العدد 243 -

العدد 243- السنة الواحدة والعشرون، ربيع الثاني 1428هـ، الموافق أيار 2007م

مع القرآن الكريم: الآثار الأخروية للحكم بما أنزل الله (1)

مع القرآن الكريم:

الآثار الأخروية للحكم بما أنزل الله (1)

 

عند استعراض النصوص القرآنية المتعرضة للآثار الأخروية لتحكيم الشريعة، نجد أن تلك النصوص تعدد هذه الآثار بما يمكن أن يندرج تحت وصف عام، وعنوان رئيس هو: (الفلاح والفوز). وهما يعتبران امتداداً للفلاح والفوز اللذين يحرزهما المؤمنون في الدنيا باحتكامهم لشرع الله سبحانه. قال تعالى: ( إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ) [النور 51-52]. فما أعظمها من آية، وما أغلاها من بشرى، فهي تبين كيف يكون السمع والطاعة، وكيف تكون عاقبتهما، فشأن المؤمنين المفلحين المسارعة إلى السمع والطاعة: ( إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) أي إلى كــتاب الله وحكـم رســوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد وعد الله بذلك أن ( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ ) فيما فرض (  وَرَسُولَهُ ) فيما سن ( وَيَخْشَ اللَّهَ ) فيما مضى من عمره ( وَيَتَّقْهِ ) فيما بقي من عمره ( فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ).

والفائز من نجا من النار وأدخل الجنة. وقد كانت هذه الآية الجامعة سبباً في إسلام أحد النصارى عندما استمع إليها في عهد عمر بن الخطاب (رضي الله عنه). ولم تكن الآية العظيمة هي الوحيدة التي ساق بها القرآن الكريم البشرى الأخروية لمن احتكم إلى الله والرسول في الدنيا، ولكن هناك آيات أخر ساقت من البشريات ما يلي:

1- المغفرة وتكفير السيئات: وهي مكسب أخروي عظيم، لا يمكن للناس إدراكه إلا بالتحاكم إلى شريعة الإسلام الحقة، فالمجتمع الإسلامي وحده هو الذي تصلح في ظل شرائعه آخرة الناس بعد صلاح دنياهم، فهب أن التشريعات الوضعية أدخلت على الناس في بعض الظروف شيئاً من الرفاه والتنعيم والسعادة، وأصلحت جوانب من الدنيا، فماذا يفيد صلاح ذلك الشيء الجزئي من الدنيا إذا ضاعت الآخرة؟ إن محبة الطواغيت وطاعة شرائعهم لا تغفر الذنوب، بل تستجلبها، أما محبة الله ورسوله وطاعة ما أمر به فهي السبيل إلى محبة الله المكفرة للذنوب، قال تعالى: ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ) [آل عمران 31-32].

وهذه المغفرة لا تعني -بداهةً- عصمة المجتمع الإسلامي من الذنوب، ولكنه مجتمع ليس كغيره من المجتمعات التي يفتح إقصاء الشريعة فيها باب التسابق في الخطايا، وهو ليس كغيره من المجتمعات أيضاً؛ لأن تطبيق شرائع الإسلام على مقترفي الخطايا فيه يتيح لهم أمراً لا تعرفه المجتمعات الجاهلية، وهو الحرص على توبة المخطئ وبذل العون له للتطهر من دنس الذنوب قبل مغادرة الدنيا إلى دار البقاء.

فتحكيم الشريعة مظنة توبة التائبين في الدنيا، وقبول هذه التوبة في الآخرة، بالمغفرة ومحو السيئات، وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يبايع المؤمنين والمؤمنات على أمور هي في مضمونها إثبات لموقف التحاكم إلى الشريعة وإعلان الخضوع لها ابتداءً، وقد أمره الله أن يستغفر للمؤمنين إذا هم بايعوا على ذلك. قال تعالى: ( يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) [الممتحنة 12].

وهذه المبايعة بهذه الشروط ليست خاصة بالنساء، بل كانت هي بيعة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للرجال أيضاً. فقد روى البخاري عن عبادة بن الصامت (رضي الله عنه) قال: كنا عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مجلس فقال: «بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروف -وقرأ هذه الآية- فمن وفَّى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه» (رواه البخاري والنسائي والدارمي).

فهذه البيعة كانت على الامتثال لسائر شرائع الإسلام كما قال أبو السعود «فهي على ما ذكر وما لم يذكر لوضوح أمره وظهور أصالته في المبايعة من الصلاة والزكاة وسائر أركان الدين وشعائر الإسلام» فلهذا كان استغفار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لمن بايع على ذلك عبارة عن ضمان من قَبِله للثواب الأخروي والمغفرة لمن يسلم لحكم الله في هذه الأمور حتى إنه يبايع عليها، ثم ذُيلت الآية بقوله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) أي مبالغ في المغفرة والرحمة فيغفر للمبايعين ويرحمهم إذا وفوا بما بايعوا.

2- الثواب العظيم: إن المتحاكمين إلى شرع الله، لا ينجون بالمغفرة من السيئات فحسب، ولكن يظفرون كذلك بأجر عظيم وثواب كبير جزاء استقامتهم على النهج وسيرهم على الحق. فالله تعالى بعد أن بين في القرآن حكم من لم يحكِّم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في قوله تعالى: ( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ) [النساء 65] الآية أردف ذلك بقوله: ( وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ) [النساء 66-68] ففي الآية إخبار بأن الله تعالى رفع عن هذه الأمة المرحومة الآصار التي كانت على من كان قبلها. ثم بيّن النظم الكريم عاقبة تحكيم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والاتعاظ بما يعظ به: ( وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ ) يعني: من متابعة الرسول والانقياد لما يراه ويحكم به ظاهراً وباطناً ( لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ) أي: لكان هذا الانقياد وذلك التحاكم خيراً لهم في الدنيا والآخرة، ولكان أشد تثبيتاً لقلوبهم على الإيمان مما يستتبع حتماً الأجر العظيم -على حسب موعود الله سبحانه- فكأنه قيل: وماذا يكون لهم بعد التثبيت؟ فقيل: وإذن لو ثبتوا لآتيناهم، فإن (إذن) جواب وجزاء. وقد فُخم (الأجر العظيم) بنسبة عطائه إلى الله تعالى بنون العظمة، فهو من لدنه عز وجل (من لدنا) فهو أجر لا يقادر قدره.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *