العدد 280 -

العدد 280 – السنة الرابعة والعشرون، جمادى الأولى 1431هـ، الموافق أيار 2010 م

مع القرآن الكريم

مع القرآن الكريم:

(وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) [البقرة 224-225].

جاء في كتاب «التيسير في أصول التفسير» لمؤلفه العالم في أصول الفقه أمير حزب التحرير عطاء بن خليل أبو الرشتة (حفظه الله تعالى وسدد خطاه):

في سياق بيان الله سبحانه لعدد من الأحكام، فإن الله يبين في هذه الآيات ما يلي:

  1. ينهى الله سبحانه عن أن يقسم أحد يميناً على عدم فعل خير ما، وأن يتخذ التمسك باليمين وعدم الحنث به حجة له في عدم فعل ذلك الخير ظناً منه وجوب البر بالقسم في هذه الحالة وإلا عصى الله.

وهكذا يبين الله – سبحانه وتعالى – أن حلف اليمين لا يصحّ أن يمنعه من البر والتقوى والإصلاح بين الناس، بل عليه أن يفعل الخير ويكفّر عن يمينه كما جاء في الحديث: “من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها، فليكفر عن يمينه ويفعل الذي هو خير(مسلم وابن حبان).

وروى الكلبي أنها نزلت في عبد الله بن رواحة حين حلف على ختنه بشير بن النعمان أن لا يدخل عليه أبداً ولا يكلمه ولا يصلح بينه وبين امرأته بعد أن كان طلقها وأراد الرجوع إليها والصلح معها. وفي سبب النـزول ما يدل على أنه لا ينبغي للمؤمن أن يمنعه يمينه عن فعل الخير الذي حلف أن لا يفعله.

وفي خاتمة الآية الكريمة يبيّن الله سبحانه أنه سميع لأيمانهم عليم بأحوالهم ومقاصدهم، لا يعزب عنه مثقال ذرة، وهو سبحانه يعلم سرهم وجهرهم (وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

(عُرْضَةً) على وزن فُعلة مثل (غرفة) من عرض الشيء يعرض أو يعرُض من باب نصر وضرب بمعنى جعله معترضاً أي حاجزاً.

(وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ) أي لا تجعلوا الله تعالى حاجزاً لأجل حلفكم به عن البر والتقوى والصلاح بمعنى عدم جعل الحلف بالله مانعاً لأن تفعلوا البر والتقوى والإصلاح بين الناس الذي حلفتم ألا تفعلوه.

فاللام في الآية (لِّأَيْمَانِكُمْ) للتعليل، أي لأجل أيمانكم و(أَن تَبَرُّواْ) في تقدير (لأن تبروا).

  1. في الآية الثانية يبيّن الله فضله على هذه الأمة، فلقد تجاوز لنا عن اللغو في الأيمان أي التي تجري على اللسان دون قصد اليمين كما روي عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: “أنزلت هذه الآية (لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ) من قول الرجل: لا والله، وبلى والله” (البخاري) وقد روي عن أبي قلابة: لا والله، وبلى والله، لغة من لغات العرب لا يراد بها اليمين، وهي من صلة الكلام، ولقد عفا الله سبحانه عن مثل هذا اللغو في اليمين، ولم يؤاخذنا إلا بما كسبت قلوبنا، أي بما قصدته من أيمان حيث يوافق فيها لفظ اليمين ما استقر في القلوب.

وهذه المؤاخذة منها ما تجبره الكفارة فيؤديها صاحبها ولا شيء عليه لا في الدنيا ولا في الآخرة، ومنها ما لا تنفع فيه كفارة ولا تجبره بل عليه عقوبة تعزيرية شديدة من الدولة الإسلامية في الدنيا أو عقوبة عظيمة في الآخرة.

أما الأولى فهي الأيمان المنعقدة والتي لا ينفذها صاحبها ويحنث فيها، وهي التي ينشئها صاحبها ولا ينفذها كأن يقسم لأفعلن كذا ثم لا يفعل، ففيها الكفارة كما بينته سورة المائدة (وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ) المائدة/آية89 وتنفيذ الكفارة يعفيه من أي شيء بعدها لا من قبل الدولة الإسلامية في الدنيا ولا في الآخرة.

والثانية الأيمان الكاذبة المتعمدة فيقسم المرء على حدوث شيء وهو يدرك أنه كاذب، وهي المسماة باليمين الغموس التي تغمس صاحبها في نار جهنم، فتقتطع بها الحقوق وينشر بها الفساد.

وهذه الأيمان لا يجبرها كفارة، فلا كفارة فيها بل عقوبة تعزيرية شديدة في الدنيا من قبل الدولة الإسلامية يقدرها القاضي محققاً فيها الزجر لصاحبها ولمن يسمع بها لشدتها، فإن لم يصل خبره إلى الدولة الإسلامية فقد توعده الله بعذاب شديد شديد كما بينه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من حديث ابن عمر قال: “جاء أعرابي إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله ما الكبائر؟ فذكر الحديث وفيه اليمين الغموس وفيه قلت: وما اليمين الغموس؟ قال: الذي يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها كاذب(البخاري).

وعن أبي هريرة قال: “قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): خمس ليس لهن كفارة: الشرك بالله، وقتل النفس بغير حق، وبهت مؤمن، والفرار يوم الزحف، ويمين يقتطع بها مالاً بغير حق(أحمد) أي اليمين الغموس.

ولقد ختم الله الآية بأنه سبحانه لا يؤاخذنا باللغو بل بما كسبت قلوبنا كما بيّنّاه، فهو سبحانه (غَفُورٌ) حيث لم يؤاخذنا باللغو (حَلِيمٌ) فلم يعجل العقوبة لمستحقيها. و(الحليم) من حَلُمَ يَحلُم حِلْماً إذا أمهل بتأخير العقاب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *