العدد 270-271 -

السنة الثالثة والعشرون ـ العددان 270 – 271

صناعة القادة والكبراء

إعرف عدوك:

صناعة القادة والكبراء

 

م. موسى عبد الشكور – بيت المقدس

إنَّ كلَّ أمةٍ مِنَ الأمَم ِ لا تَصلحُ ولا تكونُ أمةً إلاّ بقائدٍ أوْ زعيمٍ حيثُ لا يَصلحُ النّاسُ فوضى لا سراةَ لهمْ، فضلاً عنِِ المبادئِ حيثُ لا تسودُ ولا تنتشرُ إلا ّ بقيادة، ففي مختلفِ العصور ِ كان َ هناك َ قادةٌ  وزعامةٌ وكبراءُ وأتباع؛ وهكذا في عصرِِنا الحاضرِ دولٌ وقادةٌ وشعوب، حيثُ كَثُرَ الحديثُ هذه الأيام عن ِ القائدِ الضرورةِ أو القائدِ المُخَلِّصِ أو القائدِ الذي تفرِضُهُ المرحلةُ، وتساءلَ النّاسُ عن ِ القياداتِ والحُكّامِ ومواقِفِهمْ خاصة ً في الحربِ على غزّة، وكذلك والأمّةُ تتعرّضُ لهجمةٍ استعماريّةٍ شَرِسةٍ تقودُها المصالحُ والمادةُ للدولِ ِالغربية.

وكَثُرَ الحديثُ عنِ العلماءِ الرجالِ ودورهِمْ في مُحاسبةِ القادةِ وكأنّهمْ غيرُ موجودين، وزادتِ الصيحاتُ تُنادي: أينَ قادةُ الأمّةِ؟ أينَ حُماتُها؟! وأينَ الآمرونَ بالمعروفِ والنّاهونَ عنِ المنكر؟ أيْنَ مَنْ يُنَصِّبُ حاكماً مخلصاً؟  أينَ الفقهاءُ أينَ أهلُ الحلِّ والعقد؟  أينَ قولُ الحقِّ؟ أينَ مَنْ لا يخْشى في اللهِ لومةَ لائِم؟ أينَ أهلُ البيعةِ أينَ الأنصار؟ أينَ المعتصمُ؟ أينَ َمنْ يُحَرِّرُ الأقصى وفلسطين؟ أينَ مَنْ يَنْتقمُ لأهلِ فلسطين؟ أينَ مَنْ يُحَرِّرُ العراقَ والشِّيشان؟ أينَ مَنْ يحملُ لواءَ الإسلام؟ أينَ مَنْ يقولُ لأوباما ولبليرَ ولبراونَ ولساركوزي الجوابُ ما ترى لا ما تسمع؟

في وقتِنا الحالي ومنذُُ نعومةِ أظفارنا ونحنُ نشاهدُ على شاشاتِ التّلفازِ صوراً لرؤساءَ وقادَة, ولا يخلو برنامجٌ أوْ تقريرٌ أو خبرٌ إلاّ وفيهِ لفخامةِ الرئيس ِ أوْ الملكِ نصيبٌ كبيرٌ منَ الحديث, استُقْبِلَ السَّيِّدُ الرّئيس, وُدّعَ السَّيِّدُ الرّئيس, دَشّنَ السَّيِّدُ الرّئيس، قال السَّيِّدُ الرّئيس، ونصادفُ أيضاً صورةَ الرئيسِ قدْ ملأتِ الشوارعَ والمكاتبَ والمؤسساتِ، وعندَ التَّدقيقِ نجدُ أنَّ القائدَ ليسَ مشروعاً فرديّاً معَ “دِكتاتوريَّته “بلْ هوَ مشروعٌ جَماعِيٌّ نُفِّذَ ودُبِّرَ بِلَيْلٍ  ِمنْ ِقَبلِ جهاتٍ لها مآرِب، حيثُ نَبَتَ في تُرْبةٍ وصفتْها الآية ُ الكريمة (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم 41]، ويمارسُ هذا القائدُ حكم الطغيان مِنْ خلالِ مؤسساتِ الدولةِ القمعيةِ والصحفيينَ والكتّابِ والشعراءِ والمُغنِّينَ والرّاقصينَ ووسائلِ الإعلامِ التي تمجّدُ مِنَ الفجرِ إلى غَسَقِ الّليلِ السيّدَ الرّئيسَ المحفوفَ بالعنايةِ الإلهيّة, كما أنّ هؤلاءِ يتَولّوْنَ تفسيرَ نصوصِ وخطاباتِ هذا الطاغيةِ، ويخصّونَ خطاباتِ السيِّدِ الرئيسِ بتفسيراتٍ وتوضيحاتٍ لا يخصّونَ بها كتابَ اللهِ المُنَزّل, و تصبحُ هذهِ الوسائلُ في خدمةِ السيّدِ الرئيسِ وتخصُّهُ بكلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ حتى ظهرَ الفسادُ في البرِّ والبحرِ بما كسبتْ أيدي الحُكّام.

وقدْ كُنّا نسمعُ عنِ الحُكّامِ الذينَ يجمعُهُمْ حُبُّ السِّيادةِ والخوفُ والجبنُ والتَّمنِّي والطمعُ الكثيرُ عنْ سرِّ قُوّةِ وسطوةِ الحاكمِ في العالمِ الإسلامي, وقدرتهِ على إخضاعِ الجميعِ لجبروتهِ، غيرَ أنّنا نتساءلُ وتساءلَ مُعظمُ النّاسِ في أحداثِ غزَّةَ: أينَ الحكّامُ؟ وأينَ القادة؟ ولمْ يُجِب أحدٌ، فدعا النّاسُ عليهم وشنّعوا على حُكمِهِمْ وعلى مَنْ يُساندُهُمْ، ولمْ يُجِبْ أحدٌ…  تُرى لماذا؟؟ أليسوا قادةً ويملكونَ الجيوشَ والقوّة؟ أليسوا زُعماءَ لهُمْ حرسٌ وجنودٌ؟؟ فكيفَ أتى هؤلاءِ الحُكّامِ إلى الحُكمِ ومَنْ صَنَعَهُمْ؟ وهلْ يملكِونَ صفاتِ القادةِ؟ ألا توجدُ عندهُمْ حَميِّةٌ وغيرةٌ؟ أليسوا أهلاً للحكم؟ فكيفَ تُصنَعُ القادةُ؟ أسئلة ٌ كثيرةٌ طُرِحَتْ فكانَ لابدَّ مِنَ الرُّجوعِ للوراءِ لمعرفةِ كيفَ صارَ لنا قادةٌ يحكمونَنا.

منذُ هَدْمِ الخلافةِ العثمانيةِ وبعدَ أنْ كانَ للمسلمين قائدٌ واحدٌ أصبحَ لنا سبعٌ وخمسون  قائداً غَيرَ المساعدينَ وقادةِ الجيوش، وقدْ تمَّ صُنْعُ  هؤلاءِ على عَيْنٍ بَصيرةٍ ووصلوا إلى الحكمِ بعدةِ طُرُقٍ سِفاحيَّةٍ مُلتويَةٍ، ولكلِّ واحدٍ قصَّتُه في الوصولِ إلى الحُكم، فقدْ وصلَ البعضُ مِنهُمْ عَنْ طريق ِ الاستعمارِ، فتمَّ تعيينُ عميلٍ لهُ قبلَ خُروجهِ بزرعِ صفةِ القيادةِ في أحدِهِمْ لتُصبحَ سُلالتُهُ العتيدةُ قياداتٍ تملِكُ كلَّ أمورِ الدَّوْلةِ، ويُحاولُ أنْ يشتريَ الذِّمَمَ والنُّفوسَ بالمالِ وبآبارِ النّفطِ لِتَستَمِرَّ سُلالَتُهُ في الحكم.

وقدْ وصلَ بعضُهُمْ عنْ طريقِ الانقلاباتِ على سابقيهِمْ وأصبحوا قادةَ الثورة، وقدْ اغتصبوا السلطةَ مِنْ أصحابِها وجلسوا على كراسيِّ الحكمِ أوْ عروشِ الحُكّامِ قبلَهُمْ وقدْ نجَّدَتْها لهُمْ أميركا أوْ أوروبا، ثمَّ يضعُ هذا الحاكمُ العربيُّ الانقلابيُّ دستوراً ويدعو مَنْ ضحكَ عليهِمْ إلى الموافقةِ عليهِ ليقولَ بعدَ ذلك للنّاسِ إنَّ انقلابَهُ العسكريَّ صارَ شرعيّاً بموجبِ المُوافقةِ الشعبيةِ على الدُّستورِ المُغلّفِ بزيِّ العسكرِ، ولا يتركُ الحكمَ حتى خروجِ روحه، ومِنهمْ ومنذُ أنْ حقَّقَّت بعضُ الشُّعوبِ فِعْلَ الاستقلالِ المزعومِ الّذي كلّفَ سَيْلاً جارِفاً مِنْ دِماءِ الشُّهداءِ والمُجاهدينَ والأحرارِ؛ قفزَ الحاكِمُ المغوارُ على سُدَّةِ الحكمِ في حالةِ غفلةٍ مِنَ الأُمَّةِ، وبقيَ متمسِّكّاً بكرسيّ الحكمِ لا يغادِرُهُ ولا يرضى عنْهُ بديلاً لهُ ولأبنائِه. وآخرون قد تعاونَ أجدادُهم معَ الاستعمارِ في هَدْمِ دولةِ الخلافةِ العثمانية، فتَمَّت مكافأتُهُمْ على خِيانَتِهِمْ لأمَّتِهِمْ وتسليمُهُمُ الحكمَ؛ وجعلوهُ ملكيّاً ليَبْقى في سُلالةٍ مُعَيَّنةٍ، وهُمْ كَمَلِكاتِ النّحلِ يتجنَّدُ الجميعُ لخدمتهِا، لأنَّ الصفاتِ القياديةَ تنتقلُ إليهمْ بطريقةٍ بيولوجيةٍ جينيةٍ فيرِثُ الحكمَ ومَنْ شابهَ أباهُ فما ظلم!

وطريقة ٌ أخرى يصلُ فيها الحاكمُ إلى الحكمِ اختلاساً، لأنَّهُ ضابطٌ  كبيرٌ يتعاونُ معَ القوى الغربيةِ الاستعماريَّةِ، يتعرّى ويكشِفُ عَنْ عورتِهِ لهُمْ حتى تسمحَ لهُ أنْ يقضي نحبَهُ على كرسيِّ عرشِهِ ولا يُعَيِّنُ لهُ نائباً, فالمُهِمُّ أنْ يموتَ وهوَ حاكمٌ، وأن يُسَلِّمَ الرايةَ لابنهِ حتى يواصلَ مسلسلَ الخيانةِ والضَّحِكَ على الأمة.

وحاكمٌ آخرُ يُقْسِمُ أغلظَ الأيْمانِ أنْ لا يترَشَّحَ لأنَّهُ شبِعَ مِنَ الحكمِ (من باب الضّحكِ على النّاسِ والجماهير)، فيصدِّقُّهُ مَنْ لا يفقهونَ السِّياسةَ، وفجأةً يُصَرَّحُ بعدَ كَشْفِ ما حوْلَهُ مِنْ قوىً ويقولُ: سأظلُّ في الحكمِ مِنْ أجلِ مصلحةِ الأمةِ الَّتي قدْ أذاقَها الويلات. وبعضُهُمْ كانَ مُجَرّدَ ضابطٍ في المؤسسّةِ العسكريَّةِ ثُمّ ترَقَّى إلى أنْ أصبحَ نائباً للرئيسِ؛ فقدْ اطّلَعَ على تقاريرِِ المخابراتِ العسكريَّةِ والتي فيها كلُّ شاردةٍ وواردةٍ بما في ذلكَ معلوماتٍ تُدينُ كبارَ المسؤولين، فهدَّدَّهُمْ وفاوضهُمْ فأصبحَ قائداً ملهَماً، وفرضَ حالةَ الطوارئ، وباسمِ حالةِ الطوارئ اختفى آلافِ الأشخاصِ وقُتِلَ آلافُ الأبرياءِ  وانتُهِكَتْ حرمةُ آلافِ العائلات.

وقدْ وصلَ بعضُهُمْ بإجراءِ انتخاباتٍ صوريةٍ أْو جيءَ بهِ كمُنقذٍ بعدَ إعدادِهِ في الدّولِ الغربيةِ، فقدْ حسُنَتْ أخلاقُهُ في فترةِ الانتخابات، ثمَّ تمَّ تزويرُ الانتخاباتِ لإنجاحه، وعندما تنتهي مدّةُ حكمهِ يغَيِّرُ الدستورَ ليبقى لفترةٍ أُخرى أو لوليِّ عهدِهِ أوْ ابنِه.

هكذا وصلَ حكامُ المسلمينَ إلى سدّةِ الحكمِ مخالفينَ كلَّ الأنظمةِ والقوانينَ؛ وبأساليبَ ملتويةٍ تقومُ على إراقةِ الدِّماءِ والّلفِ والدَّورانِ والخيانة، وقدْ أتقنَ حكامُّنا بالفعلِ دورَ الدّجالِ الذي كذَبَ ونجحَ في الضَّحِكِ على الملايين، والعجيبُ أنَّ بعضَ الذينَ يضحكُ عليهم، ورغمَ أنَّهُمْ قدْ أدركوا طبيعةَ الدَّورِِ الخيانيِّ في سنواتِ حكمهِ إلاّ أنَّهُمْ يُصفِّقونَ له ويغنّون ويرقصونَ و يطَبّلونَ، و ينْظُمونً شعراً لهذا الخائنِ ويمدحون.

وعلى هذا فإنَّ معظمَ القادةِ في العالمِ الإسلاميِّ قدْ أُنتِجوا مِنْ قِبَلِ مؤسساتٍ أجنبيّةٍ رضيتْ عنهُمْ، ويسيطرُ عليها مفكرونَ وخبراءُ تبحثُ النفسِّياتِ والعقليّاتِ لتعيينِ الحاكمِ بواسطةِ مجسّاتِهِمْ لذلكَ وهُمُ السفاراتُ ومعاهدُ اللغةِ والاستثماراتُ الأجنبيَّةُ والأحزاب، فيُصنَعُ الحاكمُ في وقتِنا الحالي على عينٍ بصيرةٍ مِنْ هؤلاءِ جميعاً، ويجبُ أنْ يتّصفَ بصفاتٍ معيَّنةٍ مثلَ الانضمامِ للمؤسسةِ العسكريةِ أوْ الأجهزةِ الأمنيَّةِ في الدولة،وأنْ لا يكونَ عندَهُ أدنى ارتباطٍ بالدّين، أو يكونُ جاسوساً وخبيراً في التَّعذيبِ والقتل؛ وفي النَّهبِ والسرقة،  ولا يفكِّرُ في النَّاسِ والجماهير، وله خبرةٌ بالانقلاباتِ، كلُّ هذا ليكونَ مستعدّاً لعملِ أيِّ شيءٍ يُطلَبُ منه.

والمُدقِّقُ يجدُ أنَّ كلَّ أنظمةِ الحُكمِ في العالمِ العربيِّ الإسلاميِّ جُزءٌ لا يتجزأُ مِنْ الحربِ على الأمة, فكُلُّ مَنْ يطلبُ منها الخيرَ أو يطلبُ منها النّصرَ فكأنّما يطلبُ الخيرَ والنّصرَ مِنَ العدو؛ أو يطلبُ النَّصرَ مِنَ الكيانِ اليهوديِّ أو مِنْ أميركا.

هكذا تمَّ صُنْعُ حكامِ المسلمينَ في وقتِنا الحالي، ولا تجدُ حاكماً منهمْ قدْ وصلَ إلى الحكمِ بدعمٍ مِنَ الأمّة، ويندُرُ أنْ يقرأ المرءُ مادةً علميةً حولَ صناعةِ الزُّعماءِ بسببِ رغَباتِ الدّولِ الصانعةِ والزّعماءِ المصنوعين. وكأنّها صناعةٌ سريةٌ للغاية، ولا يُسمَحُ لها بأنْ تكونَ بين دفّاتِ الكتبِ أو على صفَحَاتِ الجرائد.

وإليكُمْ هذه القصةَ التي لها صلةٌ وثيقةٌ بما يحدثُ في واقعِنا المعاصر؛ ذكرها الأستاذُ “محمود شاكر”، صاحبُ “موسوعةُ التاريخِ الإسلامي”، في كتابهِ “المغالطات” فيقول: (عندما احتلَّ البرتغاليّون “عدن”، عامَ 919 هـ رفضَ أهلُ هذا البلدِ الاحتلال، وقاوموهُ بما َيملِكون، ولكن استطاعَ البرتغاليّونَ أنْ يقهروا السكّانَ بما يحوزونَ مِنْ أسلحةٍ ناريةٍ حديثة، واضطُرَّ القسمُ الأكبرُ مِنَ العَدَنيينَ إلى تَرْكِ موطنِهِمْ والّلجوءِ إلى الأراضي المجاورة؛ حيث عُرِفوا هناك باسمِ “اللاجئون”، وأُجْبِرَ القسمُ الأكبرُ مِنَ العدنيينَ على الخنوعِ والبقاءِ في ديارهِمْ تحتَ عصا الذُّلِّ وسيفِ الإرهاب، وحَرصَتِ الدُّولُ المجاورةُ كمصرَ التي يحكُمُها المماليك أنْ تُقاتِلَ البرتغاليينَ ولكنَّها هُزِمَت. ونجحتِ البرتغالُ في أنْ تمُدَّ قنواتٍ بينَها وبينَ بعضِ القادةِ والزعماءِ في محيطهِم؛ عن طريقِ المالِ والمصالحِ والسِّلاح، وكان التعاونُ بينهُمْ في سريةٍ بعيداً عنْ أعيُنِ السُّكان؛ حيثُ كانَ النَّاسُ يرفضونَ هذا التّعاونَ رفضاً تاماً، فأظهرَ القادةُ والزعماءُ أنّهمْ يعادونَ البرتغالَ وهم يلقََوْنهُمْ سرّاً ويجتمعونَ معهمْ. وقد كانَ البرتغاليون أنفسُهُم -مْنْ بابِ المغالطةِ- يهاجمونَ هذهِ الدولَ علناً؛ حتى يُلبِسوا على النّاس أمرَهَم، ولَمْ يجرؤ أحدٌ على الدعوةِ إلى الرضا بالأمرِ الواقعِ أو الدعوةِ إلى السلام. وقد كانَ المخطّطُ الصليبيُّ يقضي بأنْ يتقدّمَ كلُّ حاكمٍ خُطوة، ولكنْ طالتِ المدةُ وزادتْ على خمسةَ عشَرَ عاماً. وهنا برزت فكرةٌ جديدةٌ؛ وهيَ أنْ يتولّى حل المشكلةِ أحد أبناءِ عدَن، ولاسيَّما مِنَ الذينَ يعيشونَ خارجَ مدينةِ عدَن؛ ليكونَ بعيداً عنِ البرتغاليين ولِتكونَ لهُ الحرية، فوقعَ الاختيارُ على شابٍّ لمْ يتجاوز الثّلاثينَ مِنَ العمرِ يُدعى “عبد الرؤوف أفندي”، فعَرضَ عليهِ أحدُ السّلاطينِ العملاءِ أنْ يختارَ معهُ شباباً يثقُ بهم؛ ليقوموا بتأسيسِ منظَّمةٍ تعملُ على طردِ البرتغاليّين المغتَصِبين، وتقومُ السّلطاتُ بدعمِ هذه المنظمةِ ومدّها بما تحتاجُ إليه. وتعَهَّدَ القادةُ والزعماءُ بحمايتِها ومدِّ يدِ العوْنِ لها؛ ودعوةِ أعوانِهِمْ للانضمامِ إليها، ووُعِدَ “عبد الرؤوف” بأنَّهُ سيكونُ لهُ شأنٌ كبيرٌ وإمكاناتٌ ماديةٌ عالية، هذا بجانبِ السّلطةِ العسكريّةِ وإصدارِ الأوامر، وافقَ “عبد الرؤوف” وحَلَّتْ منظمَّتُهُ مَحلَّ حركةِ مُفتي عدن، واشترطوا عليهِ ألاّ يخرجَ عنْ رأيِ القادةِ والزُّعماءِ المحليينَ وهكذا كان. فبدأَ “عبد الرؤوف” الُّلعبة، وأصبحَ اسمُهُ “ياسين”، وادّعى النّسبَ الحُسيني، وأسّسَ مُنظمَتَه، وأنشأ فصائلَ للقتال، وانخرطََ في صفوفِها كثيرٌ مِنَ العدنيين المُشَرَّدين، وبدأتْ تخوضُ المعارك، وتدخلُ إلى الأرضِ المُحتلَّةِ وتقومُ ببعضِ العمليَّاتِ النّاجِحة، فارتفعتْ أسهُمُه، وأصبحَ في مصافِّ القادةِ ورُوّادِ الأملِ في العودةِ لدى المُشَرّدين.

نادى “ياسين” بحملِ السّلاحِ بوصفهِ الحلَّ الوحيدَ لإنهاءِ المشكلةِ واللغةَ الوحيدةَ التي يفهمُها العدوّ، وصارَ لا يَقبَلُ المهادنةَ ولا المُساومة، وبالمقابلِ شنَّ عليهِ الأعداءُ حملةً شعواءَ واتّهموهُ ومنظَّمَتَهُ بالتّخريبِ، وتدفَّقتْ عليهِ أموالُ التبرُّعاتِ والمعونات، وأصبحَ على مستوى القادةِ والزعماءِ المحلّيين. وشنَّ البرتغاليّون غاراتٍ على مخيماتٍ للاجئين، وقاموا بعددٍ مِنَ المذابحِ الرّهيبة؛ وذلكَ لتبدأَ مرحلةٌ جديدةٌ مِنَ الصِّراع. وضغطتِ الدولُ الأوروبيةُ على السلاطينِ لإنهاءِ المشكلة، فعقدوا اجتماعاً وقرَّروا الاعترافَ بالوضعِ البرتغاليِّ في عدن؛ على أنْ يتولّى إعلانَ ذلكَ الزّعيمَ العدنيَّ “ياسين”. وانتفضَ العدنيّونَ المقيمونَ في موطِنِهِم؛ ممّا دعا الأوروبِّيين إلى عقدِ مؤتمرٍ عالميِّ لإحلالِ السّلامِ في المنطقةِ وإنهاءِ المشكلة. أنيطَتِ القضيةُ بالزعيمِ “ياسين” الذي أعلَنَ أنّهُ مستعدٌّ لحضورِ المؤتمرِ العالميّ، وأنّهُ يتحدّى البرتغالَ أنْ تحضُر! -وهِيَ التي تتمنّاه- فتمنَّعتْ تَمَنُّعَ الرّاغبِ لإتمامِ الّلعبةِ وإخفائِها عنِ الشّعب، وتقويةِ موقفِ “ياسين” وإبرازِهِ على أنّهُ هو الذي يدعو وهيَ التي ترفض؛ أي أنَّ الممتَنِعَ هوَ الموافق والرّاضي هو الرّافض! وفي خطوةٍ جريئةٍ أعلنَ أحدُ السلاطينِ أنّهُ تخلّى عنْ عدن، وأنّ أهلَها أحرارٌ يحُلّونَ أمورَهُمْ بأنفسِهِم! -وهو الذي كانَ يَعُدُّ عدنَ جزءاً مِنْ أرضِه- فأصبحتْ عدنُ وحدَها أمامَ البرتغاليين. وعلى إثر ذلكَ أعلنَ “ياسين” أنّ لأهلِ عدَنَ حكومةً خاصة، وأنّهُ على استعدادٍ للاعترافِ بالكيانِ البرتغالي، وبذلكَ أصبحتْ هناكَ حكومتانِ؛ إحداهُما لأهلِ عدنَ المشرّدين، والأخرى للبرتغاليينَ ولهُمُ الجزءُ الأكبرُ مِنْ عدن! واستمرَّ هذا الوضعُ حتى جاءَ العثمانيّونَ عامَ 945هـ وطَردوا البرتغاليينَ مِنَ المنطقة.

وقفَ أهلُ عدَنَ بعدَها يفكِّرونَ بالدّورِ الذي مارسَهُ “ياسين” عليهِمْ؛ مِنْهُمْ مَنْ قال: بقيَ “ياسين” يخدعُنا حتى وصلَ بنا إلى ما كنّا نخشاه، ووافقَ على كلِّ هذهِ الحلولِ التي كُنّا نرفُضُها، ومنهم مَنْ قال: أعطيناهُ القيادةَ ليبيعَ قضِيَّتنا، ليبيع أرضنا، ليبيعنا. بعدَها بدأوا يبحثونَ عنْ أصلِهِ ولكنْ… فاتَ الأوان.

ومِنْ هذهِ القصةِ يتبيَّنُ أنَّ بُعْدَ المسلمينَ عنْ دينِهِمُ الذي هوَ مصدَرُ قوَّتِهِمْ وعزَّتِهِمْ يُمَكِّنُ أعداءَهُم مِنْهُم؛ ويُصيبهُمُ بالضَّعْفُ والوَهنُ، ما يؤدّي إلى تشَتُّتِهِمْ في البلادِ لاجِئين، ويتبيَّن لنا أنَّ  حكّامَ المسلمينَ الذين هم إمَّا صنيعةُ الأعداءِ أو عملاءُ مُخلِصونَ لأسيادِهِم؛ بسببِ عُبوديَّتِهِمْ للمالِ والسُّلطةِ والمصلحة، لا يهُمُّهُمْ مصلحةَ بلادِهِم ولا حمايةَ ديارِ المسلمين، فَالمُهِمُّ عندَهُمْ هو كراسِيُّهُمْ وعروشهُمْ حتّى لوْ تعاونوا معَ أعدائِهِم. ويتبيَّنُ أنَّ الزعماءَ والحكّامَ والأكابرَ العملاءَ لا يُمكِنُ أنْ يتحكَّموا في رقابِ النّاسِ إلاّ بخداعِهِمْ وغشهم ، وتضليلِ النّاسِ عنْ طريقِ وسائلِ إعلامهِمْ في كلِّ عصر.

وهذهِ القِصَّةُ توضحُ بجلاءٍ كيفيةَ صناعةِ الزُّعماء، وهذا دَيْدَنُ أعداءِ الإسلامِ في كلِّ زمان، فهُمْ يختارونَ شخصيَّةً نفعيَّةً لا تُحِبُّ إلاّ مصلحَتَها وتعشقُ السُّلطةَ والمال، ثمَّ يحاولونَ صناعتَهُ عَنْ طريقِ إبرازِ دَوْرِهِ وتضخيمِ أعمالِه، فيحدثُ التَّلميعُ لهذهِ الشَّخصيّاتِ حتّى تصبحََ زعامات، وهذا هوَ الدَّورُ الخطيرُ الّذي تُمارِسُهُ وسائلُ الإعلام، وهكذا تمَّتْ صناعةُ “ياسين” في اليمنِ وغيرِهِ مِنْ أمثالِ مصطفى كمال و(الشَّريفِ) حسين وسعدِ زغلولَ وجمالِ عبدِ النّاصر وياسر عرفات…قبَّحَهُمُ الله، مِمَّنْ تحَكّموا ويتحكَّمونَ في رقابِ المسلمين، حقّاً… ما أشبهَ الليلةَ بالبارِحة.

لقدْ أصبحَ طبيعيّاً أنْ تسمعَ أنَّ هذا الحاكمَ العربيَّ قدْ سرقَ أقواتَ الفقراءِ وأودعَها في حسابٍ خاصِّ لهُ  في البنوكِ الغربيةِ، وأنْ تسمعَ أنَّ هذا الحاكمَ وزّعَ ثرواتِ البلادِ بيْنَ أولادهِ وأقاربِه, وأصبحَ عاديّاً أنْ تسمعَ أنَّ هذا القائدَ أو الضّابطَ قد استولى على ملكِ الدولةِ واشتراهُ بأبخسِِ الأثمان، وقدْ أصبحَ طبيعيّاً أنْ تسمعَ أنَّ هذا الحاكمَ كلّفَ ابنَهُ بإدارةِ ثروةٍ قُوامُها مئات ملايينُ الدولارات، وأنَّ كلَّ مفاتيحِ السّوقِ استيراداً وتصديراً هيَ بيدِ ابنِ الحاكمِ هذا، وباتَ عاديّاً أنْ نسمعَ أنَّ مديرَ المخابراتِ والعسكرِ والمستشارينَ والكبراءَ السياسيينَ في هذهِ الدّولةِ وتلكَ قد اختلسَ ملايينَ الدولاراتِ؛ وكانَ يستغِلُّ نفوذَهُ لابتزازِ صغارِ التُجّارِ وفرضِ نظامِ الفتوّة عليِهِم, وباتَ مألوفاً أنْ نسمعَ أنّ زوجةَ هذا الرئيسِ أوْ ذاكَ لها نفسُ صلاحيةِ زوجِها الرئيسِ في مستحقّاتِ الصّرفِ الرِّئاسيّ, وباتَ مألوفاً أنْ نسمعَ أنَّ زوجاتِ الكبارِ في العالمِ العربيِّ يتوجّهْنَ صباحاً إلى عواصمِ الموضةِ العالميّةِ والعطورِ الفوّاحةِ ليتبضّعنَ بما غلا ثمَنُهُ وخفَّ وزْنُهُ ويعُدْنَ عصراً بالفواتيرِ الضَّخْمَةِ فتدفَعُها الدولةُ باعتبارِ أنَّ هذه الرحلاتِ تدخًلُ في سياقِ مُهمّاتٍ خاصةٍ لصالحِ الدولة. وباتَ مألوفاً أنْ يُقيمَ هذا الأميرُ أوْ الحاكمُ العربيُّ حفلاً بمناسبةِ عيدِ ميلادِ ابنهِ يدعو إليهِ فِرَقاً عالميّةً بملايينِ الدّولاراتِ؛ وبعدَ ذلكَ يُعلِنُ عنْ خطّةِ تقشّفٍ باعتبارِ أنَّ ميزانيةَ الدولةِ لا تكفي هذهِ السَّنة, بل باتِ مألوفاُ أنْ يقومَ ابنُ هذا الحاكمِ بِاصطحابِ الغواني إلى القصرِ بحُجّةِ أنّهُنَّ خادماتٌ ضروريّاتٌ ليستمرّ وليُّ العهدِ في أداءِ مَهامِّهِ بأرْيَحِيّة. ولقدْ باتَ مألوفاً أنْ يعلنَ رجالاتٌ في الدولةِ عنْ بيعِ ممتلكاتِ الدّولةِ ويقومَ الوزراءُ والكبراءُ بشراءِ هذه الممتلكاتِ بأبخسِ الأثمانِ بحُجَّةِ الخصخصةِ ثمّ يقومونَ ببيعِها ثانيةً بمئات ملايينِ الدولارات، وباتَ مألوفاً أيضاً أنْ يُصدِرَ الحاكمُ العربيُّ أوامرَهُ إلى المشرفينَ على هذا التِّلفزيونِ أو ذاك بالإكثارِ مِنْ جرعاتِ الميوعةِ والقبلاتِ والغرامِ لأنّ ذلكَ ضروريٌّ لإخراجِ الأمّةِ مِنْ واقعِ التَّزَمُّتِ والمُحافظة, وأصبحَ مألوفاُ أنْ يقومَ بعضُ الكبارِ ببيعِ ملفاتٍ أمنيةٍ خطيرةٍ لبعضِ السفاراتِ الغربيةِ في بلادِنا  بحُجَّةِ الحربِ على الإرهاب.

ثمَّ هلْ تساءلَ النّاسُ عنِ الثّرَواتِ والعقاراتِ والأموالِ المنقولةِ والعابرةِ للقاراتِ التّي يملكُها حاكمُهُم , ومِنْ أينَ جاءَ هذا الحاكمُ الذي لمْ يكُنْ سوى شخصٍ فقيرٍ ترَبّى في حضنِ الاستخباراتِ العسكريةِ أو الثكناتِ العسكريّةِ أو في أحضانِ المؤسساتِ الأجنبيّةِ، فقدْ أصبحُ النّفطُ برُمَّتِهِ ملكاً لهذا الأميرِ وذاكَ يوَزِّعُهُ على أولادهِ وأحفادِه , ويكفي أنْ ينتميَ هذا الطفلُ أو ذاكَ إلى هذه العائلةِ أو أنْ يكونَ مِنَ المُقَرّبينَ ليحظى براتبٍ تصاعديٍّ مِنَ المهدِ وإلى اللحد. فإلى متى سيبقى هؤلاءِ يَتسلّطونَ على رقابِ الأمّةِ وثرواتِها؟!

وباستقراءِ الواقعِ الموجودِ في وقتِنا الحاضرِ نلاحظُ أنَّ الأمةَ منفصلةٌ انفصالاً تاماً عنْ حكّامِها وقادتِها، وأنَّ العلاقةَ بينَ جمهرةِ النّاسِ والحكامِ علاقةُ فئتينِ متباينَتَيْن لا علاقةُ رعيّةٍ ودولة، وفضلاً عنْ ذلكَ فهيَ علاقةُ كرهٍ وتضادٍّ وتناقض، وليسَ فيها أيُّ تقاربٍ ولا ما يُشْعِرُ بإمكانيّةِ التّقارُب. وهذا مِنْ شأنهِ أنْ يؤدّي إلى إضعافِ الدّولةِ وإضعافِ كيانِ الأمّة، لأنَّ الرّعيةَ بدونِ وجودِ راعٍ لها تكونُ واهيةَ البنيان، والدولةُ بدونِ رعيّةٍ تقفُ صفّاً واحداً خلفَها تكونُ واهيةَ الوجودِ، ويمكنُ إزالتُها أو فرضُ الشّروطِ عليها، وتكونُ عرضةً للاستعانةِ بأعدائِها.

إنّ الانفصالَ بينَ الأمّةِ والدّولةِ كان طبيعيّاً واجباً عندما كانت الدولُ الكافرةُ تحكمُ البلادَ مباشرةً يومَ كانَ الاحتلالُ العسكريُّ والانتدابُ هوَ المطبَّقُ على البلاد، ولكنْ بعدَ أنْ أُزيلَ سلطانُ الكافرِ المستعمرِ وأصبحَ حكامُ البلادِ الذينَ يباشرونَ تنفيذَ الحكمِ همْ أبناءُ الأمةِ الإسلاميةِ؛ فإنّهُ لمْ يعُدْ هناك مبرِّر لبقاءِ هذا الانفصال، وكانَ يجبُ أنْ تتحوّلَ العلاقاتُ بينَ جمهرةِ النّاسِ والدّولةِ إلى علاقةِ التحامٍ بينَ الرّاعي والرّعية، غيرَ أنَّ الواقعَ أيْ هذا الانفصالَ بقيَ ولا يزال، وظلَّ الحكّامُ فئةً والأمّةُ فئةً أخرى، وظلّت هذه الفئاتُ تحكُمُها علاقةُ تضادٍّ متبادَلة، فالأمّةُ تنظرُ إلى الحكّامِ بأنّهُمْ أعداؤها كما كانتْ تنظرُ إلى الإنجليز، والحكّامُ ينظرونَ إلى الأمّةِ بأنّها تتآمرُ عليهِمْ وتودُّ أنْ تَفْتِكَ بهِم، وأنّها عدوةٌ لهُم، فهُمْ يكيدونَ لها وهِيَ تكيدُ لهُمْ، وهذا ما جعلَ الأمّةَ في حالةِ يأسٍ مِنْ أنْ تتقدَّمَ نحو النّهضةِ والعزّة. وقدْ حذَّرَنا رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم فقال “إِنَّهُ سَيَكُونُ أُمَرَاءُ يُحَدِّثُونَ، فَيَكْذِبُونَ، وَيَعْمَلُونَ، فَيَعْلَمُونَ، فَمَنْ أَتَاهُمْ فَصَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ، وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَلَيْسُ مِنِّي، وَلَسْتُ مِنْهُ، وَلَيْسَ بِوَارِدٍ عَلَى الْحَوْضِ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِهِمْ وَلَمْ يُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ، وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَهُوَ مِنِّي، وَأَنَا مِنْهُ، وَهُوَ وَارِدٌ عَلَي الْحَوْضِ(رواه أحمد).

إنَّ الْمُتَدَبِّرَ لأحوالِ الحكّامِ في بلادِ المسلمينَ يجدُهُمْ قدْ تركوا كتابَ اللهِ سبحانَه وسنَّةَ رسولِهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) وراءَ ظهورِهِمْ ثمَّ والَوْا الكفّارَ، وهُمْ يعلمونَ عِلْمَ اليقينِ أنَّهُمْ أعداءٌ للهِ ولرسولهِ والمؤمنين، ويُنَفِّذونَ مُؤامراتِهِمْ على البلادِ والعبادِ، فسلّموا المقدّساتِ ليهودَ ومكّنوهُمْ مِنْ إقامةِ كيانٍ لهُمْ على الأرضِ الْمُبارَكَة وبيْنَ ظَهْراني المسلمين، وعطَّلوا الجهادَ وحالوا بينَ المسلمينَ وقتالِ عدُوِّهِم، كما أنّهُمْ وضعوا إمكاناتِهِم بيَدِ الكفّارِ في حربِهِمْ على الإسلامِ والمسلمينَ، وجعلوا بلادَ المسلمينَ مستباحةً للأعداءِ برّاً وبحراً وجوّاً، في الوقتِ الذي يحتَلُّ الكفّارُ بلادَ المسلمينَ ويُعلِنونَ الحربَ عليهِمْ في فلسطينَ والعراقَ والشيشانَ وكشميرَ وأفغانستان. فنحنُ الآنَ أمّةً فاقدةً لإرادتِها ووزنِها بسببِ هذهِ الأنظمةِ وقادتِها العملاءِ؛ الذينَ جعلونا أضحوكةً للأُممِ ومهزلةً للتّاريخِ ومضْرِبَ المثلِ في الذُّلِّ والهوانِ والاستسلام، فتداعتْ علينا الأممُ كما تداعى الأكلةُ على قصعَتِها، فأصبحنا ننتمي لدولٍ لا وزنَ لها ولا قيمةً غثاءً كغُثاءِ السَّيْل.

وفي الوضعِ الطبيعيِّ فإنَّ القيادةَ هيَ عمليةُ تحريكِ النّاسِ نحوَ الهدفِ مِنْ أجلِ  صلاحهمْ، ومنْ هنا نعلمُ أنَّ القائدَ مسؤولٌ عنْ أتباعِه، والقيادةُ تارةً تكونُ فطريةً وأخرى تكونُ مكتَسَبَة، فبعضُ النّاسِ يرزقُهُمُ اللهُ تعالى صفاتٍ قياديةً فطريّة، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) للأَشَجِّ أَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ: «إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ، فقال الأَشَجُّ: يا رَسُولَ اللَّهِ: أَنَا تَخَلَّقْتُ بِهِمَا أم اللهُ جَبَلَني عَلَيْهِما؟ قالَ: بَلِ اللهُ جَبَلَكَ عَلَيْهِما، فَقَالَ: الحَمْدُ لِلّهِ الَّذي جَبَلَني عَلَى خُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا الَلَّهُ وَرَسولُه». فالإسلامُ الدّينُ الحقُّ يَصنَعُ القياداتِ طبيعيّاً نتيجةَ تطبيقهِ على النّاسِ، ولمْ يُعرَف منهجٌ يستطيعُ أنْ يؤهِّلَ الشّخصياتِ ويَصقُلَها ويُرَبِّيها ويُهيِّئَها للقيادةِ على أكملِ وجهٍ كما يفعلُ المنهجَ الإسلاميَّ، إنَّ منهجَ الإسلامِ في تكوينِ الشَّخصيَّةِ الّتي تقودُ العالمَ هو منهجٌ مِنْ عندِ اللهِ سبحانَهُ وتعالى الّذي يعلَمُ طاقاتِ الإنسانِ ويستطيعُ أنْ يستثيرَها ويوجِّهَهَا ويُنَمِّيها نحوَ العدْلِ وتحقيقِ أكرمِ الأهداف، فمن يسمعُ قولَهُ (صلى الله عليه وآله وسلم): «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، قَالَ وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ». فمنْ يسمَع ذلكَ يدركُ تماماً صناعةَ الزُّعماءِ الحقيقيةِ والّتي تنتج، ولهذا أوْلى علماءُ الإسلامِ موضوعَ القيادةِ اهتمامًا كبيرًا، فقدْ قالَ الحسنُ البصرِيُّ في وصفِ الحاكمِ العادل:” إنَّ اللهَ جعلَ الإمامَ العادلَ قُوامَ كلِّ مائلٍ، وقصْدَ كلِّ جائرٍ، وصلاحَ كلِّ فاسدٍ، وقوّةَ كلِّ ضعيفٍ، ونصفةً لكلِّ مظلومٍ، ومفزعَ كلِّ ملهوف. وهوَ القائمُ بينَ اللهِ وبينَ عباده، يَسْمَعُ كلامُ اللهِ ويُسْمِعُهُم، وينظرُ إلى اللهِ ويُريهِم، وينقادُ إلى اللهِ ويقودُهُم، وهوَ كالعبدِ الذي ائتمَنَهُ سيِّدُهُ واستحفظَهُ مالَهُ وعيالَه، وهوَ الّذي لا يحكمُ في عبادِ اللهِ بحكمِ الجاهلِيَّةِ ولا يسلكُ بهِمْ سبيلَ الظّالمين، ولا يُسَلِّطُ الْمُسْتَكبِرينَ على الْمُسْتَضْعَفين، فهو وصيُّ اليتامى وخازنُ المساكين؛ يُرَبِّي صغيرَهُمْ ويُمَوِّنُ كبيرَهُم”. ومِنْ هُنا يتبيّنُ لنا أنّ حكمَ القيادةِ والإمارةِ ملازمٌ للمسلمينِ ومؤثرٌ عليهمْ في كلِّ شؤونِ حياتِهِمْ، ولحرصِ سيدنا عمرَ ابنِ الخطّابِ (رضي الله عنه) على القادةِ أبقى الصحابةَ حَوْلَهُ ومنَعَ بعضَهُمْ مِنَ الخروجِ مِنَ المدينةِ والسَّكنِ خارجَها.

لقدْ حرِصَ الرّسولُ حرصًا شديدًا أنْ يرَبِّيَ أصحابَهُ على القيادةِ والمسؤوليةِ، فقد كانتْ شخصيةُ النبيِّ عليهِ الصلاة والسلامِ قياديّةً نموذجيّةً ناجحةً تجمعُ بيْنَ رضا اللهِ سبحانَهُ وفهمِ النّاسِ وحسنِ القرارِ وإخلاصِ العمل، ولقدْ بيَّنتْ لنا السيرةُ النبويةُ كيفَ كانَ حرصُ قادةِ هذهِ الأمةِ الأوائلِ على اقتفاءِ أثرِ النبيِّ عليه الصلاة والسّلام في قيادتِهِم للبشريةِ في كلِّ حينٍ ووقت، يقولُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَة: «يجبُ أنْ يُعرَفَ أنَّ ولايةَ أمرِ النّاسِ مِنْ أعظمِ واجباتِ الدّين، بلْ لا قيامَ للدّينِ إلاّ بها، فإنَّ بني آدمَ لا تتمُّ مصلحتُهُمْ إلاّ بالعملِ لحاجةِ بعضهِمْ إلى بعض، ولابدَّ لهُمْ عندَ الاجتماعِ وفي المجتمعِ مِنْ رأس». ولا يعني هذا أنَّ كلَّ صحابةِ رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا قادة، فقدْ  قالَ الرّسولُ (صلى الله عليه وآله وسلم) لأبي ذرٍ (رضي الله عنه): «يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةُ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ إِلا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا» رواه مسلم. ولا يعني ذلك أيضاً أنَّ مَنْ يصنَعُهُمُ الإسلامُ قادةً معصومونَ لا يُخطِئون، ولكنَّ امتدادَ رقعةِ أرضِ الإسلامِ واتساعِها ولمدةٍ طويلةٍ يدُلُّ على صلاحِهِمْ ومَنْ حَوْلَهُم.

أمّا بالنّسْبةِ لصناعةِ قادة المستقبلِ فالأحزابُ السياسِيَّةُ المخلصةُ تُعِدُّ الرِّجالَ والقادةَ الآنَ على عَيْنٍ بصيرةٍ مِنَ المخلصينَ لإعدادِهِمْ للمرحلةِ القادمةِ كقياداتٍ على مستوى الأمّةِ الإسلاميَّةِ والعالم، وهمْ موجودون بانتظارِ ساعةِ الصِّفْرِ ليَبْرُزوا ويَتَصدَّروا قيادَةَ العالمِ، فهُمْ رَهْنَ إشارةِ إعلانِ دولةِ الخلافةِ الراشدةِ الثانيةِ قريباً بإذنِ الله.

وأمَّا الغربُ الكافرُ فإنَّهُ يصنعُ قادتَهُ في الآونةِ الأخيرةِ مِنَ الأكاديميينَ والعسكريينَ وأصحابِ رؤوسِ الأموالِ وحمَلَةِ الشّهاداتِ؛ وليسَ القياداتِ الحقيقِيَّة، وغالباً لا يضعُ الرّجلَ المناسبَ في المكانِ المناسبِ  ولذلكَ وقعَ بهِمُ الضَّعفُ السياسيُّ، وانعكسَ ذلكَ على السِّياسةِ العالميَّةِ التي تفتقرُ لسياسيينَ أكفاء.

والأصلُ في القائدِ المخلِصِ أنْ تكونَ أبوابُهُ مفتوحةً لكلِّ مَنْ يُريدُ حاجةً منْهُ أوْ رفعَ قضيَّةٍ  أوْ مظلمةٍ أو يريدُ إسدالَ نُصْح؛ كما كانَ في عهدِ الخلفاءِ في ظلِّ دولةِ الإسلام،  لأنَّ الراعيَ والرّعيّةَ كانوا فئةً واحدةً تعملُ لصالحِ الإسلامِ والمسلمين، غيرَ أنَّ هذا الواقعَ لمْ يستمِرَّ بسببِ هدمِ دولةِ الإسلامِ وغيابِ الراعي المسلمِ وظهورِ دُوَيْلاتٍ عميلةٍ على أنقاضِها؛ تحكمُ بغيرِ ما أنزلَ اللهُ مرتبطةً بالدولِ الغربيةِ الكافرةِ ارتباطاً عضويّا كما يرتبطُ العبدُ بسيِّدِه، ولأنَّ وجودَ الحكّامِ في العالمِ الإسلاميِّ غيرُ طبيعيٍّ، ولخوفهِمْ مِنَ الأمّةِ لاغتصابهِمُ السلطةَ أصبحَ الدُّخولُ عليهم مُقَنَّناً بحاجةٍ إلى أناسٍ مِنْ نوعٍ خاصٍّ ولهُمْ مواصفاتٌ خاصّةٌ  وضعَتْها أجهزةُ المخابرات، فاقتصَرَ الدُّخولُ على فئةٍ معيَّنةٍ تروقُ للحاكمِ وزبانيَتِه.

اللهمَّ هيِّئ لهذهِ الأمَّةِ قائدًا تقيّاً ورِعاً مبدِعاً سياسيّاً ملْهَماً، يفرِضُ نفسَهُ وينقادُ للحقِّ ويقودُ الأمّةَ والعالمَ إلى عزِّ الدُّنيا والآخِرة، في ظلِّ دولةِ العدلِ والخيرِ؛ حتّى يعلو أمْرَ هذا الدّينِ ويظهرُ فوقَ ربوعِ العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *