العدد 295-296-297 -

العدد 295-296-297 – السنة السادسة والعشرون، شعبان ورمضان وشوال 1432هـ

هكذا يكون الولاة…. يا حكام المسلمين

هكذا يكون الولاة…. يا حكام المسلمين

 

عمير بن سعد

 عمير بن سعد، يلقبه المسلمون (نسيج وحده) ، أبوه سعد القارئ رضي الله عنه شهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظل أميناً على العهد حتى لقي الله شهيدًا في موقعة القادسية، وقد اصطحب ابنه (عمير) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايع النبي وأسلم. ومنذ أسلم وهو عابد مقيم في محراب الله، ولقد جعل الله له في قلوب الأصحاب ودّاً، فكان قرة أعينهم، ومهوى أفئدتهم، ذلك لأن قوة إيمانه، وصفاء نفسه، وهدوء سَمْته، وعبير خصاله، وإشراق طلعته كان يجعله فرحة وبهجة لكل من يجالسه أو يراه. لم يكن يؤثر على دينه أحداً ولا شيئاً.

سمع عميد يوماً جلاس بن سويد الصامت وكان قريب القرابة به سمعه يوماً وهو في دارهم يقول: (لئن كان الرجل صادقاً لنحن شر من الحُمُر) وكان يعني بالرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان جلاس من الذين دخلوا الإسلام رَهَباً. سمع عمير هذه الكلمات ففجرت في نفسه الوديعة الهادئة الغيظ والحيرة، الغيظ: لأن واحداً يزعم أنه من المسلمين يتناول الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه اللهجة الرديئة. والحيرة: لأن خواطره دارت سريعاً على مسؤوليته تجاه هذا الذي سمعه وأنكر، أينقل ما سمع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ كيف والمُجالس بالأمانة؟ أم يسكت ويطوي صدره على ما سمع؟

أبى وفاؤه وولاؤه للرسول صلى الله عليه وسلم الذي هداهم الله به من الضلالة، وأخرجهم به من الظلمة. لكن حيرته لم تطل، فصدق النفس يجد دائماً لصاحبه مخرجاً. وعلى الفور تصرّف عمير كرجل قوي ومؤمن تقي، فوجه حديثه الى (جلاس) : «والله يا جلاس إنك لمن أحب الناس إليّ وأحسن عندي يداً وأعزهم عليّ أن يصيبه شيءٌ يكرهه ولقد قلت الآن مقالة لو أذعتها عنك لآذتك، ولو صمت عليها ليهلكن ديني، وإن حق الدين لأولى بالوفاء، وإني مبلغ رسول الله ما قلت» .

فأرضى عمير ما يمليه عليه دينه، فهو أولاً أدى لأمانة المجلس حقها وارتفع بنفسه الكبيرة عن أن يقوم بدور المتسمع الواشي- وهو ثانياً أعطى جُلاس فرصة الرجوع عن خطأ وإستغفار الله- حيث صارحه بأنه سيبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم. ولو أنه فعل آنئذ لانشرح عمير ولم تعد به حاجة لإبلاغ الرسول عليه الصلاة والسلام. بيد أن (جُلاس) أخذته العزة بالإثم ولم تتحرك شفتاه بكلمة أسف أو اعتذار فغادرهم عمير وهو يقول: «لأبلغن رسول الله قبل أن ينزل وحي يشركني في إثمك» . وعندما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ (جلاس) أنكر إنه قال وحلف بالله كاذباً، لكن آية القرآن جاءت تفصل بين الحق والباطل حيث قال الله عز وجل في سورة التوبة: (يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ)

واضطر (جلاس) أن يعترف ويعتذر لخطيئته وكان تصرف عمير هذا خير وبركة على (جلاس) فقد أسلم وحسن إسلامه. وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بأُذُن عمير وقال له وهو يعمره بسنه: «يا غلام وَفَتْ أًذُنُك وصدقك ربك» .

هكذا كان ولاؤهم لله ولرسوله… فهلا إقتدينا بهم؟؟!!

وهذا هو الفاروق سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي كان يختار ولاته من الزاهدين الورعين والأمناء الصادقين وكان لا يفتأ يردد عبارته المأثورة «أريد رجلاً إذا كان في القوم وليس أميراً عليهم بدا وكأنه أميرهم، وإذا كان فيهم وهو عليهم أميراً بدا وكأنه واحد منهم، أُريد والياً لا يميز نفسه على الناس في ملبس ولا في مطعم ولا في مسكن، يقيم فيهم الصلاة ويقسم بينهم بالحق ويحكم فيهم بالعدل ولا يغلق بابه دون حوائجهم» . وفي ضوء هذه المعايير الصارمة إختار ذات يوم سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه (عُمير) والياً على حمص وحاول عُمير أن يخلُصَ منها وينجو لكن أمير المؤمنين ألزمه فاستخار الله ومضى إلى واجبه وعمله. وفي حمص مضى عليه عام كامل لم يصل إلى المدينة منه خراج، نادى أمير المؤمنين كاتبه وقال له «اكتب إلى عُمير ليأتي إلينا» .

ففي ذات يوم شهدت شوارع المدينة رجلاً أشعث أغبر تغشاه وعثاء السفر يكاد يقتلع خطاه من الأرض اقتلاعاً من طول ما لاقى من عناء وبذل من جهد، على كتفه اليمنى جراب وقَصْعة وعلى كتفه اليسرى قِرْبة صغيرة فيها ماء وإنه ليتوكأ على عصاً لا يؤودُها حمله الضامر الوهنان- ودَلَف إلى مجلس عمر في خُطى وئيدة قائلًا… السلام عليك يا أمير المؤمنين- ويرد عمر السلام ثم يسأله وقد آلمه ما رآه عليه من جُهد وإعياء ما شأنك يا عمير؟ فيُجيب (عُمير) : شأني ما ترى، ألست تراني صحيح البدن طاهر الدم معي الدنيا أجُرُّها بقَْرنيها؟ قال عمر: وما معك؟ قال عُمير: معي جرابي أحمل فيه زادي وقصعتي آكل فيها، وأدواتي أحمل فيها وضوئي وشرابي، وعصاي أتوكأ عليها وأجاهد بها عدواً إن عرض، فوالله ما الدنيا إلاّ تبع لمتاعي. قال عمر: أجئت ماشياً؟ قال عمير: نعم، قال عمر: أولم تجد من يعطيك دابةً تركبها؟ قال عمير: إنهم لم يفعلوا وإني لم أسألهم، قال عمر: فماذا عملت فيما عهدنا إليك به؟ قال عمير: أتيت البلد الذي بعثتني إليه فجمعت صلحاء أهله ووليتهم جباية فيئهم وأموالهم حتى إذا جمعوها وضعتها في مواضعها، ولو بقي لك منها شيء لأتيتك به، قال عمر: فما جئتنا بشيء؟ قال عمير: لا، فصاح عمر وهو منبهر سعيد (جددوا لعمير عهداً» فأجابه عمير في استغناء عظيم «تلك أيام قد خلت لا عملت لك ولا لأحد بعدك» .

فكان الفاروق يتمنى ويقول وددت لو أن لي رجالاً مثل عمير أستعين بهم على أعمال المسلمين، ولقد رسم عمير وهو أمير على حمص واجبات الحاكم المسلم في كلمات طالما كان يصدع بها في حشود المسلمين من فوق المنبر وها هي ذي: «ألا إن للإسلام حائطًا منيعًا وبابًا وثيقًا، فحائط الإسلام العدل، وبابه الحق فإذا نقض الحائط وحطم الباب استفتح الإسلام، ولا يزال الإسلام منيعاً ما اشتد السلطان وليست شدة السلطان قتلاً بالسيف ولا ضرباً بالسوط ولكن قضاءً بالحق وأخذاً بالعدل» .

فحياك الله يا عمير بن سعد نعم الوالي، هكذا كان ولاتنا يا حكام المسلمين!! ووددنا اليوم أن يخرج من أصلابنا رجلاً نستعين به على إعادة عزنا، لا يميز نفسه عن الناس في ملبس ولا في مطعم ولا في مسكن، يقيم فينا شرع الله ويقسم بيننا بالحق ويحكم فينا بالعدل ولا يغلق بابه دون حوائجنا ولا تأخذه في الله لومة لائم، فهل من مقتدٍ؟ ?

 

أم علي سعيد- الخرطوم- السودان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *