العدد 205 -

السنة الثامنة عشرة صفر 1425هـ – نيسان 2004م

أهل الذّمة وجزيرة العرب

أهل الذّمة وجزيرة العرب

          ما إن وقعت تفجيرات الرياض، حتى تعالت أصوات علماء المسلمين في أرض الحجاز، قبل أصوات حكامهم، وقبل أصوات أذناب العمالة، منددين ومستنكرين ومستهجنين كيف تسول لبعض المسلمين أنفسهم قتل أبرياء قد أخذوا الأمان في بلاد المسلمين؟! متسائلين وباستغراب في أي فقه يجوز الاعتداء على الذمي أو المستأمن في بلاد المسلمين؟؟! فتوعدوا بناءً على ذلك الفاعلين بغضب الله ولعنته لهم يوم القيامة!! وهددوهم بأدوات السلطان في الدنيا وعقابه!!.

ــــ

          فهل صحيح أن ما تكلم به أولئك العلماء فقه يَعْي صاحبه ما يقول؟؟ أم انه محض كلام يرضون به الحكام؟ وهل صحيح أن من قُتلوا في أرض الجزيرة هم أهل ذمة لا يجوز الاعتداء عليهم؟! أم انهم مجرد أمريكان وكفار مجرمون، يجب أخذهم وقتلهم أنَّى وجدوا وحيثما ثُقفوا؟!

          للإجابة على هذه الأسئلة ومثلها لا بد من معرفة أحكام أهل الذمة، وكيف تَعَامَلَ الإسلام مع الكفار؟ وهل وضع الإسلام الكفار كلهم في سلة واحدة ولم يميز بينهم؟ أم أن له فيهم تصنيفات وأقسام وأحكام مختلفة؟

          من تتبع الأحكام الشرعية المتعلقة بهذا الموضوع، نجد أن الإسلام لم يعامل الكفار جميعاً نفس المعاملة، وإنما اعتبر من كان يعيش في بلادنا، وتحت حكم الإسلام، ويدفع الجزية لنا، أهل ذمة، له حقوق وعليه واجبات، إن جاع أطعمناه، وإن عري كسوناه، وان مرض عالجناه على نفقة الدولة، وإن اعتدى عليه أحد منعناه وأريق دمنا قبل دمه، ذلك أننا لا نقبل أن تخفر ذمتنا أو أن يمس من بجوارنا. أما غير أهل الذمة فقد اعتبرهم الإسلام كفاراً حربيين. فكل كافر ليس من أهل الذمة هو كافر حربي. والكافر الحربي إما أن يكون كافراً حربياً حكماً بيننا وبين قومه معاهدة، أو دخل بلادنا مستأمناً. فان لم يكن مستأمناً، أو بيننا وبين قومه معاهدة، فيكون عندها كافراً حربياً حقيقةً لا حُكماً. وهؤلاء الحربيون حقيقة قد تكون حالة الحرب قائمة بيننا وبينهم بالفعل، فلا تُعقد معهم أية معاهدة قبل الصلح، ولا يُعطى الأمان لأحدٍ من رعايا تلك الدول إلا إذا جاء ليكون ذمياً يعيش في بلاد المسلمين، أو جاء ليسمع كلام الله لقوله تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) [التوبة: 6] فان لم تكن حالة الحرب قائمة بيننا وبينهم بالفعل، فيجوز أن تُعقد معهم المعاهدات التجارية، ومعاهدات حُسن الجوار، وغيرها من المعاهدات، ويُعطى رعاياها الأمان لدخول البلاد الإسلامية للتجارة أو النزهة أو السياحة أو غير ذلك.

          هذه هي نظرة الإسلام للكفار بأنهم إما ذميون وإما حربيون. والحربيون إما أن يكونوا حربيين حكماً أو حربيين حقيقة. والحربيون حقيقة أما أن تكون حالة الحرب قائمة بيننا وبينهم بالفعل، والاشتباكات دائرة، وإما أن لا تكون حالة الحرب قائمة بيننا وبينهم بالفعل. وقد جعل الإسلام لكل صنف من هذه الأصناف أحكاماً خاصة للتعامل معه بها، ولم يجعلهم جميعاً في سلة واحدة وإن كانت النظرة إليهم جميعاً بأنهم كفار.

          والسؤال الذي يُطرح الآن: هل يعامل الكفار وفق هذه الأحكام في كافة بلاد المسلمين؟ أو هناك استثناءات من النص العام؟ الشرع لم يساوِ بين كافة الأرض، بل فَضَّل بعضها على بعض، وقدَّس بعضها ولم يُقدّس البعض الآخر، وأمرنا إن مررنا في مواقع معينة أن نمر مسرعين ولا نمكث، فجعل لبعض البلدان أحكاماً لم يعطها لباقي البلدان، فمثلاً جعل كل البلاد التي تفتح عنوة أرضاً خراجية، باستثناء أرض جزيرة العرب جعلها جميعها أرضاً عشرية، مع العلم أن كثيراً من أرضها قد فُتحت عنوة، وبذلك جعل لأرض الجزيرة أحكاماً خاصةً بها من دون البلدان، ومن هذه الأحكام الخاصة بجزيرة العرب، أنه حرّم أن يُعطى لكافرٍ فيها الذمة، وإن وجد فيها كافر فيجب إخراجه، إلا إن كان مستأمناً فيمكث مدة قضائه لحاجته بحيث لا تصل هذه المدة حولاً كاملاً؛ لأن الكافر إن مكث في بلاد المسلمين مدة تزيد عن الحول، ضربت عليه الذمة جبراً عنه، وحُصِّلت منه الجزية، وهذا غير جائز في جزيرة العرب.

          والدليل على أنه لا يجوز إعطاء كافرٍ الذمةَ في جزيرة العرب، هو ما فعله عمر بن الخطاب باليهود عندما أجلاهم عن جزيرة العرب استجابةً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ورد في موطأ الامام مالك «عَنْ مَالِك عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  قَالَ: لا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، قَالَ مَالِك: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَفَحَصَ عَنْ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حَتَّى أَتَاهُ الثَّلْجُ وَالْيَقِينُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فَأَجْلَى يَهُودَ خَيْبَر». وورد في رواية أخرى عند مسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَئِنْ عِشْتُ لأخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ حَتَّى لا أَتْرُكَ فِيهَا إِلا مُسلِمًا» وفي حديث متفق عليه عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) أَنَّهُ قَالَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ بِثَلاثٍ: أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ، وَنَسِيتُ الثَّالِثَةَ، وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ: سَأَلْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، فَقَالَ: مَكَّةُ، وَالْمَدِينَةُ، وَالْيَمَامَةُ، وَالْيَمَنُ، وَقَالَ يَعْقُوبُ وَالعَرْج أَوَّلُ». وورد في مسند الإمام أحمد عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ آخِرُ مَا عَهِدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ قَال: «لا يُتْرَكُ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ» وورد عند الإمام أحمد عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، قَال: إِنَّ آخِرَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَال: «أَخْرِجُوا يَهُودَ أَهْلِ الْحِجَازِ وَأَهْلِ نَجْرَانَ مِنْ جَزِيرَةِ العَرَبِ».

          كل هذا بالنسبة لأرض الجزيرة أنه لا يجوز أن تُعطى فيها ذمة لكافرٍ من كان. أما الأمان فيُعطى في كل جزيرة العرب وأرض المسلمين، باستثناء أرض الحرم المكي، حيث يُمنع الكفار من ذلك، فقد ورد في كتاب أحكام أهل الذمة لابن قيم الجوزية قول الأمام أحمد: «يُمنع المشركون من دخول حرم مكة بحال من الأحوال. فإن دخل أحدهم فمرض أو مات أُخرج وإن دُفن نُبش لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا ) [التوبة 28] وهذا رأي الشافعي ومالك أيضاً.

          وبعد هذه التفصيلات لتصنيفات الكفار، وأحكام كل صنف منهم، يتبين أنه لا وجود لأهل الذمة في جزيرة العرب قاطبة، ولا حتى لمستأمنين في منطقة الحرم. فعلاما ترتفع أصوات أولئك العلماء مُحَرِمين ومُشنعين قَتْل أهل الذمة؟! أليس من الأجدر والأولى بهم، أن يُشنعوا على من خالف أحكام رب العالمين، من حكام المسلمين، الذين أعطوا الذمة في بلاد لا يجوز أن تُعطى فيها ذمة لكافر؟ ألم يَعْمَل الإسلام على إزالة أسباب المنُكرات ودوافعها أولاً، ثم عاقب مرتكبي المنكرات؟ ألم يَسمعوا أن عمر لم يقطع في عام الرمادة لأنه من المعلوم في شرعنا أنه قبل أن تقطع يد السارق وَفِّرْ له الطعام حيث روي عن مكحول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا قطع في مجاعة مضطر».

          لقد كان الأجدر بأولئك العلماء أن يُشنعوا على حكامهم، الذين سمحوا للكفار بأن يجوبوا بلاد المسلمين طولاً وعرضاً، دون منع أو ردع، قبل أن يكفروا مسلماً أخذته الحمية لدينه، فانتصر لهذا الدين على فهم هو فهمه، ولكن أنّى لهم أن يشنعوا ويقفوا في وجه أولئك الطواغيت، وهم من أعطى الفتاوى بضرورة استجلاب القوات الأميركية لأرض الحجاز، فاحتلت تلك القوات أرض الجزيرة كلها!؟

          ألم يعلم أولئك العلماء أن لارض جزيرة العرب أحكاماً خاصة بها في شرع رب العالمين خُصت بها تلك البلاد دون غيرها. ومن هذه الاحكام:

1)      لا يُقبل من أهلها إلا الإسلام ولا تؤخذ منهم جزية بخلاف باقي شعوب الأرض، لقوله تعالى: ( قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) [الفتح 16].

2)      أرضها أرض عشرية، وإن فتحت عنوة، وذلك لأن الرسول فرض عليها العشر، مع أنه فتح كثيراً من المناطق فيها بقوة السلاح.

3)      لا تُعطى الذمة فيها لكافر؛ لأن الإسلام عمل على إخراجهم كما في الأحاديث سابقة الذكر.

4)      لا يُعطى الأمان لكافر في أرض الحرم، لقوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا ) [التوبة 28].

          هؤلاء العلماء لم نسمع لهم صوتاً، وأهل فلسطين يذبحون ويستنجدون بالمسلمين وحُكّام المسلمين! هؤلاء العلماء لم يكن لهم رأي، ونساء البوسنة تصرخ في مواخير الاغتصاب مستنجدة ولا منجد! أولئك العلماء ما ثارت حميتهم، والهندوس، عبدة البقر، يذبحون ويحرقون مسلمي كشمير والهند، ويبقرون بطون الحوامل! أليس هذا كله مدعاة للتشكيك بكل تلك الأصوات والأبواق؟! فكيف يثور مسلمٌ، عندما يُقتل كافر واحد أو حفنة من كفارٍ مجرمين، قد شربوا من دماء المسلمين حتى ارتووا، واغتصبوا من نساء المسلمين ما لا يحصى؟! كيف يثور ذلك المسلم لما سماه انتهاك لحرمات الله، وخفراً لذمة المسلمين (الحكام)، ولا يثور لما يَحدث من إبادة جماعية للمسلمين في أفغانستان والعراق، وعمليات التطهير العرقي في البوسنة والهرسك وغيرها من بلاد الإسلام؟!

          لو كانت ثورة أولئك العلماء صادقة لثاروا في وجه الحكام، ولو كان الذي يعنيهم أحكام الإسلام وانتهاكها لأجبروا حكامهم على طرد الكفار من بلاد الجزيرة، وبينوا لهم أنه لا ذمة لكافر في تلك البلاد، ولطلبوا منهم نصرة المسلمين الذين يستنجدون ولا منجد لهم. ولكن أنّى لمثل هؤلاء الكرامة والشجاعة فيقفوا موقف سحرة فرعون، عندما قالوا له (فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)؟ إن الأمور تحتاج لوقفة تحدٍ وتَذَكُرٍ لعذاب الآخرة، وأن الدنيا وعذابها لا يساويان شيئاً في ميزان الآخرة. ولكن، وكما قال صلى الله عليه وسلم: «هلاك أمتي عالم فاجر وعابد جاهل».

          اللهم إنّا نعوذ بك من سيّئات حكامنا وسوء فتاوى علمائنا .

أبو رسل  –  25/05/2003م

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *