العدد 205 -

السنة الثامنة عشرة صفر 1425هـ – نيسان 2004م

مراحل نظام النقد الدولي – الذهب

مراحل نظام النقد الدولي – الذهب

          مر نظام النقد الدولي، منذ أوائل القرن التاسع عشر، في ثلاث مراحل هي: نظام القاعدة الذهبية، ونظام قاعدة الصرف بالذهب، ونظام تفرُّد الدولار وإلغاء الذهب.

          النظام الأول: وقد ظهر هذا النظام في مطلع القرن التاسع عشر، وساد العالم في الربع الأخير منه، واستمر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى. أما ما هو نظام القاعدة الذهبية؟ يقول خبراء الاقتصاد الدولي: هو نظام يكفل التداول الحر لقطع المسكوكات الذهبية، ويؤمن في الوقت نفسه حرية عملية تبديل أشكال النقد المتداول بالذهب، كما يؤمن على الصعيد الخارجي حرية تصدير واستيراد هذا المعدن الاصفر من دون قيد أو شرط. ولا غرابة إذا قلنا: إن القسم الساحق من دول العالم طبق هذا النظام، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فأصبح هو نظام النقد الداخلي والدولي على حد سواء.

          ولكن هذا النظام يقوم على ركائز أهمها:

  • أن يكون هناك كفالة أو ضمانة قانونية (سعر قانوني) بين الوحدة النقدية ومعدن الذهب الصافي. فمثلا ينص القانون البريطاني على أن وحدة النقد، أي الجنيه الإسترليني، يساوي غرامين من الذهب الصافي. وينص القانون الفرنسي على أن الفرنك الفرنسي يساوي غراماً واحداً… وهكذا. ولذلك يجب أن يكون التداول معتمداً على ركيزة قانونية للمسكوكات الذهبية، تحتوي مادياً على كمية الذهب التي نص عليها القانون.

          أما إذا كان التداول لا يعتمد على المسكوكات الذهبية، بل على أشكال نقدية أخرى، فإن المصرف المركزي يجد نفسه مجبراً بقوة القانون، على تقديم الذهب لكل من يطلبه، استناداً إلى السعر الرسمي.

  • ومن أجل ثبات قيمة الوحدة النقدية، لا بد من وجود حرية التبديل المطلقة، بالنسبة إلى الجميع، استناداً إلى السعر الرسمي، ما يعني أن الفرد، الذي يملك نقداً ورقياً، له كل الحق في الاستغناء عنه، والحصول في المقابل على الذهب من المصرف المركزي. ومن أجل تحقيق هذه العملية وتثبيتها، لا يستطيع البنك المركزي أن يصدر كميات كبيرة من الأوراق النقدية للتداول. ونلاحظ من ذلك، أن هذه العلاقة القانونية بين النقود الورقية وكمية الذهب الرسمية، مع حرية التبديل طبعاً، هي بمثابة ضمان لقيمة الوحدة النقدية. ويكون في هذا أمان من الذبذبات والاضطرابات النقدية  الحادة، وضمان من حصول الأزمات النقدية والمالية.

          وإذا لم يكن هناك انضباط قانوني، وزادت كمية النقد المتداول عن حاجة النشاط الاقتصادي، فإن هذا يضعف من قيمة النقد، كما يضعف ثقة الجمهور به، فيسارع الجمهور إلى تركه والحصول على الذهب مكانه. وهذه الحركة إذا اشتدّت تؤدي إلى ذوبان الأرصدة الرسمية من الذهب، وبالتالي إلى إفلاس النظام النقدي برمّته.

          إن من ميزات العودة إلى نظام قاعدة الذهب، أنه يملك على الصعيد الخارجي، القدرة التلقائية على تثبيت سعر الصرف، وإعادة التوازن إلى ميزان المدفوعات.

          16- لماذا يجب العودة إلى قاعدة نظام الذهب؟

ـ أولاً: قدرته التلقائية على تحقيق الاستقرار.

ـ ثانياً: تثبيت قيمة الوحدة النقدية على الصعيد الداخلي والخارجي على حد سواء.

ـ ثالثاً: توازن النظام النقدي واستقراره، ومنع حدوث أي اختلال بين سعر الذهب الرسمي وسعره التجاري.

ـ رابعاً: تصدير واستيراد الذهب للجميع ومن دون أي قيد أو شرط، لأن حرية خروج الذهب ودخوله تؤمن ثبات سعر الصرف.

ـ خامساً: حرية التبديل (الصرف) بالنسبة للجميع، أي تبديل أشكال النقد الورقية بالذهب، استناداً إلى السعر الرسمي القانوني، وذلك من المصرف المركزي.

          وبفضل هذه العملية، لا يستطيع البنك المركزي أن يصدر كميات كبيرة من الأوراق المصرفية للتداول.

          ومن الملاحظ، أن هذه العلاقة القانونية بين النقود الورقية وكمية الذهب الرسمية، مع حرية التبديل، تكونان ضماناً لقيمة الوحدة النقدية.

          17- استمرار الاعتماد على نظام القاعدة الذهبية، من بداية القرن التاسع عشر إلى ما قبل الحرب العالمية الاولى. فقد كانت الأرقام القياسية للأسعار بالذهب، عام 1910 تقريباً، في المستوى نفسه سنة 1890.

          وأهم ميزات نظام القاعدة الذهبية قدرته على تثبيت سعر الصرف، وبتعبير أدق، حصر تقلباته ضمن حدود ضيقة. وهذه ميزة مهمة، لأن من شأن تقلب سعر الصرف بصورة عنيفة، إحداث اضطرابات مهمة في التجارة الخارجية، وفي الأوضاع النقدية الدولية على حد سواء.

          وتثبيت سعر الصرف أمر مهم في الحياة الاقتصادية، وهذه حقيقة يحسّ بها الاقتصاديون في الدرجة الأولى، ولذلك فإن صندوق النقد الدولي، حتى بعد إلغاء نظام القاعدة الذهبية، أدرك أهمية تثبيت سعر الصرف، ولذلك فإنه فرض على الدول الأعضاء المحافظة على سعر صرف ثابت، وإن كان يسمح بتقلبه ضمن حدود ضيقة بنسبة 1% في الاتجاهين (هبوطاً وارتفاعاً). ولكن الفرق بين النظامين يأتي من أن عملية التثبيت في نظام القاعدة الذهبية تحدث بصورة تلقائية. لأن النظام المذكور يحتوي على أجهزة تنطلق تلقائياً عندما تظهر بوادر الاختلال، وتحول دون حدوث تقلبات مهمة في هذا السعر. وأما في ظل النظام القائم (إشراف صندوق النقد الدولي) فإن عملية التثبيت تجري بوساطة سياسية، أي تدخلٌ له خلفية سياسية.

          ولكن كيف يتم ذلك؟

          من المعلوم، أن سعر الصرف، في ظل القاعدة الذهبية يتحدد استناداً إلى وزن الذهب الصافي الذي يعيّنه القانون للوحدة النقدية. فإذا فرضنا أن الحكومة البريطانية حددت الجنيه الإسترليني بغرامين من الذهب الصافي، والحكومة الأميركية حددت الدولار بغرام واحد، فيكون سعر الصرف بين البلدين: 1ج = 2د. ويسمى هذا السعر بسعر التوازن.

          18- بقي نظام القاعدة الذهبية سائداً ومعمولاً به، والاقتصاد في عافية، بعيداً عن الأزمات والاضطرابات الحادة. ولم يذكر أن حدثت أية أزمة اقتصادية لا في الدخل ولا في الخارج.

          بقي هذا النظام (القاعدة الذهبية) إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى، حيث اضطرت الدول المتحاربة إلى تعليقه، لأن الحرب، لِسِـعتها وشمولها قد استهلكت أموالاً طائلة، فاقت موارد أية دولة من الدول المتحاربة، حتى إن الموارد التقليدية لم تكن تكفي إلا لسدّ جزء يسير منها. وأصبح لا بد من اللجوء إلى البنوك المركزية من أجل إصدار نقود إضافية، ولكن المصارف المركزية في ظل القاعدة الذهبية لا تستطيع أن تصدر كمية إضافية؛ لأنها مقيدة بعملية التبديل، أي ضمانة تبديل الذهب بالأوراق المصرفية. فكان من جراء ذلك، أن عمدت الحكومات المتحاربة إلى إعفاء مصارفها المركزية من عملية التبديل هذه، وأقرّت التداول الإلزامي للأوراق المصرفية، أي علّقت نظام القاعدة الذهبية.

          حينئذٍ، استطاعت المصارف المركزية إصدار كميات هائلة من الأوراق النقدية، أي النقد القانوني الإلزامي، دون أن يرتبط بنظام القاعدة الذهبية، وعندئذٍ تراكمت ديون الحكومات من المصارف المركزية. فمثلاً: بلغت ديون فرنسا للمصرف المركزي ما يزيد على (21) ملياراً من الفرنكات، وارتفعت كمية النقد في التداول من 7 إلى 17 مليار فرنك. ولكن المبالغة والإفراط في إصدار النقود آل إلى إحداث اضطرابات نقدية حادة. ففي ألمانيا مثلاً بلغ التضخم النقدي درجةً قضي فيها على الوحدة النقدية، مع أن ألمانيا خرجت من الحرب منهزمة، وقد تراكمت عليها مليارات الماركات، نتيجة خسارتها الحرب، والتزامها بدفع مليارات أخرى غرامات للدول المنتصرة. وكذلك لم تكن الدول المنتصرة بمنأى عن إغراقها في أزمات اقتصادية حادة.

          وللبحث عن علاج لهذه الكارثة النقدية، اجتمعت الدول الرئيسة في جنوة سنة 1922، واتفقت على العودة إلى نظام القاعدة الذهبية. لكنهم اصطدموا بمشكلة جديدة واجهتهم، وهي أن القسم الأكبر من أرصدة العالم الذهبية، وبخاصة من أرصدة الدول المتحاربة الأوروبية، قد أرسل إلى الولايات المتحدة الأميركية لتغطية الاستيراد. والعودة إلى نظام القاعدة الذهبية، تقتضي وجود قاعدة ذهبية واسعة. فاقترح المؤتمرون وجود شكل جديد، يسمح بتوفير الذهب، والاحتفاظ بمزايا النظام المذكور، مع الاحتفاظ  بنظام السبائك، ويتمثل في احتفاظ البنك المركزي بأرصدته الذهبية، ولكن على شكل سبائك من وزن معين يعتبر كحد أدنى (كان الحد الأدنى للسبيكة في فرنسا (12) كيلوغراماً وسعرها (215000) فرنك). وبما أن نظام السبائك هذا يصعب استعماله على الأفراد عند الاستبدال؛ لأنهم منعوا الاستبدال إلا لمن ملك السبيكة المعنية، وهذا ليس في متناول الأفراد. وبذلك أصبح نظام القاعدة الذهبية مقيداً. إلا أن هذه القاعدة الذهبية المقيدة بحد أدنى لوزن السبيكة، القابلة للتبديل، هذه القاعدة لم تستمر طويلاً؛ لأنها اصطدمت باندلاع الأزمة العالمية الكبرى سنة 1929، حيث انهارت أسعار الأسهم، وطفق المتعاملون بالتخلص منها، فحدث إقبال شديد على الأوراق النقدية، وسبب ذلك منعطفاً على تبديل الأوراق بالذهب، فعلقت دول العالم أجمع عملية تبديل الذهب لنقودها الورقية، وبذلك توفي نظام القاعدة الذهبية، وبدأ أولاً في بريطانيا سنة 1931، ثم في الولايات المتحدة الأميركية سنة 1933، وأخيراً في فرنسا سنة 1936.

          19- بعد أن اندلعت نيران الحرب العالمية الثانية، سار العالم على صعيد النقد الدولي خبط عشواء، حيث أن كل دولة كانت تتخذ الإجراءات التي تحفظ مصالحها الخاصة فقط، دون النظر إلى أو الاهتمام بما ستحدثه هذه الإجراءات، من آثار سيئة بالنسبة للآخرين. وللخروج من هذه الفوضى، وحتى لا يقع العالم في وضع يشبه الوضع الذي أسفرت عنه الحرب العالمية الأولى – وعندما لاحت بوادر النصر سنة 1944 – سارع المسؤولون إلى عقد مؤتمر دولي في بريتون وودز، لوضع الأسس العامة لتنظيم الأوضاع النقدية على الصعيد الدولي/ وتنمية التجارة الخارجية، وحركات رؤوس الأموال. فكان لا بد من إزالة الحواجز التي تراكمت خلال الحرب.

          جـرى البحــث في هذا المـؤتمـر في أمــور مهـمــة هي:

          تعلق الأساس الأول بالذهب: فقد جعل المؤتمر الذهب المحور الذي يدور عليه نظام النقد الدولي الجديد، فاشترط على الدول الأعضاء إعادة ربط نقدها بالذهب. أي يجب أن تحدد كل دولة وزناً معيناً من الذهب الصافي لوحدتها النقدية، وذلك من أجل تحديد وتثبيت سعر الصرف. ولكن هذا لا يعني حرية التبديل بالذهب، حيث لم يسمح للأفراد، ولا لأية هيئة كانت، بطلب الذهب مقابل الأوراق النقدية من المصرف المركزي، إلا الدولار الأميركي وحده أعيد تبديله بالذهب بالنسبة إلى الأرصدة الخارجية. ومن هنا أخذ الدولار الأميركي يتميز عن سائر نقود العالم، لأنه فقط هو الذي اكتسب هذه الميزة، وأعطي هذه الصلاحية. وقد حددت أميركا سعر الدولار الرسمي بالذهب، بواقع 35 دولاراً للأونصة. وقد كان الدافع الأميركي لجعل الدولار قابلاً للتحويل إلى ذهب، بالسعر الذي حددته هو عاملين:  العامل الأول: إن أميركا خرجت، بعد الحرب العالمية الثانية، وهي تحتوي معظم الأرصدة الذهبية في العالم، التي كانت تقدر آنذاك (38) مليار دولار كان يوجد منها في أميركا وحدها (25) ملياراً أي حوالى ثلثي ذهب العالم. أما العامل الثاني فهو رغبة أميركا بالهيمنة السياسية والاقتصادية على العالم؛ لأن الدول أصبحت غير ملزمة بالاحتفاظ بكامل أرصدتها النقدية بالذهب بل كذلك بأوراق نقدية صادرة من أميركا (دولارات)، تلتزم أميركا بتبديلها ذهبا عند الطلب، بالسعر الذي حددته.

          وقد سمي نظام بريتون وودز بنظام الصرف بالذهب؛ لأنه أقر احتفاظ الدول في أرصدتها بنقد ورقي، قابل للتبديل بالذهب، وهو الدولار، يصرف ذهباً بسعر محدد. وهكذا أصبح النقد الورقي المحلي لأية دولة لا يحوّل مباشرة إلى ذهب إلا إذا كان تابعاً للدولار مقوماً به. (أو الاسترليني ومقوماً به).

          وقد اشترط مؤتمر بريتون وودز كذلك على الدول الأعضاء، أن تقوم بتثبيت سعر صرفها، مع سماح في تقلبات سعر الصرف بنسبة معينة 1%. وقد استمر الإسترليني كذلك إلى حد ما في الدرجة الثانية، ولكن لم يستمر طويلاً.

          لقد أنيـطت مهمـة الإشـراف على تطبيق تثبيـت أسـعار الصـرف بصندوق النقد الدولي. كما أعطيت له صلاحية التدخل لعلاج الخلل في ميـزان المدفوعات. وقد تعدّت مهمة الصندوق هذه إلى تقديم المساعدات، والقروض، والاستشـارات الفنية، لمساعدة الدول على التغلب على مشاكلها. وقد استمر نظام النقد هذا (نظام الصرف بالذهـب) حتى إعـلان نكسـون بنــود الإصلاحات، الذي بموجبه ألغي نظام الصرف بالذهب، أي ألغيت قاعدة تبديل الدولار بالذهب، لينفرد الدولار في ميدان الساحة النقدية في العالم، ويذهب نظام الذهب إلى حيث لا رجعة. ولكن ما الذي ألجأ نكسون إلى إصدار قرار إلغاء تبديل الدولار بالذهب؟

          إنها أسباب تفاقم الأزمات المتتالية للدولار… وسنأتي على ذكرها فيما بعد.

          فكانت المرحلة التاريخية الأولى لنظام النقد الدولي، وهي القاعدة الذهبية، قد بدأت أوائل القرن التاسع عشر، حتى قبيل الحرب العالمية الأولى. وكان العالم خلالها خلواً من الأزمات الاقتصادية، والاضطرابات المالية. وطيلة هذه الحقبة، والذهب متربع على عرش النقد الدولي.

          أما المرحلة الثانية، من الرحلة التاريخية لنظام النقد الدولي، فقد بدأت من تطبيق اتفاقية بريتون وودز حتى إعلان نكسون بنوده الأربعة بتاريخ 15/8/1971 محاولة منه لإنقاذ الاقتصاد الأميركي من الانهيار.

          بعدها بدأت المرحلة الثالثة لنظام النقد الدولي، وهي في كافة جوانبها مرحلة سياسية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *