال كعب بن أسد لهم: إني عارض عليكم خلالاً ثلاثاً فخذوا أيها شئتم: نتابع هذا الرجل ونصدّقه، فوالله لقد تبيّن لكم إنه لنبي مرسل، وإنه للذي تجدونه في كتابكم، فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم، قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبداً؛ قال: فإذا أبيتم عليّ هذه، فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالاً مصلتين السيوف، قالوا: نقتل هؤلاء المساكين، فما خير العيش بعدهم؟ قال: فإن أبيتم عليّ هذه، فإن الليلة ليلة السبت، وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أُمِنوا فيها، فانزلوا لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غِرّة، قالوا: نفسد سبتنا. ونحدث فيه ما لم يحدث مَنْ كان قبلنا، إلا من قد علمت. فأصابه ما لم يخفَ عليك من المسخ، قال: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازماً.

                ثم نزلت بنو قريظة على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتواثبت الأوس، وكان بنو قريظة من مواليهم، يريدون أن يهبهم الله لهم، كما وهب بني قينقاع، حلفاء الخزرج، إلى عبد الله بن أبي بن سلول، فحكَّم فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأوس هو سعد بن معاذ رضي الله عنه، وكان يمرّض في خيمة الجرحى، إذ قد أصابه سهم في غزوة الخندق، فأتاه قومه فحملوه على حمار، وأقبلوا معه إلى صلى الله عليه وسلم وهم يوصونه في مواليه بني قريظة، فلما أكثروا عليه قال: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم. فلما انتهى سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا إلى سيّدكم، فقال سعد: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أنّ الحكم فيكم لما حَـكَمتُ؟ قالوا: نعم، قال: وعلى من هاهنا؟ مشيراً إلى الناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو معرض عن رسول الله إجلالاً له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، قال سعد: فإنّي أحكم فيهم أن تُـقتل الرجال، وتُقسم الأموال، وتسبى الذراري والنساء، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة (أي سـماوات). فهل سيُـعيد التاريخ نفسه. وينزل اليهود في فلسطين على حكم رجل مؤمن بعيد النظر، ينظر بنور الله، فيحكم فيهم كما حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه في بني قريظة؟!

                فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سوق المدينة، فخندق بها خنادق، ثم بعث إليهم، فضرب أعناقهم في تلك الخنادق، وفيهم حيي بن أخطب، وكعب بن أسد، وهم ست مائة أو سبع مائة، ولما أتي بحيي بن أخطب، يداه مجموعتان إلى عنقه، نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أما والله ما لمتُ نفسي في عداوتك، ولكنه من يخذل الله يُخذَل، ثم أقبل على الناس، فقال: أيها الناس، إنه لا بأس بأمر الله، كتاب وقدر وملحمة كتبها الله على بني إسرائيل. ثم جلس فضُربت عنقُه. وكان رسول الله قد أمر أن يُـقتل من بني قريظة كل من أنْبَتَ منهم، ولم تُـقتل إلاّ امرأة واحدة كانت طرحت الرَحا على أحد المسلمين فقتلته، فقُـتلت به.

                ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسّم أموال بني قريظة ونساءهم وأبناءهم على المسلمين، وأخرج منها الخمس، وكان للفارس ثلاثة أسهم: للفرس سهمان ولفارسه سهم، وللراجل سهم واحد، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن زيد الأنصاري بسبايا من بني قريظة إلى نجد. فابتاع لهم بها خيلاً وسلاحاً.

                فلما انقضى شأن بني قريظة، توفي سعد بن معاذ رضي الله عنه شهيداً متأثراً بجراحه يوم الخندق. وإن جبريل أتى رسول الله حين قُبض سعد من جوف الليل، فقال: يا محمد، من هذا الميت الذي فُـتحت له أبواب السماء، واهتز له العرش؟ قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعاً يجرّ ثوبه إلى سـعـد، فوجـده قد مات، رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

                وأنزل الله تعالى في يهود بني قريظة: (وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقاً تقتلون وتأسرون فريقاً *  وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضاً لم تطأوها وكان الله على كل شيء قديراً )*.

                ثم إن الخزرج استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل سلام بن أبي الحقيق، أبي رافع، الذي حزّب الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت الأوس قد قتلت كعب بن الأشرف، فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله، فخرج إليه ستة نفر أمّر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عتيك، فقتلوه بأسيافهم، وهو نائم، وذلك جزاء الذين يحادّون الله ورسوله .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *