العدد 214 -

السنة التاسعة عشرة ذو القعدة 1425هـ – كانون الأول 2004م

المطلوب: محاسبة سياسية وتغيير لا مشاركة سياسية

المطلوب: محاسبة سياسية وتغيير لا مشاركة سياسية

تُحاول الأنظمة الحاكمة المستبدة الموالية لأعداء الأمة أن تخدع الأوساط السياسية المعارضة بإلقاء بعض الفتات لها مقابل تحييد هذه الأوساط، وبذلك تستطيع تثبيت نفسها في سدة الحكم، لتستمر في القبض على مقاليد السلطة، والتحكم في أرزاق الناس، ورقابهم ومصائرهم.
وفكرة المشاركة السياسية هي تلك الفتات التي تلقيها الأنظمة الحاكمة لقوى المعارضة لاستيعابها ورشوتها للكف عن قيامها بدور كفاحي منتج مؤثر.

والمشاركة السياسية تعني ببساطة الدخول مع النظام في شراكة وظيفية، أو سلطوية شكلية، وتعني بالتالي إقرار تلك القوى بشرعية النظام وقانونيته، ومن ثم تغطية الحاكم قانونياً وشعبياً. وهذا يعني أن النظام استطاع بذلك أن يثبت أقدامه مقابل هذا الهامش من المشاركة السياسية البسيطة للمعارضة، والتي لا تُغير ولا تُحسن ولا تطور بحسب ما يدعي المدعون من الذين قبلوا بفكرة المشاركة.
فالمطلوب من الأمة في هذه الأيام ليس مشاركة سياسية تنقذ الحاكم الظالم من السقوط، بل المطلوب محاسبة سياسية جريئة وصريحة وفاعلة تؤدي إلى إسقاط ذلك النوع من الحكام. فالمحاسبة السياسية تعني النقد اللاذع وبصوت عالٍ مسموع من قِبل الحركات والأحزاب الحقيقية، للأنظمة الحاكمة العميلة للغرب.
وهذا النقد اللاذع بذلك الصوت العالي والمسموع يتناول كل تقصير للحكومة في القيام بواجباتها، وكل تفريط في تلبية مصالح الأمة الحقيقية، فالمحاسبة السياسية تعني رصد كل إهمال، وعدم اهتمام من قبل الحكام فيما يتعلق بشؤون الناس، ومن أهم هذه الشؤون عدم قيام الدولة بواجب حماية الأمة والدفاع عنها أمام هجمات أعدائها الشرسة، ومن هذه الشؤون أيضاً عدم العدل والإنصاف مع الرعية، وعدم إعطاء كل ذي حق حقه. وقبل ذلك وبعده، يجب محاسبة الأنظمة الحاكمة على عدم تطبيقها لشرع الله، وتواطؤ هذه الأنظمة مع أعداء الأمة.
فالله سبحانه وصف الأمة بأنها خير أمة أخرجت للناس بسبب أمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ﴾ [آل عمران 110]، والله سبحانه طلب من الأمة الإسلامية أن تفرز مجموعات وتكتلات تتولى المحاسبة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذلك بقوله: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران] فهؤلاء الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر كما وصفهم صاحب الجلالين، هم في الواقع الأحزاب والحركات السياسية. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند القرطبي هو رأس الأمر، وعند الغزالي هو القطب الأعظم في الدين؛ لذلك فالمحاسبة السياسية بهذا المعنى ليست أمراً مبتدعاً عند المسلمين، بل هو في صلب حياتهم وشرعهم وأعمالهم، ومهما حاول الكفرة والفجرة من تقليل هذه المحاسبة وتحويلها إلى أعمال (مطوعين) فلن يفلحوا في إلغاء واقع هذه المحاسبة، عند الواعين والمخلصين وفي جوهر الفكر الإسلامي.
روى أبو داود عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: «… كلا والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً، ولتقصرنه على الحق قصراً» وهذا الحديث من أبلغ ما ورد في المحاسبة السياسية، حيث جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتعلق بالأخذ على يد الحاكم الظالم، أو كل ظالم، ويحبسها على الحق ويجبرها عليه جبراً. فالأصل أن تكون المحاسبة السياسية أصلاً من أصول الدين، وعرفاً عاماً شرعياً عند العامة والخاصة.
أما أن يُختزل هذا الأصل، ويُشوه، ويُستبدل به المشاركة السياسية والنفاق السياسي، فهذا أمر لا يمكن قبوله، ولا يمكن التسليم به، وعلى الأمة أن تعود إلى هذا الأصل، وأن ترجع عن المشاركة السياسية، وأن تتمسك بالمحاسبة السياسية بوصفها من أهم الأعمال التي توجد الرأي العام السياسي على نظام الحكم الإسلامي الصحيح (نظام الخلافة)، وعلى خيانة الحكام، وعمالتهم للكافر المستعمر، وضرورة العمل على الإطاحة بهم، والقضاء على أنظمة حكمهم الذليلة للكفار، والعزيزة على المسلمين، بعكس ما ورد في الآية ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة 54] فالمحاسبة السياسية الفعّالة الصادقة كفيلة بأن تثمر إيجاد حشد من الطاقات الهائلة من رجال الدولة الحقيقيين، وكفيلة بأن تُحجِّم كل داعٍ إلى الكفر، والفجور، والمعاصي، والخيانات.
فلو كانت هناك محاسبة سياسية حقيقية، فهل تتجرأ أميركا والكيان اليهودي على ذبح المسلمين يومياً في فلسطين والعراق؟؟ وهل يجرؤ حكام المسلمين على التعاطي مع أوامر الأسياد من غير أن يحسبوا لشعوبهم أي حساب؟.
فبسبب عدم وجود المحاسبة السياسية الفاعلة نجد السعودية تلغي مؤسسة الحرمين بناءً على أوامر الأميركان، ونجدها تدعو إلى عقد مؤتمر دولي عن الإرهاب في الرياض بناء على طلب أميركا، ونجد مصر تدعو إلى عقد مؤتمر دولي عن الانتخابات في العراق بناء على طلب كولن باول وزير الخارجية الأميركي و… ألخ. فلو كانت هناك محاسبة سياسية جادَّة لما تجرأ هؤلاء الحكام العملاء على التعاطي مع أوامر أسيادهم بكل التزام وانضباط وانصياع.
لذلك كله، فالمطلوب من الأمة إعادة النظر في المشاركة السياسية، وذلك لا يكون إلا بالتخلي عنها، ونبذها، والأخذ بالمحاسبة السياسية عوضاً عنها. لأن بالمحاسبة السياسية يظهر زيف أنظمة الحكم العميلة، وتظهر حقيقة هؤلاء الحكام الذين بات الواعون يشمئزون من تصرفاتهم. وبالمحاسبة السياسية يتحول هذا الاشمئزاز من الحكام إلى جميع المسلمين، ولا يقتصر فقط على الواعين منهم بحيث يصبح الحديث النبوي الشريف المتعلق بهذا الموضوع عرفاً عاماً بين جميع شرائح المجتمع، ذلك الحديث الذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم: «تكون أمراء تلين لهم الجلود وتطمئن إليهم القلوب، ويكون عليكم أمراء تشمئز منهم القلوب وتقشعر منهم الجلود».

أبو حمزة الخطيب – القدس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *