العدد الثالث -

العدد الثالث، السنة الأولى، ذو الحجة 1407 هـ، الموافق آب 1987م

(إلاّ تنصروه فقد نصره الله)

(فالذين آمنوا به وعزّروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون) ليس أعظم من فضل الأنصار على الإسلام. لقد آمنوا بالنبي ، وعزّروه، ونصروه وآووه، فمكنوه من إقامة دولة الإسلام. فبفضلهم انتقل الإسلام من طور الدعوة إلى مرحلة الدولة يطبق في الحياة ويحمل إلى العالم.

بعد أن فشلت محاولات قريش مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لإقناعه بالعدول عن دعوته، أو التخلي عنها أو التخفيف من شأنها، رأت أنه لا سبيل لها إلاَّ بالعنف. فتصدت قريش للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، يحاربونهم بشتى الوسائل.

محاربة قريش:

وكان من أهم الوسائل التي اتخذوها لمقاومة هذه الدعوة وسائل ثلاثة:

1- التعذيب والأذى الجسدي.

2- الدعاية الداخلية والخارجية.

3- المقاطعة.

فقد حاربوا دعوة الإسلام بنشر الافتراءات على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فاتهموه بسحر البيان، وأذاعوا بين القبائل أنه يفرق بين المرء وأخيه وأمه وأبيه، وزوجه وعشيرته. وكان كلما قعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، في مجلس يدعو إلى الإسلام، خلفه أحدهم يشوش عليه مجلسه. وإذا دخل على مكة رجل، انبروا له يحذرونه من أمر هذا الدين الجديد.

كما اعتدوا على المسلمين بالأندية ما استطاعوا سبيلاً. أما أبو طالب ـ عم النبي ـ فقد حدب على ابن أخيه ، ودعا عشيرته من بني هاشم وبني المطلب إلى ما هو عليه، فاجتمعوا له وقاموا معه، وأجابوه إلى ما دعاهم إليه، إلا ما كان من أبي لهب، عدو الله الملعون.

المقاطعة:

وعزمت قريش على المضيّ في محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتى النهاية. فاجتمعوا وائتمروا بينهم أن يكتبوا كتاباً يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني المطلب، على أن لا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئاً ولا يبتاعوا منهم، فلما اجتمعوا لذلك كتبوه في صحيفة، ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك. فأقاموا على هذا الحصار سنتين أو ثلاث سنين، وكانوا ينتظرون أن يترك بنو هاشم وبنو المطلب محمداً، وأن يترك المسلمون إسلامهم، فيصبح محمد وحيداً. وهو إما أن يرجع عن دعوته، وإما أن لا يبقى لدعوته أي خطر على قريش وعلى ديانتها. إلا أن ذلك لم يزد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا اعتصاماً بحبل الله وتمسكاً بدين الله، وثباتاً على الحق، واحتمى الرسول وأهله في الشعب بظاهر مكة يعانون آلام الجوع والحرمان وألوان الفاقة والعوز، لا يجدون ما يسدون به رمقهم. واستمروا على هذه الحال حتى انتقضت الصحيفة.

طلب المنعة:

وتوفيّ أبو طالب، وتوفيت خديجة رضي الله عنها، ففقد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من كان يحدب عليه ويمنعه من أذى قريش. ففكر في جهة أخرى تعينه على دعوته وتحميه وتنصره على قومه.

قال ابن اسحق(1): ولما هلك أبو طالب، نالت قريش من رسول الله ، من الأذى ما لم تكن تنال منه في حياة عمِّه أبي طالب. فخرج رسول الله ، إلى الطائف، يلتمس النصرة من ثقيف والمنعة بهم من قومه، ورجاء أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله عز وجل، فخرج إليهم وحده.

إلى الطائف:

ولما انتهى رسول الله ، إلى الطائف، عمد إلى نفر من ثقيف، هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم، وهم إخوة ثلاثة: عَبْد ياليل ومسعود وحبيب أبناء عمرو بن عمير. فجلس إليهم رسول الله ، فدعاهم إلى الله وكلّمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام، والقيام معه على من خالفه من قومه. فقال له أحدهم: هو يَمُرط(2) ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك، وقال الآخر: أما وجد الله أحداً يرسله غيرك! وقال الثالث: والله لا أكلمك أبداً ـ لئن كنت رسولاً من الله كما تقول، لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك. فقام رسول الله ، من عندهم وقد يئس من خير ثقيف، وقد قال لهم: إذا فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني، وكره رسول الله ، أن يبلغ قومه عنه، فيذئرهم(3) ذلك عليه. فلم يفعلوا، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبّونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس.

فلما اطمأن رسول الله ، قال: اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس. يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربّي. إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهّمني؟ أم إلى عدو ملّكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلَح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحلّ علي سُخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك.

دعوة القبائل:

ثم قدم رسول الله ، مكة، وقومه أشدّ ما كانوا عليه من خلافه وفراق دينه، إلاَّ قليلاً مستضعفين ممن آمنوا به. فكان رسول الله ، يعرض نفسه في المواسم(4)، إذا كانت، على قبائل العرب يدعوهم إلى الله ، ويخبرهم أنه نبي مرسل، ويسألهم أن يصدّقوه ويمنعوه حتى يبيّن لهم الله ما بعثه به. فكان رسول الله ، يقف على منازل القبائل من العرب، فيقول. يا بني فلان، إني رسول الله إليكم، يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بي، وتصدّقوا بي، وتمنعوني، حتى أبيّن عن الله ما بعثني به. وكان ممن عرض عليهم نفسه بنو كلب وبنو حنيفة وبنو عامر وغيرهم.

النصرة:

فلمّا أراد الله عزّ وجلّ إظهار دينه، وإعزاز نبيه ، وإنجاز موعده له، خرج رسول الله ، في الموسم الذي لقيه فيه النفر من الأنصار، فعرض نفسه على قبائل العرب، كما كان يصنع في كل موسم، فبينما هو عند العقبة(5)، لقي رهطاً من الخزرج(6) أراد الله بهم خيراً. فأجابوه فيما دعاهم إليه، بأن صدّقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا إنَّا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم(7)، فعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم، وندعوهم إلى أمرك، وتعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا  الدين، فإن يجمعهم الله عليه فلا رجل أعز منك. ثم انصرفوا راجعين إلى بلادهم، وقد آمنوا وصدقوا. فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول الله ، ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم، فلم يبق دار من دور الأنصار(8) إلا وفيها ذكر من رسول الله .

حتى إذا كان العام المقبل، وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلاً، فلقوه بالعقبة، وهي العقبة الأولى، فبايعوا رسول الله ، بيعة النساء(9). فلما انصرف عنه القوم، بعث رسول الله معهم مصعب بن عمير، وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في الدين، فكان يسمّى المقرئ بالمدينة: مصعب.

وقد دعا مصعب إلى الإسلام في المدينة، وأعانه في ذلك أسعد بن زرارة، وكان ممن بايعوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، بيعة العقبة الأولى. فأسلم على يديهما سيدا بني عبد الأشهل أسيد بن حضير وسعد بن معاذ. أما سعد فإنه لمّا عاد إلى قومه وقد أسلم، وقف عليهم وقال: يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأياً، وأيمننا نقيبة، قال: فإنَّ كلام رجالكم ونسائكم عليّ حرام حتى تؤمنوا بالله وبرسوله. فما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلماً ومسلمة.

ثم إن مصعباً رجع إلى مكة، وخرج من خرج من الأنصار من المسلمين إلى الموسم مع حجّاج قومهم من أهل الشرك، حتى قدموا مكة، فواعدوا رسول الله ، العقبة، من أوسط أيام التشريق(10)، حين أراد الله بهم ما أراد من كرامته، والنصر لنبيّه، وإعزاز الإسلام وأهله؛ وإذلال الشرك وأهله. وكانوا ثلاثة وسبعين رجلاً وامرأتين.

فلما كان الموعد، جاء رسول الله ، ومعه عمّة العبّاس بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه، إلا أنه أحبّ أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثّق له. فلما جلس كان أوّل من تكلم العباس بن عبد المطلب، فقال: إن محمداً منّا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا، ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عزّ من قومه ومنعة في بلده. وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم. فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحمّلتهم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مُسْلِموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم، فمن الآن فدعوه، فإنه في عز ومنعة في قومه وبلده. قالوا: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت.

فتكلم رسول الله ، فتلا القرآن، ودعا إلى الله، ورغّب في الإسلام، ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم. قال: فأخذ البراء بن معرور بيده، وقال: نعم، والذي بعثك بالحقِّ، لنمنعك مما نمنع منه أُزُرَنا(11)، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحروب وأهل الحلقة(12) ورثناها كابراً عن كابر. فاعترض القول أبو الهيثم بن التَّيهان فقال: يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حبالاً، وإنا لقاطعوها ـ يعني اليهود في المدينة، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسّم رسول الله ، ثم قال: أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم، ثم إن العباس بن عبادة الأنصاري قال: يا معشر الخزرج، هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم، قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا نُهكت أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتلاً سلمتموه، فمن الآن، فهو والله خزي الدنيا والآخرة. وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نَهْكة(13) الأموال وقتل الأشراف فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة. قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال، وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا بذلك؟ قال: الجنّة، قالوا: أبسط يدك، فبسط يده فبايعوه.

فتلك هي بيعة العقبة الثانية، التي بايع فيها الأنصار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، على أن يمنعوه وينصروه، وأن يجعلوا له الأمر بينهم يحكم بشرع الله فيهم، ويحمل دعوة الله بهم. فبذلك الموقف العظيم، مكّن الأنصار رسول الله ، من تأسيس دولة الإسلام في المدينة بعد شهور ثلاثة، فهاجر المسلمون، وهاجر الرسول ، إليها لينتقل من مرحلة الدعوة إلى مرحلة التطبيق.

فذلك الموقف العظيم هو الذي مكّن الإسلام من أن يكون في منعة وأمنة. وأولئك هم أنصار رسول الله ، الذين قال الله تعالى فيهم:

(والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين أووا ونصروا، أولئك هم المؤمنون حقاً، لهم مغفرة ورزق كريم) [الأنفال 74].

______________________________________________

الهوامش

(1) راجع سيرة ابن هشام ـ الجزء الأول.

(2) يرمط: أي ينزعه ويرمي به.

(3) يذئرهم: يثيرهم عليه ويجرئهم.

(4) يعني مواسم الحج.

(5) العقبة: وهي موضع رمي الجمرات في الحج.

(6) سكان يثرب، وسميت المدينة المنورة.

(7) كان في المدينة قومان متنازعان: الأوس والخزرج.

 (8) هم الذين نصروا النبي في المدينة.

(9) بيعة النساء: وفيها أنهم بايعوه على أن لا يشركوا بالله شيئاً، ولا يسرقون، ولا يزنون، ولا يقتلون أولادهم، ولا يأتون ببهتان يفترونه من بين أيديهم وأرجلهم، ولا يعصونه في معروف.

(10) وهي الأيام الثلاثة التي تلي عيد الأضحى.

(11) أزرنا: أي نساءنا.

(12)  الحلقة: أي السلاح.

(13) نهكة الأموال: نقصها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *