العدد 282 - 283 -

العدد 282 – 283 ، السنة الرابعة والعشرون، رجب وشعبان 1431هـ، الموافق تموز وآب 2010م

نظرة في الرؤية الغربية للخلافة: مستقبل العالم الإسلامي

نظرة في الرؤية الغربية للخلافة:

مستقبل العالم الإسلامي

 

عصام الشيخ غانم

إن المتابع لتطورات النظرة الأوروبية والأميركية للعالم الإسلامي ومدى رؤية هؤلاء الكفار لصورة دولة الخلافة ودرجة اكتمال تلك الصورة يجد الكثير من الحدود والمفاصل التي فرضت نفسها وبقوة على العقلية الغربية وتستحق منا التوقف والتفكير ثم الحكم والجزم بأن تلك النظرة قد شهدت انقلاباً تاماً عن تلك النظرة التقليدية التي كانت تصدر عن الغرب خلال عقد التسعينات وما قبلها. فإذا كان التهديد الإسلامي محل تساؤل عند المفكر الأميركي جون إسبوزيتو: «أحقيقة هو أم خرافة؟» في بداية التسعينات وهو يراقب مظاهر انقلاب المزاج العام في العالم الإسلامي المرافقة لنمو الوعي العام بالإسلام أو ما اصطلح كثيرون على تسميته بالصحوة الإسلامية، فإن تلك النظرة التقليدية قد أضحت من تراث الماضي بما يجمع عليه مفكرو وسياسيو الغرب اليوم من حقيقة التهديد الإسلامي بل وعظم الخطورة الكامنة خلف هذا التهديد.

ومن أجل ترسيخ وتعميق الفهم للرؤية الغربية ووعي درجة وضوح النظرة الغربية للخلافة الإسلامية باعتبارها مستقبل العالم الإسلامي، كان لا بد من قراءة هذه الرؤية والعوامل التي جعلتها واضحة بالشكل الذي سنراه بشكل يقدر الأمور حق تقديرها ولا يزيد عليها لغاية في نفس يعقوب، وكان ولا بد أيضاً من التمييز بين حقائق في غاية الأهمية كمثل اختلاف وتميز النظرة الغربية (الأميركية والأوروبية) لأمة الإسلام عن نظرتها لحكومات المسلمين، فالنظرة للحكومات لم تختلف وربما زادت هواناً، فقدرة الغرب على امتطاء النخب الحاكمة لم يحدث بها تغيير، وربما زادت في بعض المناطق حيث مكنت هذه النخب النفوذ الغربي من التعمق أكثر في طبقات الحكم البالي السائد في المنطقة الإسلامية، لكن النظرة الغربية للأمة الإسلامية قد تبدلت كثيراً؛ فطغت النظرة العدوانية الغربية ضد شعوب المسلمين، فحملت تلك النظرة الغرب على المزيد من التوجس من المسلمين عموماً وراح يعاملهم باعتبارهم مصدر تهديد فوري. ولعل تعاظم الحراسة على المصالح الغربية في البلاد الإسلامية والطريقة التي تعامل بها الجاليات الإسلامية في الغرب عموماً يصلح ليكون شاهداً أكيداً على العدوانية المرتفعة التي وصلت اليها الرؤية الغربية للمسلمين، هذا ناهيك عن النظرة ذات الحساسية المرهفة في عدوانيتها للحركات الإسلامية وللعمل السياسي الإسلامي الذي يدعو لاعادة وحدة المسلمين وبناء دولة الخلافة.

ويكاد مفكرو الغرب وسياسيوه يجمعون بأن الأخطار الإسلامية تتجمع في الأفق القريب، وأن انفجارها في وجهه ووجه نفوذه الدولي سيكون بحلول سنة 2020م، وأن موجات المد الإسلامي ستبلغ مدى لا قبل للغرب بمقاومته بعد هذه الفترة. والمتابع لتطور هذه الرؤية في الغرب يجد أن هوساً كبيراً بل هلعاً حقيقياً من الإسلام والمسلمين قد دب في نفوس الأوروبيين والأميركيين. وقد ساهمت حقائق فرضتها الحركات الإسلامية الجهادية والسياسية على تفكير الأوروبيين والأميركيين مقرونة باستجابة عالية من الأمة الإسلامية في التوجه نحو المطالبة بالحكم بالإسلام، وهناك أيضاً حقائق غربية لا يمكن إغفالها تلقي بظلال من اليأس والقنوط على العزيمة الغربية للصمود في وجه المد الإسلامي القادم.

أما كيف فرضت حقائق القوة الإسلامية وحقائق الضعف الغربي نفسها وبسرعة قياسية على عقلية الغرب فهاكم التفصيل، لكن قبل ذلك سنعرض مشاهد تبين حالة الرعب الغربية من نمو الأخطار الإسلامية، ولا يقصد من عرض هذه المشاهد التغطية الشاملة، وإنما التمثيل بالوقائع الجارية حديثاً للاستدلال على النتيجة.

لا يشك عاقل في حقيقة العنجهية الأميركية التي طفت على سطح الموقف الدولي لمدة عقود، ولا يشك عاقل أن الاشتراكية السوفياتية أو الدول الكبرى الأوروبية كفرنسا وبريطانيا قد فشلت تماماً في وقف هذه العنجهية، بل إن تلك العنجهية أي ذروة الاستخفاف الأميركي بالعالم قد لطمت وجه هذه الدول في الكثير من المناسبات، ولا يشك عاقل أبداً أن هذه العنجهية الأميركية قد أخذت بالتحلل والذوبان على الصخرة الإسلامية في العراق وأفغانستان، فالمسلمون وليس الاتحاد السوفياتي وليست الدول الأوروبية الكبرى ولا الصين هم القوة التي تمكنت من تحطيم العنجهية الأميركية، وهذه ليست أبداً قراءة ملتوية للأحداث، بل هي عين الحقيقة التي فرضت نفسها على التفكير الأميركي والعالمي.

وهذه الحقيقة هي التي نقلت مراكز البحث في الولايات المتحدة وهي صانعة الاستراتيجيات الأميركية المختلفة، ونقلت كذلك السياسيين الأميركيين إلى حالة من الهلع من القوة المجهولة التي لم تكن أبداً عنصراً في الحسابات الأميركية قبل حربي العراق وأفغانستان. وهذا الشعور بالهلع من القوة الإسلامية العملاقة هو الذي دفع المسؤولين الأميركيين من أعلى القمة للتحذير من الخلافة الإسلامية، وأن هذه الخلافة ستبني حكماً متطرفاً من إندونيسيا إلى إسبانيا كما جاء على لسان الرئيس بوش الصغير، وكان بذلك يدعو كافة القوى الكبرى للوقوف مع الولايات المتحدة في الحرب في العراق بما فيها فرنسا وألمانيا وروسيا التي لم تشارك في الحرب وعارضتها معارضة كلامية. وكان القائد العسكري الأميركي في العراق جون أبو زيد يحذر من أن المتطرفين سيسيطرون على الحكم وسيبنون ملجأً آمناً يطورون منه أسلحة الدمار الشامل لتندلع الحرب العالمية الثالثة بعد ذلك. وإن كنا هنا لسنا بصدد تجميع التصريحات الكثيرة من هذا القبيل، إلا أن حقيقة أن رجالاً أخلصوا لدينهم في العراق وأفغانستان قد تمكنوا حقيقةً وليس كلاماً من وقف زخم القوة الأميركية، فبدأت من البقاع الإسلامية تلك انتكاسة العظمة الأميركية، تلك العظمة التي سلكت طريقاً ثابتاً في التآكل والاهتراء بعد ذلك.

لم يكن وارداً أبداً عند أمة كالأمة الأميركية، وهي ترسم طريقها نحو التفرد الدولي وتحقيق القرن الأميركي الجديد، أن تقبل بعدم فهم حقيقة تلك القوة العملاقة التي أخذت تقذف بموجات من اليأس على العقلية الأميركية. صحيح أنه أمام هذه الموجات قد تبددت المشاريع الأميركية، فلا هي استطاعت إنجاز الشرق الأوسط الكبير ولا الجديد، ولا إعادة رسم الخريطة السياسية للمنطقة بما كانت تخطط  له، وأصبح الخروج من المستنقع هو أعلى أهداف السياسة الأميركية، ولكن اشتعلت في الولايات المتحدة الدراسات والمؤتمرات لتقدير حقيقة الأخطار الإسلامية، ولم تهدئ تلك الرغبة العارمة في فهم حقيقة الموقف الذي شوهد أميركياً وكأنه تبدل بسرعةٍ فائقةٍ  في العالم الإسلامي. وإذا كانت أميركا قد تمكنت من تخفيف وطأة المخاطر الفورية المتمثلة في التنظيمات الجهادية، إلا أنها لم تغفل النار الحقيقية المتمثلة في العمل السياسي الإسلامي، فانتقلت وبسرعة كبيرة لتكتشف حزب التحرير وتحارب فكرة الخلافة التي شقت طريقها إلى عقول المسلمين كالنار في الهشيم، فأشرفت على مؤتمر إسطنبول الخاص بتقدير أخطار حزب التحرير، وعكفت المستشارة زينو باران على تقدير أخطار حزب التحرير الوشيكة في أوزبكستان وعموم آسيا الوسطى، والذي دأبت على وصفه بأنه يشكل قاعدة أيديولوجية وسياسية راسخة لكافة التنظيمات الإسلامية المتطرفة التي تتفرخ عنه أو عن فكرته التي تفرض وجوب العمل لبناء دولة الخلافة الإسلامية.

واستمرت المخاوف الأميركية من الإسلام تتجذر في الفكر السياسي الأميركي وتلقي بظلال كثيفة من الخوف واليأس على السياسة الأميركية. أما تجذر تلك المخاوف، فربما يعبر عنها ما ورد في التقرير الخطير الصادر عن مؤسسة روبير لافون الباريسية للنشر بعنوان «كيف ترى المخابرات الأميركية العالم بحلول عام 2020م؟» فيذكر في صفحته 83 بأن الإسلام السياسي سوف يتمتع بانتشار واسع على الصعيد العالمي، ويتوقع كتّاب التقرير أن ترتبط الحركات الإسلامية ببعضها البعض نحو تأسيس سلطة إسلامية عابرة للحدود القومية. ومن الجدير بالذكر أن المفكرين الأميركيين “كتّاب” التقرير ومنهم أكبر خبراء استشراف المستقبل وصاحب كتاب صدمة المستقبل ألفين توفلر وتيد غوردون وهو من مصممي مشروع الألفية الذي أنجزته الأمم المتحدة وجيم ديوار الخبير في راند كوربوريشن وجاد ديفيس خبير شركة شل البترولية العملاقة، لا يشق لهم غبار في استشراف المستقبل حسب ثقة الأميركيين بهم.

وأما كيف استمرت تلك المخاوف تلقي بظلال من اليأس واستشراف الخطر القريب على الساسة الأميركيين على الرغم من تبريد الساحة العراقية، فإن جو بايدن نائب الرئيس الأميركي الحالي يعرب عن ذلك بقوله “إن أكثر ما يقلقني ليس أفغانستان ولا العراق ولا البرنامج النووي الإيراني، بل باكستان؟ ويضيف ” أعتقد أنه بلد كبير، ولديه أسلحة نووية يمكن نشرها، وفيه أقلية مهمة فعلاً من المتطرفين” وجاءت هذه التصريحات وسط تحذيرات غربية كانت البريطانية أقواها من خطر جعل الباكستان نقطة ارتكاز للخلافة الإسلامية.

حذرت بريطانيا بشكل أكثر دقة من قوى باكستانية تعمل مع حزب التحرير لتحويل البلاد إلى قاعدة للخلافة الإسلامية. وتحت ظلال من الخوف في أن تواجه القوات الأميركية المنهكة في أفغانستان القوة العسكرية للجيش الباكستاني فيما لو تحول وصار جيش دولة الخلافة ونواتها العسكرية، حذر القادة العسكريون والسياسيون في أميركا من تلك الأخطار وهم يرونها شيكة الوقوع، فأعربت وزيرة الخارجية كلينتون عن قلقها بصراحة في 12/12/2009م وعبر محطة جيو التلفزيونية الباكستانية من العمل للخلافة في باكستان، وصرح الميجر جنرال جون كستر للواشنطن تايمز في 24/11/2009م وهو قائد مخابرات الجيش قائلاً: “إن القادة العسكريين القدماء -في باكستان- يحبوننا، فهم يفهمون الثقافة الأميركية، ويعلمون بأننا لسنا الأعداء، ولكنهم خارج القوات المسلحة مجدداً” وكان ديفيد كيكولين مستشار قائد القيادة المركزية في الجيش الأميركي أكثر تخوفاً عندما صرح للواشنطن بوست خلال شهر آذار/ مارس 2009م قائلاً “في باكستان 173 مليون نسمة، و100 رأس نووي، وجيش أكبر من الجيش الأميركي…، وقد وصلنا إلى مرحلة بحيث يمكن رؤية انهيار النظام الباكستاني خلال ستة شهور… إن إطاحة المتشددين بالنظام سيدمر كل الذي نراه في الحرب على الإرهاب اليوم” ووفقاً لهذا الهلع الأميركي من باكستان، فقد زادت الولايات المتحدة في ضرباتها التفجيرية لمراكز الاستخبارات العسكرية الباكستانية التي تقوم شركة بلاك ووتر بحراستها داخل باكستان، وهذا الاختراق الأميركي الكبير للمؤسسة الأمنية الباكستانية والسماح لشركة بلاك ووتر بالعمل الأمني داخلها يدل على عمق التنسيق الكبير بين الحكومة الباكستانية التي تعيش هاجس رصاصة الرحمة وبين الولايات المتحدة الساهرة على منع الإسلام والخلافة من حكم باكستان.

وليست هذه المشاهد مقتصرة على باكستان، فقد نشرت مجموعة الأزمات الدولية تقريراً جديداً سنة 2010م بعنوان “إسلاميون في السجون” تحدثت فيه عن تزايد أعداد السجناء “الإسلاميين” في قيرغيزستان وكازاخستان وارتفاع مستوى التأثير السياسي لهم، فذكر التقرير أن القضايا والمشاكل تتسرب من داخل السجون لخارج أسوارها، وأن تمدد الإسلام السياسي داخل السجون يؤدي إلى مضاعفات حادة خارج السجون. ولعل في هذا التقرير ما يشير إلى تعاظم المد السياسي الإسلامي الذي يقوده حزب التحرير في آسيا الوسطى، وأن هذا التعاظم قد صار غير قابل للسيطرة عليه ولا التحكم بآثاره حتى باستخدام السجون.

وبهذا وما يشابهه من أحداث مثل المسيرات والمؤتمرات التي يقيمها حزب التحرير، والقدرة على حشد جماهير المسلمين وراء فكرة الخلافة، والاستجابة العارمة من الأمة الإسلامية لفكرة إعادة الإسلام إلى الحكم وتوحيد المسلمين في دولة واحدة يحكمها خليفة واحد، فقد رأى الغرب أن العمل السياسي الإسلامي على وشك الانفجار بالخلافة الإسلامية، فأصبح الغرب يجاهر برفضه للخلافة، كما صرح وزير الخارجية البريطاني عن أفغانستان بأن بريطانيا يمكن أن تقبل بجمهورية “الشريعة الإسلامية” في أفغانستان، أما الخلافة فلا مطلقاً، هكذا ذكر للـ(بي بي سي) في 24/1/2010م.

وكانت التقارير المختلفة عبر وسائل الإعلام البريطانية تنقل بهلع وخوف أخبار المسيرة التي أعلنها حزب التحرير في لندن تحت عنوان “نهاية طغيان الديمقراطية والحرية والقوانين الوضعية” في 31/10/2009م محذرة من حزب التحرير باعتباره  مجموعة راديكالية يقوم بتهديد الديمقراطية في عقر دارها، وأضافت تلك التقارير أن هذا الحدث والمطالبات بتطبيق الشريعة لم يحدث أبداً في بريطانيا قبل ذلك. وذكر تقرير الديلي إكسبرس: بأن هذه المسيرة ينطلق بها 5000 مسلم متطرف، وبالقرب من مجلس العموم البريطاني حيث يعتقد حزب التحرير -حسب الصحيفة- أن هذا المجلس هو المكان الذي تتعلق به حياة الملايين في بريطانيا، وهو المكان الذي أشعلت منه الكثير من الحروب الظالمة”. وقد اهتزت هيبة الثقافة الأميركية في أميركا نفسها عندما عقد حزب التحرير مؤتمراً يطرح الرؤية الإسلامية للمرأة مناهضاً الرؤية الأميركية في يوم المرأة العالمي، وقد لوحظ الاهتمام الأميركي الكبير بهذا الحدث، ولوحظ نشاط المتطرفين الأميركيين لمنعه والدعاية ضده.

وفي النمسا بلغ الخوف من المسلمين هوساً جنونياً عندما أعلنت حالة الطوارئ في وزارة المرأة النمساوية على أثر رسالة إلكترونية تقول الوزيرة غابرائيلا هنوش هوسك إنها تلقتها من حزب التحرير في لبنان نهاية 2009م خلال أعياد الميلاد وأنها تشتمل على تهديدٍ شديدٍ على خلفية دعوة الوزيرة لحظر النقاب في النمسا، وقد تمثل ذلك التهديد بتضمين الرسالة الآية “إن الله شديد العقاب” الأمر الذي استدعى أن تتصل الوزيرة بمكتب الحماية ومكافحة الإرهاب والذي أخذ الأمر على محمل الجد كما ذكر المتحدث باسم الوزيرة لصحيفة الأوستريان تايمز في 31/12/2009م.

وليست الساحة الروسية ببعيدة عن المخاوف الغربية، فقد أعلن سيرغي سميرنوف نائب رئيس دائرة الأمن الفدرالي الروسي حسب صحيفة نوفوستي في 2/4/2010م بأن الدول أعضاء منظمة شنغهاي التي تعقد اجتماعها في طشقند لتنسيق جهودها الأمنية ضد الإرهاب والتطرف، وأن هذا المجلس المنعقد ينظر في مسألة استحداث مجموعة عمل دائمة تضم خبراء من الدول الأعضاء في المنظمة تختص بتنسيق الجهود والأنشطة في ميدان مكافحة المنظمة الدولية المتطرفة “حزب التحرير الإسلامي”. ويحذر أحد كبار المفكرين الروس بأن دولة الخلافة الموحدة ستغطي كافة أرجاء العالم الإسلامي، ويتوقع أن تتحلل الدول القائمة حالياً في المنطقة الإسلامية برمتها بحلول 2020م. وهذه النظرة تتطابق مع الرؤية التي يطرحها كتاب نوح فيلدمان أستاذ القانون بجامعة هارفارد الأميركية “سقوط وصعود الدولة الإسلامية” والذي يرى أن الدولة الإسلامية القادمة ستكون دولةً ناجحةً.

وبهذه المشاهد والنماذج للتفكير السياسي عند المفكرين والسياسيين في الدول الغربية الكافرة المستعمرة يتضح حجم انقلاب النظرة لمستقبل المنطقة الإسلامية، ويتضح معها التوقعات الغربية بقرب توازن البركان العظيم الذي لن يبقي ولن يذر شيئاً للمصالح الغربية في المنطقة الإسلامية بل وسيلاحقها في عقر دارها.

وأما الحقائق التي فرضت نفسها سريعاً وعملت على رسم هذه الرؤية، فهي على مستويين. الأول مستوى قوة العمل الإسلامي السياسي والجهادي المخلص، فبعد المجابهات الميدانية بين الجيوش الغربية وبين المقاتلين المسلمين في العراق وأفغانستان، ويلحق بذلك الحروب الأخيرة التي شنها اليهود في لبنان وفلسطين، فقد رأت الجيوش الغربية كما رأى اليهود مقاتلين أشداء لم تقابلهم جيوش الغرب في حروب من قبل، ولاحظت أن أقوى أسلحة هؤلاء المقاتلين هي إيمانهم بالله، ورأت الدول الغربية حشود المسلمين في المسيرات والمؤتمرات التي ينظمها حزب التحرير من فلسطين إلى إندونيسيا مروراً بباكستان وغيرها كثير من بقاع المسلمين، ورأت مع ذلك استجابة متعاظمة من الأمة الإسلامية لاستعادة الخلافة وقبول وتسليم لدى جل الجماهير الإسلامية بأحكام الشريعة الإسلامية، والتي منها القبول والترحيب بوجوب توحيد البلاد الإسلامية تحت راية قائد واحد هو الخليفة، بل والتلهف في انتظار ذلك.

وأما الحقائق في المستوى الثاني، فإنها تلك المتعلقة بضعف الغرب وانكشاف عوار الرأسمالية والديمقراطية والهرم الظاهر على دوله، ناهيك عن تزايد الحاجة للمنطقة الإسلامية في توفير الطاقة تزايداً حاداً في الأعوام القادمة حيث يتوقع الخبراء نضوب النفط من معظم منابعه خارج الشرق الأوسط خلال فترة ليست كبيرة، ما يحمل الدول المستعمرة على التدافع على المنافع النفطية في المشرق الإسلامي، وربما تشتعل الحروب فيما بينها من أجل الظفر بحصةٍ من نفط المسلمين، وهذا الواقع يزيد من تشبث الكافر المستعمر بالبلاد الإسلامية في الوقت الذي تتزايد ضده المخاطر الكامنة فيها، والتي يمكن أن تنفجر في أي بلد انفجاراً جزئياً بالحركات الجهادية أو كلياً بقيام الخلافة الإسلامية.

وأما الضعف الغربي فقد كان الضالعون في السياسة الدولية يرون ضعفاً استراتيجياً في الأمم الغربية وإن كان غير طافٍ على السطح، فمن قلة المواليد وتدني نسب الشباب، والحاجة لتجديد الصناعة وما يلقيه ذلك من كوابح للنمو الاقتصادي، إلى الولايات المتحدة حيث المديونية المرتفعة والمزمنة، والمخاطر غير المرئية الناتجة عن العولمة، وما عملت على تكديسه من ثروات فاحشة في أيدي قلة من كبار الرأسماليين وحرمان عموم المجتمع من الانتفاع بتلك الثروات، الأمر الذي ساهم وبقوة في تهيئة المناخ للأزمة المالية التي عصفت فيما بعد (2008م) بالعالم الرأسمالي.

خاضت الولايات المتحدة حروبها في أفغانستان والعراق دونما أي اعتبار للوجود الإسلامي، فكانت تلك الحروب استمراراً للنظرة الأميركية للبلاد الإسلامية باعتبارها مزرعة للنفوذ الأميركي، وكانت عيون الولايات المتحدة تنظر للدول الكبرى لإخضاعها للسياسة الأميركية عن طريق منع شريان الطاقة عنها والتحكم باقتصاداتها، ولكن أميركا أُتيت من حيث لم تحتسب، فكانت المقاومة العراقية والأفغانية مفاجأة كبرى للولايات المتحدة، فقد حطمت هذه المقاومة الآلة العسكرية الأميركية ومرغت عظمتها في رمال العراق. وبانتكاس العسكرية الأميركية التي عجزت عن تحقيق الأهداف انتكست السياسة الأميركية ليس في المشرق الإسلامي فحسب، بل وفي العالم أجمع، وتنفست الدول الكبرى الصعداء بالورطة الأميركية في العراق وأفغانستان وأعادت النشاط لأدواتها الدولية، فانتفخت الصين اقتصادياً، وتعافت روسيا من أمراضها السوفياتية. وبمعنى آخر فإن الولايات المتحدة التي عملت على صناعة عدو جديد لسياستها الدولية كمبرر لاستمرار دورها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي قد وجدت هذا العدو بشكل فعلي على الساحة في العالم الإسلامي يهدد نفوذها ومكانتها الدولية.

ولعل أخطر ما خسره الغرب استراتيجياً في حروبه ضد المسلمين أن هذه الحروب قد أخذت مداها في تعرية الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان وبيان زيفها، وأظهر الغرب درجة عالية من الخداع والكيل بمكيالين مختلفين مما أسقط من يده عصا هائلة كانت تساعد سياساته الدولية. فقد أظهرت حربي العراق وأفغانستان وحروب اليهود الأخيرة في لبنان وغزة استهتار الغرب واليهود بدماء المسلمين وأنهم لا يرقبون في مسلم إلاً ولا ذمة، فكانت شلالات الدم تسيل بالآلاف في فلسطين وبمئات الالآف في العراق وأفغانستان مما أوجد ردة فعل صاخبة في المنطقة الإسلامية دفعت بالشباب للتطوع وقتال الجيش الأميركي، وأوجدت نفوراً شديداً لدرجة التقزز من الغرب عموماً ومن أميركا خصوصاً. وانتقلت ردة الفعل هذه للشعوب الغربية التي أخذ البعض من أبنائها يتعاطف مع ضحايا التعذيب والسجون الأميركية في العراق وأفغانستان وغوانتنامو، وبهذه الموجة العارمة فقد الغرب أحد أهم مرتكزاته الأخلاقية والأيديولوجية في الحروب ضد المسلمين، وفقد القدرة على التأثير الفعال لدى عملائه من حكام المنطقة الإسلامية والذين انتقل اليهم الذعر من الجرائم الأميركية خشية أن تنتفض شعوبهم ضدهم وتنتقم منهم بسبب تعاونهم العلني أو غير الخفي مع الحروب الأميركية ضد المسلمين.

وهكذا فقد الغرب نموذجه في الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان بسبب حربه على المسلمين، ولم يعد المسلمون ينظرون بأي درجة من الاحترام والتقدير لنماذج العنصرية الغربية التي تدعي الحرية ولا تطيق أن ترى مسلمة منقبة على أراضيها، أو تدعي التعددية وحقوق الانسان في الوقت الذي تمنع فيه بناء المآذن في مساجد المسلمين. وهذا يشير إلى سقوط سريع بل ومدوٍّ للغرب وللقيم الغربية والرأسمالية عموماً، وهذا ساهم وبسرعة فائقة في خروج الأحزاب العلمانية سريعاً من حلبة الصراع الداخلي في العالم الإسلامي، فأصبحت الساحة خالية للعمل السياسي الإسلامي لا يقف أمامها سوى طبقة الحكام الذين يتسترون بالعلمانية التي لم يعد لها حظ في الأمة. وهذه الحالة من تخندق طبقة العلمانيين في العالم الإسلامي خلف جدار الحكم ليحميهم من أمتهم الغاضبة على عمالتهم للعدو الغربي هي التي زادت مخاوف أميركا وأوروبا وروسيا وهلعهم من العمل السياسي الإسلامي بما يدركونه من ضعف هؤلاء الحكام وضعف الجدار الحامي لهم من الأمة، فوقف الغرب بانتظار النزال مباشرة مع دولة الخلافة التي تقترب حقيقة من إعلان ميراثها لمملكات وجمهوريات هؤلاء الحكام التابعين للنفوذ الغربي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *