العدد 170 -

السنة الخامسة عشرة ربيع الأول 1422هـ – حزيران 2001م

رجال الدولة بين الأمس واليوم

         الحمد لله حمداً طيباً مباركاً فيه؛ حمداً يليق بجلال وجه ربي وعظيم سلطانه، اللهم إن طاعتنا لا تنفعك ومعصيتنا لا تضرك؛ فعاملنا بما أنت أهله ولا تعاملنا بما نحن أهله إنك أنت أهل التقوى وأهل المغفرة. وصلِّ اللهم وسلم وبارك على الرحمة المهداة والنعمة المزجاة محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين القائل: «لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة أولها الحكم وآخرها الصلاة».

أيها الإخوة في الله …  بعد ما يزيد على سبعين سنة من أفول شمس الدنيا بغياب حكم الإسلام وسلطانه ودولته، تجمدت دماء الأمة في عروقها، وتقطعت السبل بالرعية باغتيال راعيها؛ فصارت الرعاية فيها لذئاب الكفر وعملائه وصارت أرض الإسلام غريبة عما عليها من دول وأشباه رجال؛ دول حكام محكومين لا يقوون على قول لا للعدو، حكام هزيمة وخنوع واستخذاء على أعتاب عدو الأمة؛ في الوقت الذي يتحولون فيه إلى أبطال صناديد أشاوس على أمتهم وأبنائها من المخلصين إذا ما هبوا للأخذ بيد أمتهم من كبوتها التي طالت؛ نعم إنهم أشباه الرجال من حكامنا الذين قفزوا في نوم من الأمة قد طال في ليلها الذي ادْلَهَمَّ من المؤامرات، نوم وصل به كيد الليل بكيد النهار لمحو مجد وحضارة الأمة الإسلامية. فاقتعدت الفئران عرين الأسود؛ واستأسد الحمل عندما استنوق الجمل؛ فوا أسفاه على أمة كان من شأن أعدائها الخوف والرعب من ضربات جيوش الخليفة الساحقة، التي لا تترك أرض العدو المتجرئ على أبنائها إلا قاعاً صفصفاً. فصار من شأنهم أن أصبح أكثر ما يحسب لديهم من حساب لحكامنا هذه الأيام المواقف الهزيلة والتصريحات الباهتة والاستنكارات الفارغة التي لا تدفع غصباً ولا تحرر أرضاً ولا تردع عدواً ولا ترد كرامة.

لقد كانت الأمة الإسلامية تهز الغرب الكافر هزاً عنيفاً صاعقاً أيام كان للمسلمين جيوش يقودها الخلفاء بأنفسهم لتدك عواصم الكفر العريقة في أوروبا مثل فينا عاصمة النمسا، التي حاصرها السلطان سليمان القانوني مرتين وقصفها ودكها دكاً عنيفاً مؤلماً صيفاً وشتاءً؛ فكان موقف الغرب إبان ذلك يتمثل في كيفية حماية أوروبا النصرانية من غزو جيوش المسلمين؛ ثم لما ضعفت الدولة أصبح موقف أوروبا فيما سمي بالمسألة الشرقية يتمثل في كيفية القضاء على الخلافة العثمانية التي سميت برجل أوروبا المريض؛ وكيفية تقسيم تركته بعد موته أو بالأحرى بعد اغتياله. وبعد أن نجح الكفار بالقضاء على الخلافة تفرق المسلمون شذر مذر ومزِّقوا كل ممزَّق وأصبحوا في هذا الهوان الذي ترون وتسمعون.

أيها الإخوة الأكارم …  بالله عليكم ماذا يكون تصوركم لحال أمة تاهت عن قضيتها وهي تطبيق الإسلام بالدولة وحمله للعالمين بالجهاد؛ فأصبحت لا ترى ضيراً في حكمها بالكفر الصراح، ولا ترى بأساً في تجزئتها لأكثر من خمسين دويلة هزيلة على أسس وهمية مصطنعة. ومن الطبيعي لشعوب ألفت الذل فأصبحت أرقاماً يصبها الحاكم في صندوق انتخاباته، وعبيداً في مزرعته ومزرعة أبيه الذي فصلت له دولة ودستوراً وبرلماناً ثم بعد ذلك شعباً على مقاسه وبحسب مزاجه، فإن فرح فرحت الجماهير وإن حزن حزنت الجماهير وإن مرض مرضت الجماهير وإن مات ماتت وراءه الجماهير. فمن الطبيعي لمثل هذه الشعوب أن لا ترى بعد ذلك كله بأساً في فقدان الدور والوزن السياسي في حلبة الصراع الدولي؛ فتداعت أكثر من ثلث دول العالم ست وخمسون دولة لا إسلامية في قمة لا إسلامية في الدوحة؛ للتباحث بشأن المجازر التي ترتكبها إسرائيل بحق أبناء الأقصى في انتفاضة الأقصى، فتتمخض قمة حكامهم عن دعوة وقحة للمجتمع الدولي لتوفير الحماية الدولية لأهل فلسطين. نعم أصبحت بلادنا عميلة تابعة بعد أن كانت الدولة الأولى في العالم؛ شمس الدنيا ومنارة التائهين؛ دولة القول والفعل السياسي الدولي الذي لا يشق له غبار؛ أصبحت بلادنا بلاداً تابعة يحكمها عملاء مأجورون جبناء؛ لا يملكون نواصيهم عدا أن يملكوا نواصي قضايا ومصالح شعوبهم؛ كل أعمالهم وتصريحاتهم وتحركاتهم وقراراتهم ومراسيم قممهم المبهرجة؛ لا ترتقي لأن تعتبر أعمالاً سياسية، لأن الأعمال والمواقف السياسية والخطط والأساليب السياسية لا يصممها ولا ينفذها إلا رجال دولة حقيقيون مبدعون؛ أول ما يتصفون به من صفات هو العقلية السياسية الرعوية لمصالح شعوبهم؛ وهؤلاء الحكام هم أبعد ما يكونون عن الاتصاف بهذه الصفة الأساسية لرجال الدولة والحكم؛ فهؤلاء ليسوا أكثر من أجراء موظفين بالوكالة تصمم لهم الأعمال السياسية وبعد أن تصدر القرارات من دوائر الحكم الأجنبية الحقيقية في البلد؛ ما عليهم إلا السير اللاإرادي على الخط المرسوم؛ فها نحن نرى بعد مرور سبعة وسبعين سنة على حكمهم بعد هدم الخلافة؛ حيث تغيرت وجوههم وأنظمتهم من ملكيات إلى جمهوريات ومن مجالس ثورية إلى برلمانات دستورية؛ لم ولن تتغير الأوضاع عما كانت عليه مذ هدم الخلافة؛ ولم ولن تتحرك الأوضاع ملمتراً واحداً إلى الأمام؛ بل على العكس تماماً؛ فهذا وعد بلفور الصادر عام ألف وتسعمائة وسبعة عشر تحول في ظل حكمهم وحروبهم المصطنعة إلى دولة يهود، التي أصبح لها شأن إقليمي تتهالك الدول العربية على تطبيع العلاقات معها وكسب ودها قبل فوات الأوان والله عز وجل يقول: (فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين) . وها هي حركات التحرر الوطني بعد حصولها على ما يسمى بحق تقرير المصير والاستقلال الزائف من الاستعمار الفرنسي والبريطاني قبل نصف قرن؛ حيث أصبح زعماء التحرر آنذاك حكاماً على دول تقوم بعقد معاهدات عسكرية ومعاهدات دفاع مشترك مع جيوش الغرب التي خرجت من بلادهم، فمنحوها وما يزالون قواعد احتلال عسكرية ضخمة على أراضي أمتهم. كل هذا عدا عن التردي الاقتصادي والتخلف التكنولوجي والترهل الإداري والفساد الحكومي وتراجع المستوى المعيشي والتضخم المالي الموازي لفقدان العملة لقوتها الشرائية في ظل سنوات حقبتهم السوداء في حكم الأمة الإسلامية لتركيعها وإذلالها، وتعريض حاضرها ومستقبلها وكينونتها لخطر التصفية بعد فصلها عن ماضيها.

أيها الإخوة في الله …  إنه ليس مما يحتاج إلى كثير من الأدلة ولا إلى عميق من الفكر، التوصل إلى حقيقة مفادها أن فحوى سياسات هؤلاء المجرمين إنما يتمثل في القضاء على عقيدة الأمة الإسلامية، وتمزيق هويتها وتدمير مبدئها بافتعال الجدل حول صلاحيته. ومرجع ذلك هو أن هؤلاء الحكام إنما يعتبرون أن مصدر الخطر الحقيقي على عروشهم ووجودهم في سدة الحكم الذي كان بإرادة الأعداء دون أن يكون للأمة أي رأي حر فيه؛ إنهم يرون أن ذلك الخطر الحقيقي إنما يتمثل في العمل الإسلامي السياسي الحقيقي الذي يقوم به المخلصون الواعون من أبناء هذه الأمة إذا استطاعوا أن يستنصروا أهل القوة والمنعة والنجدة من إخوانهم في الجيوش الرابضة على أبناء أمتها؛ الأمة الإسلامية التي هي أحق بجيوشها وبضباطها وبقوتهم ونصرتهم لإخوانهم الذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً من العاملين بمنتهى الإخلاص والوعي لإقامة الدولة الإسلامية.

أيها الإخوة في الله …  إن حكاماً هذا حالهم وتلك نظرتهم لأمتهم وأبنائها السياسيين المخلصين، فهم لا ينظرون إلى الأمة وأبنائها إلا نظرة عداء مستحكم، وحقد دفين أسود يدفعهم للارتماء في أحضان عدو الأمة ارتماءً؛ ووصل كيد الليل بكيد النهار تنسيقاً مادياً ومعنوياً على كافة الصعد والمستويات الأمنية والثقافية والاقتصادية والسياسية مع الكفار؛ إن هذا والله لحال يستوقف الرجال الأحرار الأغيار ليتساءلوا حتى متى؟ حتى متى الاستكانة والخنوع والركون إلى الدنيا الفانية؛ وقد وصلنا مع هؤلاء المجرمين بعد ما يزيد على سبعين سنة إلى الحائط الأخير وإلى شفير الهاوية في الدنيا والآخرة؟ فلا هم طريقاً قطعوها مع الشعوب ولا ظهراً أبقوها للشعوب. لقد آن أيها الإخوة الأوان لعزم الرجال الأحرار الأغيار أن يهزم خوفهم وترددهم. وآن لضغط الانفجار أن يتحرر كالبركان لدى الأمة ويزيل عن كاهلها حكم أشباه الرجال وأنظمة الكراتين؛ وآن لنا أن نستحضر وإياكم صوراً واقعية مشرقة لرجال الدولة الحقيقيين. الصور التي ملأت جنبات تاريخ المسلمين والتي سطرته بأحرف من نار ونور؛ فكانوا حيثما حلوا وارتحلوا حملة دعوة ورجال دولة مبدئيين في كل المواقف سواء أكانوا حكاماً أم قضاةً أم قادة جيوش.

فهذه رسل سعد بن أبي وقاص بعد أن دكت جيوشه المدائن وهزمت جيوش فارس وأدالت دولة الأكاسرة وأحرزت الغنائم. هذه رسله تحمل بشرى النصر لعمر بن الخطاب وتحمل لخزينة الدولة خمس الفيء؛ فلما وضع بين يدي رئيس الدولة عمر بن الخطاب نظر إليه بدهشة؛ فقد كان فيه تاج كسرى المرصع بالدرر وثيابه المنسوجة بخيوط الذهب ووشاحه المنظوم بالجواهر وسواراه اللذان لم ترَ العين مثلهما قط وما لا حصر له من النفائس الأخرى. فجعل عمر يقلب هذا الكنز الثمين بقضيب كان بيده؛ ثم التفت إلى من حوله وقال: إن قوماً أدوا هذا لبيت المال لأمناء. فقال علي بن أبي طالب وكان حاضراً: “إنك عففت فعفت رعيتك يا أمير المؤمنين ولو رتعت لرتعوا”. وهنا دعا الفاروق سراقة بن مالك فألبسه قميص كسرى وسرواله وقباءه وخفيه وقلده سيفه ومنطقته ووضع على رأسه تاجه وألبسه سواريه. عند ذلك لما رأى المسلمون كيف أن الله أنجز لنبيه وعده الذي وعده لسراقة وهو مهاجر هارب مطلوب. هتف المسلمون الله أكبر الله أكبر الله أكبر، ثم التفت عمر إلى سراقة وقال: “بخٍ بخٍ أعرابي من بني مدلج على رأسه تاج كسرى وفي يديه سواراه، ثم رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم إنك منعت هذا المال رسولك وكان أحب إليك مني وأكرم عليك، ومنعته أبا بكر وكان أحب إليك مني وأكرم عليك، وأعطيتنيه، فأعوذ بك أن تكون قد أعطيتنيه لتمكر بي، ثم لم يقم من مجلسه حتى قسمه بين المسلمين”. فلله درك يا سيدي يا عمر بن الخطاب يا فاروق الحق من الباطل… أما حكامنا اليوم فقد نهبونا في وضح النار ملء السمع والبصر، فمن أين لأعراب نجد من بني سعود بالمال لثماني طائرات إيرباص محملة بالعائلة المالكة والمتاع الملكي التي حطت في إسبانيا ليقضي الملك المغوار نقاهته في مدينة ملقا السياحية، فتتناقل وسائل الإعلام أن إسبانيا أشرق وجهها السياحي بالأموال الطائلة التي أنفقتها حاشية الملك على الفنادق والمراقص والمسابح والمطاعم، فسكبوها على جرح المسلمين في الأندلس سياحة بدل أن تنفق تجهيزاً لفتحها وتحريرها، ثم يأتون ليمنوا على الفلسطينيين بأنهم تبرعوا بما يعتبر لأحد أمراء السعوديين مصروفاً للجيب أثناء بطش إسرائيل وخوض جنودها وقذائفها في دمائهم.

وذلك ملك الأردن البائد حسين يخاطب أخاه الأمير حسناً في خطاب استبدال الأمير عبد الله به في التلفزيون الأردني آنذاك فيقول: “إن ثروته التي تبلغ مليارات الدولارات إنما هي مساعدات شخصية له من ملوك العرب وزعمائهم ودعماً له في ضائقته المالية”… وأهل الأردن يا عمر بن الخطاب، يا حامل الدقيق والسمن على عاتقك للجوعى، وغير أهل الأردن في بلاد المسلمين يبيتون على شظف العيش وارتفاع سعر خبزهم وغلاء سعر بترولهم وشربهم لمياه المجاري الإسرائيلية العادمة. أمة تفطر على سحق الشيشان، وتتغذى على رعب في لبنان، وتُقصف ليل نهار في فلسطين، ضاعت ثرواتها وانتهكت مقدساتها واغتصبت نساؤها…

اللهُ أكبَرُ يا بُسْنِيَّةً غُصِبَتْ
تَرنينَ للعُرْبِ ما في العُربِ مُعْتصِمٌ
سِتّونَ ألْفاً من الأعراضِ قد هُتكتْ
بلْ لُمِّعتْ أنْجُمٌ للعارِ تحمِلُها
اللهُ أكبَرُ يا بُسْنِيَّةً غُصِبَتْ
ترنينَ للتّرْكِ قد دالتْ خلافتُهمْ
يا تُرْكُ يا تُرْكُ أزْريتمْ بدينِكمو
أَلم تكونوا بدين اللهِ أُسْدَ شَرىً
ألم تكونوا حُماةَ الدينِ في قِمَمٍ
أَلم تَكُ الدّنيا مرعىً لخيلكمو
إن يفخروا بأتاتُرْكٍ فمَفْخَرَةٌ
عبْدُ الحميدِ لهُ في القُدْسِ وِقْفتُهُ
ترنين يا أخت فالحكام قد سكروا
همْ فوق خمسينَ ديوثاً بأمتهمْ
إِنْ يُعْلَفُوا هَمْهَمُوا أو يُرْبَطُوا سَكَنُوا
أزرى بنا منذُ أنْ غيلتْ خلافتُنا
تأبى البهائمُ ما ترضاهُ أُمَّتُنا
أَنحنُ في أُمَّةٍ أللهُ خَيَّرَها
اللهُ أكبَرُ يا بُسْنِيَّةً غُصِبَتْ
لمثلِ هذا يذوبُ القلبُ من كَمَدٍ

وصوَّرَ الغصْبَ تِلْفازٌ وإعلانُ
لا تأمني شرَّهمْ فالقومُ خِصيانُ
لَمْ يَهْوِ قَصْرٌ ولم تنْهَدَّ أركانُ
أكتافُ بُهْمٍ تَوَلّتْنا وخِرْفانُ
وصوَّرَ الغصْبَ تِلْفازٌ وإعلانُ
وقادة القومِ ماسونٌ وعِلْمانُ
أما أعَزَّكُمو باللهِ عُثْمانُ
واليومَ أنتمْ بوحْل الكُفْرِ دِيدانُ
ها  أنتمو  لمجاري  الغرْبِ  قيعانُ
فصارَ في جيدكمْ للغربِ أرسانُ
لنا محمَّدٌ الثاني وأُرْخانُ
وما بهِ ليهودِ التُّرْكِ إذعانُ
فليس يعنيهمو إنسٌ ولا جانُ
الروم تزني وهمْ للروم عبدانُ
أَوْ يُرْكَلُوا قَهْقَهُوا أَوْ يُسَبَرُوا لانُوا
أَنّا وتشطيرَنا والذّلَّ صنوانُ
بعضُ الحميرِ لها في الدَّربِ إحرانُ
أكانَ حقَّاً لها عِزٌّ وسلطانُ ؟
وصوَّرَ الغصْبَ تِلْفازٌ وإعلانُ
إن كانَ في القلبِ إسلامٌ وإيمانُ

نعم رتع حكامها وملوكها في مالها وثروتها فرتع كل من وصلت يداه لشيء. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم   قال: «هدايا الأمراء غلول» وروى البخاري ومسلم عن أبي حميد الساعدي قال: «استعمل رسول الله رجلاً من بني أسد على الصدقة فلما قدم إلى بيت المال قال: هذا لكم وهذا أهدي إلي، فقام النبي على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ما بال العامل نبعثه فيأتي يقول هذا لكم، وهذا أهدي إلي، فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فنظر أيهدى له أم لا، والذي نفس محمد بيده لا ينال أحد منكم منها شيئاً إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه».

أيها الإخوة في الله …  ذلك هو رسول الله وصحبه وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم من رجال الدولة العظماء في تاريخ هذه الأمة الكريمة، وهؤلاء هم حكام اليوم، والبون شاسع شاسع. لقد علمنا رسول الله معنى رجل الدولة. وكيف يكون رجل الدولة الذي لا يرغب بنفسه عن نفوس الناس، بل يقودهم من أمامهم وليس من خلفهم، فلا يرى في الخطر إلا في مقدمة الجيش، لا يرى إذا ما جاع الناس إلا أكثرهم جوعاً، ولا يرى في مجلس القضاء إذا خوصم إلا مثل الآخرين.

ابتاع عمر بن الخطاب فرساً من أعرابي ونقده ثمنه ثم امتطاه، فلم يمض به عمر بعيداً حتى ظهر له به عيب فعاد للرجل وقال له: خذ فرسك فإنه معطوب، فقال الرجل: لا آخذه يا أمير المؤمنين وقد بعته لك سليماً صحيحاً. فقال عمر: اجعل بيني وبينك حَكَماً، فقال الرجل: يحكم بيننا شريح بن الحارث الكندي، فقال عمر: رضيت به، فلما سمع شريح مقالة الأعرابي، التفت إلى عمر وقال: هل أخذت الفرس سليماً صحيحاً يا أمير المؤمنين، فقال: نعم، فقال لعمر: إذن احتفظ بما اشتريت يا أمير المؤمنين أو رد كما أخذت، فنظر عمر إلى شريح معجباً وقال: وهل القضاء إلا هكذا، قول فصل وحكم عدل. سر إلى الكوفة فقد وليتك قضاءها. فظل شريح يقضي بعدها ستين عاما بلا انقطاع في عهود كل من عمر وعثمان وعلى ومعاوية حتى استعفى من القضاء مع مجيء الحجاج ومع بلوغ عمره المئة وسبع سنوات، وقد حصل أن افتقد علي بن أبي طالب في خلافته درعاً أثيرةً عليه فوجدها بيد ذمي يبيعها في الكوفة، فتخاصما إلى القاضي شريح. فقال علي: وجدت درعي هذه مع هذا الرجل، وقد سقطت مني في ليلة كذا في مكان كذا، وهي لم تصل إليه ببيع ولا هبة، فقال الذمي: بل هي درعي وفي يدي ولا أتهم أمير المؤمنين بالكذب. فطلب شريح من علي شاهدين على ادعائه، فقال علي: نعم مولاي قنبر وولدي الحسن يشهدان لي. فقال شريح: ولكن شهادة الابن لأبيه لا تجوز يا أمير المؤمنين. فقال علي: سبحان الله رجل من أهل الجنة لا تجوز شهادته. أما سمعت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم       قال: الحسن والحسين سيدا شباب الجنة. فقال شريح: بلى، غير أني لا أجيز شهادة الولد لوالده، عند ذلك التفت علي إلى الذمي فقال: خذها فليس عندي شاهد غيرهما. فقال الذمي: ولكني أشهد أن الدرع لك يا أمير المؤمنين، وقال: يا الله!! أمير المؤمنين يخاصمني أمام قاضيه، وقاضيه يقضي لي عليه!! أشهد أن الدين الذي يأمر بهذا لحق. وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله. اعلم أيها القاضي أني اتبعت جيش أمير المؤمنين إلى صفين، فسقطت درعه عن جمله الأورق، فأخذتها. فقال علي: أما وأنك قد أسلمت فإني وهبتها لك، ووهبت لك معها هذه الفرس. ولم يمض زمن طويل حتى شوهد الرجل يقاتل الخوارج في النهروان تحت راية علي ويمعن في القتال حتى استشهد. فلله درك يا علي يا أبا الحسن من نزال على الحق مثال للرجال الرجال. ولله درك يا شريح من قاض ورجل دولة لا يخشى في الله لومة لائم. وروي أن ولداً للقاضي شريح كفل رجلاً فقبلت كفالته. إلا أن الرجل فر هارباً من يد القضاء، فسجن ولده بدل الرجل الفار، وكان ينقل له الطعام كل يوم إلى سجنه. ومن روائع شريح القاضي أن ابنه استشاره يوماً فقال: يا أبت، إن بيني وبين قوم خصومة، فانظر لي فيها، فإن كان الحق لي قاضيتهم، وإن كان لهم صالحتهم. فلما نظر شريح في قضية ابنه قال له: انطلق فقاضهم، فلما مثلوا بين يدي شريح في مجلس قضائه قضى لهم على ولده. فلما رجع شريح القاضي وابنه إلى البيت، قال له ابنه: فضحتني يا أبت، فوالله لو لم أستشرك من قبل لما لمتك. فقال القاضي شريح: يا بني، والله لأنت أحب الناس إلي من ملء الأرض من أمثالهم ولكن الله أعز منك، لقد خشيت أن أخبرك أن الحق لهم فتصالحهم صلحاً يفوت عليهم بعض حقهم فقلت لك ما قلت… رضي الله عن عمر بن الخطاب فقد زان مفرق القضاء في الإسلام بجوهرة كريمة هي القاضي شريح. ذلك المصباح المنير الذي لا زلنا حتى اليوم نستضيء بنور فقهه وعلمه في شرع الله في كتب الفقه.

دعا الوالي عمر بن هبيرة كلاًّ من الحسن البصري سيد التابعين والعالم المعروف الشعبي رضي الله عنهما، فقال لهما: إن الخليفة يزيد بن عبد الملك قد استخلفه الله على عباده وأوجب طاعته على الناس. وقد ولاني يزيد على العراق ثم زاد فولاني فارس. وهو يراسلني أحياناً لتنفيذ ما لا أطمئن لعدالته، فهل تجدان لي رخصة في ذلك؟ فأجاب العالم الشعبي جواباً فيه ملاطفة للخليفة ومسايرة للوالي، والحسن البصري ساكت، فالتفت له الوالي ابن هبيرة وقال: وما تقول أنت يا أبا سعيد؟ فقال: “يا ابن هبيرة خف الله في يزيد، ولا تخف يزيد في الله. واعلم أن الله عز وجل يمنعك من يزيد، وأن يزيد لا يمنعك من الله. يا ابن هبيرة إنه يوشك أن ينزل بك ملك غليظ شديد لا يعصي الله ما أمره. فيزيلك عن سريرك هذا، وينقلك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك، حيث لا تجد هناك يزيد، وإنما تجد عملك الذي خالفت به رب يزيد، يا ابن هبيرة إنك إن تك مع الله تعالى وفي طاعته، يكفيك الله بائقة يزيد بن عبد الملك وأذاه في الدنيا والآخرة، وإن تك مع يزيد في معصية الله فإن الله يكلك إلى يزيد. واعلم يا ابن هبيرة أنه لا طاعة لمخلوق كائناً من كان في معصية الخالق عز وجل”. فمال الوالي ابن هبيرة عن الشعبي وبالغ في تكريم الحسن البصري. فقال الشعبي والله ما قال الحسن قولاً أجهله، ولكني أردت فيما قلت وجه ابن هبيرة وأراد الحسن وجه الله، فأقصاني الله من ابن هبيرة وأدناه منه.

فأين الرجال من أشباه الرجال، علماء السوء موظفي الحكومات الذين باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم، ومنوا أنفسهم وحكامهم بجنات النعيم وقد خاب سعي كلاهما في الحياة الدنيا. فأين هم وهذا عبد الله بن مسعود الصحابي يقول للربيع بن خثيم التابعي رضي الله عنهما: يا أبا يزيد، لو رآك رسول الله لأحبك. فبكى الربيع مرة على حاله، فيقولون له: أتبكي وأنت أنت؟ فقال هيهات، لم لا أبكي وقد أدركت قوماً ـ يعني الصحابة ـ نحن في جنبهم لصوص. هكذا كانوا… والآن يأتيك الشيخ لكع بن لكع يدعو الله أن يعز ويؤيد بنصره ويرحم برحمته من فتح السجون لحملة الدعوة، وصالح اليهود وضرب أمته بجيش أميركا، وبطش بمن أراد أن يقاتل اليهود، وبدأ يجادل الناس نيابة عن الحكام بأن هؤلاء الحكام خائفون وليسوا خائنين. والله عز وجل يقول: (ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا) .

أيها الإخوة في الله …  لقد تناقلت وسائل الإعلام مؤخراً أن مدير المخابرات المركزية الأميركية (سي آي إيه) جورج تنت الذي زار المنطقة أثناء انتفاضة الأقصى، قدم بعد عودته للإدارة الأميركية تقريراً وصف بأنه خطير جداً، ذكر فيه أن منطقة الشرق الأوسط باتت تعيش على فوهة بركان، وأن الشعوب العربية والإسلامية باتت مصدر خطر حقيقي على أصدقاء أميركا من الحكام. وكما قيل أن الحق ما شهدت به الأعداء. ونحن بدورنا في حزب التحرير نقول بأنه لا يساورنا أدنى شك بنصر الله، ولا يساورنا أدنى شك بأن قضية إقامة الخلافة على أنقاض الأنظمة المتعفنة بأيدي العاملين لإقامتها من المخلصين الواعين، باتت مسألة وقت. فكما أن دعوة الخلافة باتت على كل لسان وأوسع انتشاراً من أي وقت مضى، ودعاة الخلافة باتوا أكثر عدداً وأربط جأشاً وأقوى شكيمة وأنقى كياناً، وأعصى على الاستئصال من أي وقت مضى، فإننا على يقين بأن أنظمة الحكم العربية وأدواتها باتت أوهن من بيت العنكبوت أكثر من أي وقت مضى.

وإنا لنسأل الله في عليائه أن يجمعنا وإياكم في يوم أغر، يوم عزيز من أيام الإسلام العزيزة، نجتمع على منادي البيعة يقول:

اللهُ  أكبرُ  إصدعْ  يا  خليفَتَنا
اللهُ أكبرُ إصدعْ يا خليفَتَنا
اللهُ أكبرُ إصدعْ يا خليفَتَنا
أُمدُدْ يداً عن رسولِ اللهِ طاهرَةً
أمدُدْ تبايعْكَ آلافٌ مؤَلَّفةٌ
أمدُدْ يكُنْ بلسمٌ يشفي مواجِعنا
اُمدُدْ يقمْ خالدٌ فينا وعكرمةٌ

فكلُّنا  كبِدٌ  حرّى  وأشجانُ
فنحنُ جنْدُ الهُدى والأرضُ ميْدانُ
لأنتَ ثَغْرُ الهُدى والكوْنُ آذانُ
لبيعةٍ فرضُها عَيْنٌ وقُرآنُ
أرواحُها في سبيل اللهِ قُربانُ
فقد تمادى وسَدَّ الأُفْقَ طُغْيانُ
وسالمٌ وأبو ذرٍّ وسلمانُ

وفي الختام أيها الإخوة أشكر لكم حسن استماعكم والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته q

منصور العكاري ـ بيت المقدس

ـــــــــــــــــ

*(نص كلمة ألقيت في ندوة عقدت في بيت المقدس في الذكرى السابعة والسبعين لهدم الخلافة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *