العدد 277 -

العدد 277 – السنة الرابعة والعشرون، صفر 1431هـ، الموافق شباط 2010م

الرعاية الصحية في الدولة الإسلامية (1)

الرعاية الصحية في الدولة الإسلامية (1)

 

يقولُ اللهُ سبحانه وتعالى في كتابهِ الكريمِ: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا) [الإسراء 82]. ويقولُ (صلى الله عليه وآله وسلم): «إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ»، متفقٌ عليهِ.

لقدْ سيطرتِ الرأسماليةُ على العالمِ رَدْحًا مِنَ الزمانِ، سادتْ خلالَهُ أنظمةٌ قامتْ على فصلِ الدينِ عنِ الحياةِ، وَحَكَمَتْ على امتدادِهِ دولٌ لمْ تقمْ لترعَى شؤونَ الناسِ، فَتَأْخُذَ على يدِ الظالمِ وتزجُرَهُ، وتَجْزِيَ المُحْسِنَ أوْ تُعينَهُ وتشكرَه. دولٌ لمْ ترحمِ الضعفاءَ، ولمْ تأخُذْ بأيدي الفقراءِ، بلْ كانتْ وظيفتُها الوحيدةُ- حمايةَ حرياتِ اللصوصِ من أربابِ المالِ في نهبِ الشعوبِ واستغلالِ الثرواتِ.

هذا ولمْ تَسْلَمِ الرعايةُ الصحيةُ مِنْ جَوْرِ الرأسماليةِ، ولمْ تَنْجُ منْ أنظمتِها وطريقةِ عيشِها، فأضْحَتْ أداةً لرؤوسِ المالِ، يستغلونَها -كما استغلُّوا كلَّ شيءٍ- لمصِّ دماءِ المرضى الضعفاءِ وأموالهِم، ولإشباعِ جَشَعِهِمْ وَنَزَوَاتِهِمُ التي لا تشبعُ. ومنْ فُحشِ الرأسماليةِ، أنْ ظهرَ الفسادُ في كلِّ نَواحي الرعايةِ الصحيةِ تقريبًا: في نظامِ التأمينِ الصحيِّ وشركاتِهِ، وشركاتِ الأدويةِ وأبحاثِها، واستغلالِ هذهِ الشركاتِ للأطباءِ واستغلالِ الأطباءِ للمرضى. وظهرَ الفسادُ كذلكَ في بِدْعَةِ الملكيةِ الفكريةِ وبراءاتِ الاختراعِ، حتى غَلا سعرُ الدواءِ وثمنُ الرعايةِ الصحيةِ وَأَضْحَتِ القضيةُ هيَ تحقيقَ الربحِ على حسابِ حاجةِ المرضى للعلاجِ والرعايةِ. وَكما في كُلِّ مكانٍ دخلتهُ الرأسماليةُ، لا بقاءَ ولا حياةَ للضعيفِ، ولا قيمةَ إلا للمالِ.

لقدْ ضَجَّ الغربُ نفسُهُ بهذا الفسادِ الصحيِّ، مما اضْطُرَّ دولَهُ إلى الترقيعِ على عادتِها، وتوفيرِ بعضِ الرعايةِ الصحيةِ القاصرةِ لمواطِنيها تخديرًا لهمْ وصرفًا عنْ إزالةِ أصلِ الفسادِ. ولكنَّ هذا الترقيعَ كانَ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً. وقدْ جاءتْ تقاريرُ الغربِ نفسِهِ تكشفُ اللثامَ عنْ إفسادِ الرأسماليةِ للصحةِ، ففي مجالِ الصحةِ النفسيةِ والعقليةِ أعلنتْ منظمةُ الصحةِ العالميةِ في عامِ 2005 ميلاديةَ أنَّ قضيةَ الصحةِ الرَّئِيسَةَ في إنجلترا والولاياتِ المتحدةِ وكندا هيَ الأمراضُ العقليةُ والنفسيةُ. وحسبَ إعلانِ المؤسسةِ القوميةِ الأميركيةِ للصحةِ العقليةِ فإنَّ 26% منَ الأميركيين يُصَنَّفُونَ الآنَ كمرضى نفسيينَ!

وأكثرُ هذهِ الأمراضِ النفسيةِ انتشارًا هوَ الاكتئابُ والقلقُ. ففي عالمِ اليومِ 330 مليونَ إنسانٍ مصابٍ بالاكتئابِ!، وَأَشَارَتْ منظمةُ الصحةِ العالميةِ إلى أنَّ 800،000 شخصٍ منْ هؤلاءِ المكتئبينَ ينتحرونَ كلَّ سنةٍ. هذا فضلاً عنِ القلقِ والأمراضِ النفسيةِ الأخرى التي تَصِلُ نسبتُها في بعضِ التقاريرِ -بالإضافةِ إلى الاكتئابِ- إلى حوالى 25% منْ سكانِ العالمِ. وللعلمِ فقطْ فإنَّ نسبةَ الأمراضِ النفسيةِ تتلاءمُ باطرادٍ معَ مقدارِ تطبيقِ الرأسماليةِ كنظامٍ في البلدِ، ومقدارِ إيمانِ الأفرادِ بها كمبدَإٍ، ففي دراسةٍ أخرى لمنظمةِ الصحةِ العالميةِ نشرتْها مجلةُ “فوربس” ظهرَ أنَّ 10% منَ الأميركيين يعانونَ مِنَ الأمراضِ النفسيةِ ومنْها الاكتئابُ على مدارِ السنةِ، مقابلَ أقلَّ منْ 1% في نيجيريا على سبيلِ المثالِ.

أما الصحةُ الجسديةُ فيكفي أنْ نقولَ إِنَّ في الولاياتِ المتحدةِ نفسِها أكثرَ منْ 46 مليونَ مواطنٍ أميركيٍّ بدونِ أيِّ تأمينٍ صحيٍّ، منْ بينهمْ أكثرُ منْ 8 ملايينِ طفلٍ دونَ الثامنةَ عشرةَ سنةٍ. أيْ أنَّ هؤلاءِ لا يتلقونَ مِنَ الدولةِ أيَّ علاجٍ أوْ رعايةٍ صحيةٍ. وكعادةِ الرأسماليةِ فالفئاتُ الضعيفةُ في المجتمعِ لا مكانَ لها ولا حقوقَ سوى الحقِّ في “خدمةِ” الرأسماليينَ. فالسُّودُ في أميركا مثلاً تكثُرُ فيهمُ الأمراضُ بمقدارِ ثلاثةِ أضعافِ البيضِ. وأما مرضُ الإيدزِ الذي أنجبتهُ حضارةُ الرأسماليةِ، فإنَّ السُّودَ همْ ضحيتُهُ الأولى، ونرى أَنَّ منْ بينِ كلِّ عشرةِ ألافِ مواطنٍ أميركيٍّ يموتُ في كل عامٍ 27 منَ الإيدزِ، بينهمْ 3 فقطْ منَ البيضِ والباقونَ منَ السُّودِ. هذا فضلاً عنْ مخلفاتِ الرأسماليةِ الصحيةِ في بلدانِ العالمِ الثالثِ، التي يشيبُ منْ هولِها وبشاعتِها الولدانُ، فقدْ أَشَرْنا فقطْ إلى بعضِ الأرقامِ والفسادِ في البلادِ المتقدمةِ مدنِيًّا.

وإذا شِئْنَا أنْ نقارنَ هذا الفسادَ الصحيَّ الرأسماليَّ الحديثَ في زمنِ التقدمِ المدنيِّ وتطوُّرِ العلومِ الصحيَّةِ، مَعَ الرعايةِ الصحيةِ الإسلاميةِ في القرونِ السابقةِ للثورةِ الصناعيةِ، نجدُ أنَّ الإسلامَ بعقيدتهِ العقليةِ الموافقةِ لفطرةِ الإنسانِ وشريعتهِ التي نَظَّمَتْ ونَسَّقَتْ إشْباعَ جميعَ غرائزِ الإنسانِ وحاجاتِهِ دونَ إِغْفالِ أيٍّ مِنْها أَوْ إِطْلاقِ بَعْضِها على حسابِ بعضٍ، نجدُ أنَّ الإسلامَ حَقَّقَ بهذهِ العقيدةِ والشريعةِ السعادةَ والصحةَ النفسيةَ في نفوسِ مُعْتَنِقِيهِ، قالَ سبحانه وتعالى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [يونس 57]، وقالَ تعالى: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا) [طه 123-124]. وَلا أَدَلَّ على تحقيقِ الإسلامِ الطمأنينةَ في نُفوسِ مُعْتَنِقِيهِ منَ الخنساءِ، التي قُتِلَ أَخُوهَا صَخْرٌ قبلَ إسلامِها فبكتْ عليهِ حُزْنًا وكَمَدًا حتى أُصِيبَتْ بالعَمى وكادتْ أنْ تَقْتُلَ نَفْسَهَا، وهيَ القائلةُ حينئذٍ:

يُذَكِّرُنِي طُلُوعُ الشَّمْسِ صَخْراً                 وَأَذْكُرُهُ لِكُلِّ غُرُوبِ شَمْسِ

وَلَوْلاَ كَثْرَةُ البَاكِينَ حَوْلِي    عَلَى إِخْوَانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِي

ولكنَّها بعدَ أنْ هَدَاهَا اللهُ وحملتْ مفاهيمَ الإسلامِ، وخرجتْ مُجاهدةً وأبناءَها الأربعةَ في القادسيةِ، لمْ تَزِدْ أنْ قالتْ بعدَ استشهادِهِمْ: “الحمدُ للهِ الذي شرَّفَنِي بِقَتْلِهِمْ، وأرجُو منْ رَبِّي أنْ يَجْمَعَنِي بهمْ في مُستقرِ رحمتِهِ”، رَوَى ذلِكَ ابنُ حجرٍ في الإصابَةِ.

وَعلى صعيدِ الرعايةِ الصحيةِ الجسديةِ فقدْ طَبَّقَ الخلفاءُ الأحكامَ المتعلقةَ بها على نحوٍ نفتقدُهُ اليومَ رَغْمَ ما وصلَ إليهِ العالمُ منْ تَقَدُّمٍ مَدَنِيٍّ وَتَطَوُّرٍ عِلْمِيٍّ، وقدْ شهدَ الغربيونَ أنفسهمْ بذلكَ، فَالمسيو جومارُ (Gomar) أَحَدُ علماءِ حملةِ نابليونَ كَتَبَ واصفًا أحدَ البيمارستناتِ (المستشفياتِ) التي بُنيتْ قبلَ ستةِ قرونٍ منْ حملتِهِ على مصرَ:

“وكانَ يَدْخُلُهُ (أيِ البيمارستانُ) كلُّ المرضى، فقراءَ وأغنياءَ، بدونِ تمييزٍ، وكانَ يُجْلَبُ إليهِ الأطباءُ منْ مختلفِ جهاتِ الشرقِ وَيُجْزَلُ لهمُ العطاءُ، وكانتْ لهُ خزانةُ شرابٍ وصيدليةٌ مُجَهَّزَةٌ بالأَدويةِ والأَدواتِ. ويُقالُ إنَّ كلَّ مريضٍ كانتْ نفقاتُهُ دينارًا، وكانَ لهُ شخصانِ يقومانِ بخدمتِهِ، وكانَ المُؤَرَّقُونَ منَ المرضى (أيِ المرضى النفسيينَ) يُعْزَلُونَ في قاعةٍ منفردةٍ يُشَنِّفُونَ فِيهَا آذانهمْ بسماعِ ألحانِ الموسيقى الشجيةِ أوْ يتسلونَ بسماعِ الحكايَا يُلْقِيهَا عليهمُ الحَكَوَاتِيُّ. وكانَ المرضى الذينَ يستعيدونَ صحتهمْ ويتماثلونَ للشفاءِ يُعْزَلونَ عَنْ باقي المرضى في فترةِ نقاهةٍ. وكانَ يُعطى لكلِّ مريضٍ حينَ خروجِهِ منَ البيمارستانِ خمسُ قطعٍ منَ الذهبِ، حتى لا يُضْطَّرَ إلى الالتجاءِ إلى العملِ الشَّاقِّ في الحالِ.” وَقالَ بريسُ دافِن (Prisse D’Avennes) المستشرقُ الفرنسيُّ واصفًا نفسَ البيمارِسْتَانِ: “كانتْ قاعاتُ المرضى تُدَفَّأُ بإحراقِ البخورِ أوْ تُبَرَّدُ بالمراوحِ الكبيرةِ الممتدةِ منْ طرفِ القاعةِ إلى الطرفِ الثاني، وكانتْ أرضُ القاعاتِ تُغَطَّى بأغصانِ شجرِ الحناءِ، أوْ شجرِ الرُّمانِ، أوْ بفَسَائِلِ الشُّجَيْرَاتِ العطريَّةِ”، انْتَهَى كلامُ المُسْتَشْرِقِ.

واليومَ، بعدَ انهيارِ الرأسماليةِ اقتصاديًّا ومنْ قبلُ فكريًّا وأخلاقيًّا، نَسْتَشْرِفُ عهدَ الخلافةِ الثانيةِ على منهاجِ النُّبُوَّةِ القادمةِ قريبًا إنْ شاءَ اللهُ، بخيرٍ عميمٍ للبشريةِ جمعاءَ. لذلكَ كانَ مِنَ الواجِبِ علينا أَنْ نَعْرِضَ أُسُسَ وأهدافَ وبعضَ نواحي الرعايةِ الصحيةِ في هذهِ الدولةِ الإسلاميةِ السائِرَةِ على منهاجِ النبوةِ، مُنْبَثِقَةً أَحْكامُها وَمَبْنِيَةً أفكارُها على أساسِ العقيدةِ الإسلاميةِ، نَتَوَخَّى فيها رعايةَ شؤونِ الرعيةِ والرفقِ بهمْ، امتثالاً لقولِهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): “الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ“، رواهُ أبو داودَ والترمذيُّ وصحَّحَهُ الألبانيُّ، ونستشعرُ منْ خلالِها عِظَمَ دَوْرِ وَمسؤوليةِ وَلِيِّ الأمرِ، إمامِ المسلمينَ، في حِفْظِ صحةِ رعيَّتِهِ والقيامِ على شؤونِهِمْ بما يُصْلِحُها وَيُزيلُ الضَّرَرَ عَنْها، اقتداءً وتَأَسِّيًا بحاكِمِ المسلمينَ الأولِ، سيدنا مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم)، الذي وَصَفَهُ اللهُ سبحانه وتعالى بقولِهِ: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة 128]، ونهوضًا بِتركةِ منْ تَبِعُوهُ (صلى الله عليه وآله وسلم) منْ خُلَفَاءِ المسلمينَ الذينَ أَتْعَبُوا منْ جاءَ بَعْدَهُمْ، حتى قالَ أَحَدُهُمْ: “لَوْ مَاتَتْ سَخْلَةٌ عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ ضَيْعَةً لَخِفْتُ أَنْ أُسْأَلَ عَنْهَا”، ذَكَرَهُ ابنُ عساكرَ في تاريخِ دمشقَ والبيهقيُّ في شُعَبِ الإيمانِ عنْ عمرَ (رضي الله عنه).

وَكُلُّنَا أملٌ أنْ يَرضَى عنَّا اللهُ سبحانه وتعالى أولاً وآخِرًا، ويُلْهِمَنَا سبلَ الرشادِ ويُؤَيِدَنا بنصرٍ منْ عندِهِ.

والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.

الصحة والرعاية الصحية

الصحةُ في اللغةِ خلافُ السُّقْمِ، وذهابُ المرضِ، وهيَ أَيضاً البراءَةُ منْ كُلِّ عيبٍ وريبٍ، والصحةُ في البدنِ حالَةٌ طَبِيعِيَّةٌ تَجْرِي أفعالُهُ مَعَهَا على المجرى الطبيعيِّ.

وفي الاصطلاحِ الحديثِ اتسَعَ مفهومُ الصحةِ ليشملَ الجانبَ النفسيَّ إضافةً إلى الجانبِ الجسديِّ، متجاوزًا حدودَ السلامةِ منَ العيوبِ العضويةِ، ليضمَّ أيضًا السلامةَ منَ العيوبِ النفسيةِ والاجتماعيةِ، فالصحةُ إذنْ حالةٌ منَ المعافاةِ الكاملةِ بدنيًّا ونفسيًّا واجتماعيًّا.

وقدِ اعتبَرَ الإسلامُ الصحةَ نعمةً عظيمةً غُبِنَ فيها كثيرٌ مِنَ الناسِ، كما روى البخاريُّ في صحيحِهِ عنِ ابنِ عباسٍ ا أنَّ رسولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) قالَ: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ». ولهذا حثَّ الرسولُ ص المؤمنينَ على سؤالِ اللهِ سبحانه وتعالى الصحةَ والمعافاةَ، وجعلَها خيرَ الأمورِ بعدَ اليقينِ أَيْ بعدَ الإيمانِ القطعيِّ، فقالَ (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما رواهُ ابنُ ماجةَ في سُننهِ بسندٍ صحَّحَهُ الألبانيُّ: «سَلُوا اللَّهَ الْمُعَافَاةَ، فَإِنَّهُ لَمْ يُؤْتَ أَحَدٌ بَعْدَ الْيَقِينِ خَيْرًا مِنْ الْمُعَافَاةِ»، وقالَ عليهِ وآلهِ أفضلُ الصلاةِ والتسليمِ: «لا بَأْسَ بِالْغِنَى لِمَنْ اتَّقَى، وَالصِّحَّةُ لِمَنْ اتَّقَى خَيْرٌ مِنْ الْغِنَى، وَطِيبُ النَّفْسِ مِنْ النَّعِيمِ»، رواهُ ابنُ ماجةَ بسندٍ صحَّحَهُ الألبانيُّ أيضًا. وحثَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) المؤمنينَ أيضًا على اغتنامِ الصحةِ قبلَ زَوالِها، فقالَ (صلى الله عليه وآله وسلم): «اغْتَنِمْ خَمْساً قبْلَ خَمْسٍ: شَبابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وغِناكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وفَراغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ وحَياتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ»، رواهُ الحاكمُ في المستدركِ وَصَحَّحَهُ الألبانِيُّ.

وكانَ رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) كثيرًا ما يتعوَّذُ من سيِّئِ الأسقامِ، حتى قالَ ابنُ حَجَرٍ في فتحِ الباري: “وَقَدْ تَوَاتَرَتْ الأَحَادِيث بِالاسْتِعَاذَةِ مِنْ الْجُنُون وَالْجُذَام وَسَيِّئ الأَسْقَام وَمُنْكَرَات الأَخْلاق وَالأَهْوَاء وَالأَدْوَاء”، ومنْ ذلكَ ما رواهُ أبو داودَ وَصَحَّحَهُ الألبانيُّ عنْ أنسٍ بنِ مالكَ (رضي الله عنه) أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قالَ: “اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْبَرَصِ وَالْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَمِنْ سَيِّئْ الأَسْقَامِ“.

ونعمةُ الصحةِ كباقي النِّعَمِ، يُسألُ عنْها العبدُ يومَ القيامةِ، إنْ كانَ حافظَ عَلَيْها وشَكَرَ اللهَ الذي تَفَضَّلَ عليهِ بها، بلْ إنها أولُ نعمةٍ يُسألُ عنها لِعِظَمِ شَأْنِها. قالَ رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): ‏”إِنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ -يَعْنِي الْعَبْدَ- مِنْ النَّعِيمِ أَنْ يُقَالَ لَهُ: أَلَمْ نُصِحَّ لَكَ جِسْمَكَ وَنُرْوِيَكَ مِنْ الْمَاءِ الْبَارِدِ؟“، رواهُ الترمذيُّ وصحَّحَهُ الألبانيُّ.

أما الرعايةُ الصحيةُ، فهيَ القيامُ على صحةِ الرعية بمراقَبَتِها وحِفْظِها وتَدبيرِ شُؤُونِها بما منْ شَأْنِهِ أنْ يوصِلَ إلى العافيةِ الجسديةِ والسَّلامةِ النفسيةِ. وهيَ تشملُ الوقايةَ منَ الأمراضِ قَبْلَ أنْ تَقَعَ، ومتابعتَها وعلاجَها إنْ وَقَعَتْ، سواءَ على صعيدِ الفردِ أوِ المجتمعِ.

وقدْ جعلَ الشرعُ الرعايةَ الصحيةَ منْ مسؤوليةِ الدولةِ والخليفةِ مباشرةً، فقالَ (صلى الله عليه وآله وسلم): “الإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ“، رواهُ البخاريُّ. فالصحةُ منَ الحاجاتِ الأساسيةِ للرعيةِ، حيثُ إنَّ الرسولَ (صلى الله عليه وآله وسلم) قالَ: “مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، آمِنًا فِي سِرْبِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا“، رواهُ الترمذيُّ وابنُ ماجةَ بسندٍ حَسَّنَهُ الألبانيُّ، جاعلاً الصحةَ حاجةً أساسيةً كالقوتِ والأمنِ.

وأما كونُ الرعايةِ الصحيةِ فرضاً على الدولةِ أنْ تقومَ بها، فظاهرٌ في أنها منَ الرعايةِ الواردةِ في حديثِ: “الإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ“. ومعَ أَنَّ التداوي منَ المندوباتِ لأمرِهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتداوي حيثُ قالَ: “عِبَادَ اللَّهِ تَدَاوَوْا، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً (أَوْ قَالَ دَوَاءً)، إِلا دَاءً وَاحِدًا“، قَالُوا: “يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُوَ؟“، قَالَ: “الْهَرَمُ“، رواهُ الترمذيُّ وصححَّهُ الألبانيُّ، إلا أنَّ عدمَ توفيرِ الرعايةِ الصحيةِ للرَّعِيَّةِ يُؤَدِي إلى الضررِ، وإزالةُ الضررِ واجبةٌ على الدولةِ، قالَ (صلى الله عليه وآله وسلم): “لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ“، رواهُ الدارقطنيُّ وهوَ عندَ الحاكمِ صحيحٌ على شرطِ مسلمٍ، فمنْ هذهِ الناحيةِ أيضاً كانتِ الرعايةُ الصحيةُ واجباً على الدولةِ.

هذا منْ ناحيةِ الأدلةِ العامةِ على كَوْنِ الرعايةِ الصحيةِ واجبةً على الدولةِ، أما الأدلةُ الخاصةُ على الوجوبِ فقدْ روى البخاريُّ في الأدبِ المفردِ والتاريخِ الصغيرِ بإسنادٍ صَحَّحَهُ الألبانيُّ عنْ محمودٍ بنِ لبيدٍ قالَ: “لَمَّا أُصيبَ أَكْحَلُ سَعْدٍ يَوْمَ الخَنْدَقِ فَثَقُلَ، حَوَّلوهُ عِنْدَ امْرَأَةٍ يُقالُ لَها: رُفَيْدَة، وَكانَتْ تُداوي الجَرْحى، فَكانَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إِذا مَرَّ بِهِ يَقولُ: كَيْفَ أَمْسَيْتَ؟، وَإِذا أَصْبَحَ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ فَيُخْبِرُهُ“. وتحويلُه (رضي الله عنه) كانَ بأمرٍ منهُ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقدْ ذكرَ ابنُ اسحقَ في قصةِ سعدٍ بنِ مُعاذٍ (رضي الله عنه) لمَّا أصابَهُ السهمُ بالخندقِ أنَّ الرسولَ (صلى الله عليه وآله وسلم) قالَ: “اجْعَلُوهُ فِي خَيْمَةِ رُفَيْدَةَ حَتّى أَعُودَهُ مِنْ قَرِيبٍ“، ورُفَيْدَةُ هذهِ هيَ امرأةٌ منْ أَسْلَمَ كَانَتْ تُدَاوِي الْجَرْحَى وَتَحْتَسِبُ بِنَفْسِهَا عَلَى خِدْمَةِ الضَّائِعِ (أَيْ ذي الضَّياعِ مِنْ فَقْرٍ أَو عِيالٍ أَوْ حالٍ قَصَّرَ عَنِ القيامِ بِها) وَالذِي لا أَحَدَ لَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، كما ذَكَرَ ابنُ اسحقَ في السِّيرةِ والواقديُّ في المغازي. وقدْ روى الإمامُ مسلمٌ هذهِ الحادثةَ مختصرةً عنْ عائشَةَ (رضي الله عنها) قالتْ: “أُصِيبَ سَعْدٌ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، رَمَاهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْعَرِقَةِ، رَمَاهُ فِي الأَكْحَلِ، فَضَرَبَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) خَيْمَةً فِي الْمَسْجِدِ يَعُودُهُ مِنْ قَرِيبٍ“، وهذا يَدُلُّ على أنَّ الخيمةَ بُنيتْ بأمرِهِ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكانتْ في المسجِدِ، أيْ في مكانٍ عامٍ، فهيَ بمثابةِ مستشفًى عامٍّ، وقولُهُ (صلى الله عليه وآله وسلم): “اجْعَلُوهُ” في روايةِ ابنِ اسحقَ السابقَةِ دليلٌ على أنهُ كانَ يرعَى كرئيسِ دولةٍ والذي هوَ القائدُ الفعليُّ للجيشِ، ومعَ أنَّ سَعْدًا (رضي الله عنه) كانَ منْ أفرادِ الجيشِ إلا أنَّ المستشفى لمْ يَكُنْ خاصًّا بالجيشِ وإنما كانَ عامًّا لِكُلِّ منْ بِهِ ضيعَةٌ منَ المسلمينَ كما وَرَدَ في روايةِ ابنِ اسحقَ. ورُفَيْدَةَ هذهِ سَمَّاهَا ابنُ سعدٍ كُعَيْبَةً كما قالَ البُخاريُّ في الأدبِ المفردِ، والمهمُ أَنَّها كانَتْ مديرةَ المستشفى الحكوميِّ الذي كانَ مُكَوَّنًا مِنْ خيمةٍ واحدةٍ مضروبةٍ بأمرِ رئيسِ الدولةِ في المسجدِ. وفي الحديثِ إِشارةٌ إِلى أنَّ مديرةَ المستشفى لمْ تأخُذْ أجرًا منَ المرضى، بلْ كانتْ تَحْتَسِبُ بنفسها على منْ كانتْ بِهِ ضَيْعَةٌ منَ المسلمينَ، أيْ على فقراءِ المسلمينَ، بِمَعْنَى أنهمْ لمْ يَكونُوا يدفعونَ أُجرةَ التطبيبِ وإنما كانَ علاجُهُمْ دونَ مقابلٍ. وهذا التطبيبُ المجانيُّ لمْ يَكُنْ خاصًّا بالفقراء فقطْ، لأنَّ سعدًا ا وهوَ سيدُ بني عبدِ الأشهلِ لمْ يَكُنْ بِهِ ضيعةٌ وَتَلَقَّى التطبيبَ أيضًا دونَ مقابلٍ. فعلى الدولةِ توفيرُ التطبيبِ للرعيةِ كُلِّها، فقيرِها وغنيِّها. وكانَ لرُفَيْدَةَ عَطاءٌ منَ الدولةِ، فقدْ ذكرَ أبو عمرٍ بنُ عبدِ البرِّ في الاستيعابِ عنِ الواقديِّ أَنَّها شهدتْ خيبرَ معَ رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) فأسهمَ لها سهمَ رَجُلٍ، والواقديُّ في المغازي مقبولٌ وإنْ ضَعَّفُوهُ في الحديثِ. وَذَكَرَ الواقديُّ أيضًا أنَّ نِساءَ المسلمينَ اللاَّتِي شَهِدْنَ خيبرَ كنَّ يداوينَ المرضى والجرحى، وَذَكَرَ أَنَّهُ (صلى الله عليه وآله وسلم) أَسْهَمَ لَهُنَّ.

وفي البخاريِّ ومسلمٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ا قَالَ: “قَدِمَ أُنَاسٌ مِنْ عُكْلٍ أَوْ عُرَيْنَةَ فَاجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بِلِقَاحٍ وَأَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا“، واللفظُ هنا للبخاريِّ، وعندَ مسلمٍ أنَّهُ (صلى الله عليه وآله وسلم) قالَ لهمْ: “إِنْ شِئْتُمْ أَنْ تَخْرُجُوا إِلَى إِبِل الصَّدَقَة فَتَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانهَا وَأَبْوَالهَا فَافْعَلُوا، فَصَحُّوا“، والجَوى هوَ داءٌ في الجوفِ، أيْ أنَّ جوَّ المدينةِ لم يُوافقهُمْ وَكَرِهُوهَا لسقمٍ أصابهمْ، فاهتمَّ الرسولُ (صلى الله عليه وآله وسلم) بِتَهْيِئَةِ مَكانٍ لهمْ يتداوونَ فيهِ، ففي روايةٍ أُخرى للحديثِ عندَ البخاريِّ أَنَّ الرسولَ (صلى الله عليه وآله وسلم): “أَنْزَلَهُمْ الْحَرَّةَ” وَهِيَ أَرْضٌ مُلَبَّسَةٌ حِجَارَةً سُودًا خارجَ المدينةِ، وَلَعَلَّها أَوْفَقُ لِطَبْعِهِمْ مِنْ أَرْضِ المدينةِ. وَقَدْ أَذِنَ لهمْ رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) في شُرْبِ لبنِ إبلِ الصدقةِ وهيَ منْ أموالِ بيتِ المالِ، وفي هذا دلالةٌ على أنَّ التطبيبَ منْ مصالحِ المسلمينَ التي يُنْفَقُ عليها منْ بيتِ المالِ.

ويمكنُ تقسيمُ الرعايةِ الصحيةِ في الدولةِ الإسلاميةِ إلى قسمينِ:

1- الرعايةُ الصحيةُ النفسيَّةُ: تتحققُ الصحةُ النفسيَّةُ بشعورِ الفردِ بالطمأنينةِ الدائِمَةِ، وينتجُ الشعورُ بالطمأنينةِ عنْ إشباعِ حاجاتِ الإنسانِ العضويةِ وغرائِزِهِ إشباعًا صحيحًا، وَفْقَ الأحكامِ الشرعيَّةِ المُنْبَثِقَةِ عنِ العقيدةِ الإسلاميةِ التي ثَبَتَتْ صِحَّتُها بشكلٍ قاطعٍ. وذلكَ لأنَّ العقيدةَ الإسلاميةَ وَحْدَها تُجِيبُ عَنْ تساؤُلاتِ الإنسانِ عنْ كُنْهِ الحياةِ وَمَصْدَرِها وَمَصيرِهِ بَعْدَها بجوابٍ مُقْنِعٍ للعَقْلِ وَمُوافِقٍ للفطرةِ، ولأنَّ الإسلامَ وحدَهُ يكفلُ إشباعَ جميعِ حاجاتِ الإنسانِ وغرائِزِهِ إشباعًا مُنَظَّمًا مُنَسَّقًا يُوازي بينَ الغرائِزِ بحيثُ لا يغفلُ غَريزَةً، ولا يَدَعُ واحدةً تَطْغَى على الأُخرى، وَكُلُّ ذلكَ بِنِظامٍ رَبَّانِيٍّ مِنْ لَدُنْ لطيفٍ خبيرٍ. وفي هذا يقولُ الله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل 97]، وَالحياةُ الطيبةُ في الآيةِ عامَّةٌ فلا تختصُّ بالآخرةِ دونَ الدُّنْيا، ويقولُ تعالى أيضًا: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأحقاف 13-14]، وَيَقُولُ سبحانه وتعالى: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى(123)وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا) [طه 123-124].

وَالإنسانُ إذا نَظَرَ إلى الحياةِ الدُّنْيا منْ وجهةِ نظرِ الإسلامِ، رأى أنَّ ما يُصِيبُهُ فيها منْ بَلاءٍ إنمَّا هوَ ابتلاءٌ منَ اللهِ سبحانه وتعالى، جَزاؤُهُ إنْ صَبَرَ واحتسبَ هوَ الجنةُ، حيثُ لا نَصَبَ ولا تَعَب، فلا يقلقُ لضُرٍّ يصيبهُ، ولا يجزعُ لشرٍّ يقعُ بهِ. قالَ سبحانه وتعالى: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا، إِلَّا الْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ) [المعارج 19-23]، كما وردَ في صحيحِ مسلمٍ عنِ الرسولِ الكريمِ (صلى الله عليه وآله وسلم) أنهُ قالَ: “عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ“.

وتتحققُ الرعايةُ الصحيةُ النفسيَّةُ في الدولةِ الإسلاميةِ تلقائِيًّا بتركُّزِ المفاهيمِ والمشاعرِ الإسلاميةِ في المجتمعِ، عنْ طريقِ جهازِ ومناهجِ التعليمِ في الدولةِ، القائمةِ على أساسِ العقيدةِ الإسلاميةِ، وعنْ طريقِ الأحزابِ الإسلاميةِ العاملةِ في المجتمعِ الإسلاميِّ، والسياسةِ الإعلاميةِ التي تقومُ على نشرِ مفاهيمِ الإسلامِ نقيَّةً مُنَزَّلَةً على الواقعِ. وَكذلكَ فَإِنَّ إيجادَ الأجواءِ الإيمانيةِ في المجتمعِ وإثارةَ التقوى في نفوسِ الرعيَّةِ على يدِ الدولةِ الإسلاميةِ يُساهِمُ في حِفْظِ الصحةِ النفسيةِ وتحقيقِ الطمأنينةِ، ويكونُ ذلكَ بتطبيقِ الأحكامِ الشرعيةِ، وإِظْهارِ الصَّلاحِ، والأمرِ بالمعروفِ، وَطَمْسِ الفسادِ، والنَّهْيِ عنِ المنكرِ، وَبَثِّ المفاهيمِ الشَّرْعِيَّةِ والمحافظةِ على القيمِ الإسلاميةِ.

كما أنَّ الصحةَ النفسيةَ مرتبطةٌ بتوفُّرِ الحاجاتِ الأساسيةِ للأفرادِ، وهيَ المأكلُ والملبسُ والمسكنُ، فبقاءُ هذهِ الحاجاتِ دونَ إشباعٍ يُؤَدِّي إلى الهلاكِ، وإشباعُها إشباعًا جُزئيًا يؤَدِّي إلى القَلَقِ النَّفْسِيِّ أوِ الاكْتِئابِ أحيانًا. لذلكَ كانَ تطبيقُ النظامِ الاقتصاديِّ الإسلاميِّ الذي يَضْمَنُ إشباعَ الحاجاتِ الأساسيةِ منْ مأكلٍ وملبسٍ ومسكنٍ، بلْ ويُتِيحُ للفردِ إشباعَ حاجاتِهِ الكماليَّةِ على أكبرِ قدرٍ مُستطاعٍ، لازِمًا للحفاظِ على الصِّحةِ النفسيةِ في المجتمعِ.

وكذلكَ الأمرُ بالنسبةِ للأَمْنِ، فهوَ منْ حاجاتِ الرعيَّةِ التي يَؤدِّي عدمُ إِشْباعِها إلى القلقِ واخْتِلالِ الصحة النفسية. ويَتَوَلَّى الجيشُ ودائرةُ الأمنِ الداخليِّ في الدولةِ الإسلاميةِ حمايةَ الرعيةِ منَ الأعداءِ خارجيًّا وداخليًّا، لتحقيقِ الأمنِ في المجتمعِ.

2- الرعايةُ الصحيةُ الجسديةُ: تتعلقُ الصحةُ الجسديةُ بسلامةِ أعضاءِ الجسمِ وانتظامِ عملِها، بحيثُ تجري أفعالُهُ معها على المجرى الطبيعيِّ. والرعايةُ الصحيةُ الجسديةُ تكونُ بالوقايةِ منَ الأمراضِ قَبْلَ وقوعِها أوْ تَفَشِّيها، وعِلاجِها إنْ وَقَعَتْ، ومُتابَعَتِها إنْ طالَتْ أوْ كانتْ مُزْمِنَةً. ولذلكَ تكونُ الرعايَّةُ الصحيَّةُ للأصحاءِ والمرضى، بحفظِ الصحةِ عندَ الأوائِلِ ورَدِّها قَدْرَ المُستَطاعِ عندَ الأواخرِ.

وَيَدْخُلُ علاجُ الأمراضِ النفسية كانْفِصَامِ الشَّخْصِيَّةِ (Schizophrenia) وَالاكْتِئابِ السَّريرِيِّ (Clinical Depression) وغيرِها ضِمْنَ الرعايةِ الصِّحِّيَّةِ الجَسَدِيَّةِ، لأنَّ هذه الأمراض تَتَعَلَّقُ بِعَمَلِ الدِّماغِ كَعُضْوٍ، وَتَتَأَثَّرُ بالعقاقيرِ والكيماوياتِ، وليسَ لها علاقَةٌ مُباشِرَةٌ بالمفاهيم.

وتُقَدَّمُ الرعايةُ الصحيةُ الجسديةُ عنْ طريقِ خدماتِ الأطباءِ والممرضينَ وباقي المهنيينَ في مجالِ الطبِّ والصحةِ، منْ خلالِ جهازٍ إدارِيٍّ يشملُ المستشفياتِ والعياداتِ والصَّيدلياتِ وباقي المُنْشَآتِ الصحيةِ، ويَتَوَلى تَدْبيرَ هذا الجهازِ الإدارِيِّ دائرةُ الصحةِ في الدولةِ الإسلاميةِ.

أهداف الرعاية الصحية

الأهدافُ العامةُ للرعايةِ الصحيةِ في الدولةِ الإسلاميةِ هيَ:

1- حفظُ الصحةِ النفسيةِ للرعيةِ: إنَّ صحةَ النفسِ وصحةَ الجسدِ أمرانِ متلازمانِ، بلْ إنَّ أمراضَ النفوسِ تُضْعِفُ البَدَنَ أَوْ تُهْلِكُهُ وَإِنْ كانَ صحيحَ البُنْيَةِ. ومفتاحُ سلامةِ الصحةِ النفسيةِ هوَ المفاهيمُ الصحيحةُ المُنْبَثِقَةُ عنِ العقيدةِ الإسلاميةِ، قالِ تعالى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [يونس 57]، وقالَ سبحانه وتعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا) [الإسراء 82]، وقالَ (صلى الله عليه وآله وسلم): “إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ“، متفقُ عليهِ. ولذلكَ كانَ حفظُ الصحةِ النفسيةِ منْ أَهَمِّ أهدافِ الرعايةِ الصحيةِ في الدولةِ الإسلاميةِ.

2- حفظُ الصحةِ الجسديةِ للرعيةِ: إِنَّ صحةَ الجسدِ كما ذَكَرْنَا مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ، والحفاظُ عليها وَرِعايَتُها مِنَ الحاجاتِ الأساسيةِ التي يَجِبُ على الإمامِ توفيرُها لرَعيَّتِهِ، كما رُوِيَ عنْ رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) أَنَّهُ قالَ: “‏مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، آمِنًا فِي سِرْبِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا“، رواهُ الترمذيُّ وابنُ ماجةَ بِسَنَدٍ حَسَّنَهُ الألبانيُّ، وقالَ (صلى الله عليه وآله وسلم): “الإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ“، رواهُ البخاريُّ.

والتفريطُ في رِعَايَةِ الصِّحَةِ الجسديةِ يُؤَدِّي إِلى وُقوعِ الضَّرَرِ بِالرَّعِيَّةِ، فَيَأْثَمُ وَلِيُّ الأَمْرِ، لِقَوْلِهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): “مَنْ ضَارَّ أَضَرَّ اللَّهُ بِهِ“، رواهُ ابنُ ماجةَ بسندٍ حَسَّنَهُ الألبانيُّ. وقالَ (صلى الله عليه وآله وسلم) أَيْضًا: “لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ“، رواهُ الدارقطنيُّ وهوَ عندَ الحاكمِ صحيحٌ على شَرْطِ مُسْلِمٍ.

3- شُمُولِيَّةُ الرِّعَايَةِ الصِّحية لِكُلِ الرَّعِيَّةِ: جاءَتِ الأدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ التي اعْتَبَرَتِ الحِفاظَ على الصِّحَةِ حاجَةً أساسِيَّةً أَدِلَّةً عامَّةً تَشْمَلُ كُلَّ الرَّعِيَّةِ، سَواءَ أَكانُوا مُسْلِمِينَ أَمْ أَهْلَ ذِمَّةٍ. فالإمامُ مَسْؤُولٌ عَنْ كُلِّ رَعِيَّتِهِ، قَوِيِّهِمْ وَضَعِيفِهِمْ، غَنِيِّهِمْ وَفَقِيرِهِمْ، مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ.

والرعايةُ الصحيَّةُ الواجِبُ على الدولةِ توفيرُها مباشرةً تشملُ كلَّ خِدْمَةٍ صِحِيَّةٍ يُمْكِنُ أَنْ يُؤَدي عدمُ تَوَّفُرِها إلى ضَرَرٍ، وتُسْتَثْنَى من ذلكَ الخَدَمَاتُ الصِّحِيَّةُ الكماليَّةُ ألتي لا يُؤُدي فُقْدانُها إلى ضَرَرٍ، كَتَبْيِيضِ الأَسْنانِ أَوْ إِزالَةِ النَّمَشِ وما إلى ذلكَ. على أنَّ الدولةَ تَسْعى قَدَرَ المُسْتَطاعِ وَحسبَ تَوَّفُرِ المواردِ إلى تَمْكينِ الرَّعِيَّةِ مِنَ الحُصولِ على هذهِ الخدماتِ الصحيةِ الكماليةِ.

4- مَجانِيَّةُ الرِّعايَةِ الصِّحية: تُوَفِّرُ الدولةُ الرعايةَ الصحيةَ مجانًا لأفرادِ الرعية بِغَضِّ النَّظر عن كَوْنِهِم أغنياءَ يملكون نفقَةَ التطبيبِ أو فقراءَ لا يملكونها، لأَنَّ الحفاظَ على الصحةِ حاجَةٌ أساسيَّةٌ لِكُلِّ الناسِ، غَنِيِّهِمْ وَفَقِيرِهِمْ.

ولا يُنْظَرُ إلى عِبْءِ مثلِ هذهِ الرعايةِ الصحيةِ الشاملةِ والمجانيةِ على خزينةِ الدولةِ. فَلا يجوزُ أَنْ تُقَيَّدَ الرعايةُ بقُيودٍ لمْ يَرِدْ بها الشَّرْعُ، كَتَغْطِيَةِ حَدٍّ مُعَيَّنٍ مِنَ النفقاتِ الصحيةِ يجب على الفردِ إِكْمالَ ما زادَ عنها، أو شمولِ بعضِ الأدويةِ والخدماتِ الضروريةِ في الرعايةِ الصحيةِ المجانيةِ دونَ بعضٍ. بل يُنْظَرُ إلى المشكلةِ الصحيةِ كمشكلةٍ إنسانيةٍ، لا كمشكلةٍ اقتصاديةٍ، فيكونُ الهدفُ هوَ توفيرُ الرعايةِ الصحيةِ للرعيَّةِ على أَحْسَنِ وَجْهٍ وَأَكْمَلِهِ، ولا يكونُ الهدفُ التوفيرَ على الدولةِ أو الاقتصادَ في المواردِ.

غيرَ أَنَّهُ وإِنْ كانَ منَ الواجبِ على الدولةِ توفيرُ الرعايةِ الصحيةِ مجانًا للجميعِ، فإنَّهُ لا يُمْنَعُ أحدٌ أنْ يُوَفِّرَها لنفسهِ، لما روى البخاريُّ عنْ أنسٍ (رضي الله عنه) قالَ: “دَعَا النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) غُلاماً حَجَّاماً فَحَجَمَهُ، وَأَمَرَ لَهُ بِصَاعٍ أَوْ صَاعَيْنِ، أَوْ مُدٍّ أَوْ مُدَّيْنِ، وَكَلَّمَ فِيهِ فَخُفِّفَ مِنْ ضَرِيبَتِهِ“. والحجامةُ في ذلكَ الوقتِ كانتْ منَ الأساليبِ التي يُتَطَبَّبُ بها، مما يدُلُّ على جوازِ أن يُوَفِّرَ الفردُ لنفسِهِ الرعايةَ الصحيةَ والتَطْبيبَ.

5- التَّمَيُّزُ وَالتَّقَدُّمُ في عُلومِ الصحةِ: الرعايةُ الصحيةُ حاجةٌ ضروريةٌ يُعْتَبَرُ تَوْفيرُها مَصْلَحَةً من مصالحِ الأمةِ الحيويةِ، وَيُهَدِّدُ فُقْدانُها حياةَ الأمة. ولذلكَ لا بُدَّ أن تكونَ الدولةُ الإسلاميةُ في طَلِيعَةِ الدُّوَلِ منْ حيث الرعاية الصحية، ولا بُدَّ من إِيجادِ حَشْدٍ من الأطباءِ والعلماءِ والمُخْتَصينَ المُؤَهَلينَ عِلْمِيًّا وفِعْلِيًّا لابتكارِ الأساليبِ والوسائلِ اللازمةِ للرعايةِ الصحيةِ، ولا بُدَّ مِنْ توفيرِ أَقْصى إمكانياتِ البحثِ والابتكارِ العِلْمِيِّ لهم. والهدفُ هو أنْ تمتلكَ الدولةُ الإسلامية زمامَ الأمورِ في مجالِ الرعايةِ الصحيةِ وتُحَقِّقَ الاكتفاءَ الذاتيَّ، حتى لا تَقَعَ تحت تأْثيرِ الدولِ الكافرة رجاءَ مصلحةٍ من المَصالحِ الصحيةِ، قالَ سبحانه وتعالى: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) [النساء 141]، وهذهِ الآيةُ إِخْبارٌ بِمَعْنَى الطَّلَبِ، وَرَدَ فِيها النَّفْيُ باستعمالِ حرفِ “لَنْ” الذي يُفيدُ التَّأْبيدَ، وَهُوَ قَرينَةٌ على أَنَّ النَّهْيَ عنْ أَنْ يَكونَ للكافرِ سبيلٌ على المؤمنينَ هوَ نهيٌ جازمٌ، فَهُوَ يُفيدُ التَّحْرِيمَ، وهذا النَّصُّ عامٌّ لأَنَّ (سَبِيلًا) جاءَتْ نَكِرَةً في سِياقِ النَّفْيِ، فَالنَّصُّ يَشْمَلُ بِعُمومِهِ السُّلْطانَ العسكريَّ والثقافيَّ والصحيَّ.

[يتبع]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *