العدد351 -

السنة الثلاثون ربيع الثاني 1437هـ – ك2 / شباط 2016م

ضبط وتوضيح معنى قول العلماء: «لم يرد» عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم

بسم الله الرحمن الرحيم

ضبط وتوضيح معنى قول العلماء: «لم يرد» عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم

 معاوية الحيجي -أبو عبيدة

سوريا-الشام

هناك فرقة نبتت في هذا العصر حصرت الدين في جانب واحد ألا وهو الاهتمام بإزالة البدع؛ فكلما رأَوا مسألة أو عبادة يفعلها الناس وتخالف فهمهم أو تخالف آراءهم يقولون مباشرة: «هذا الأمر بدعة»، أو «لم يرد هذا عن السلف». وهذه المقولة  تجري على ألسنتهم جميعاً عالمهم وجاهلهم؛ حتى صرت تسمعها من العوام  الذين لا يكادون يعرفون من الدين شيئاً…

وليس غرضنا هنا استعراض الأمثلة اليومية من حياة الناس والتي يقول البعض إنها بدعة، وهي في حقيقتها ليست بدعة. وليس غرضنا كذلك الرد على جماعة معينة. وإنما تبيان قاعدة فكرية يتم استخدامها بشكل خاطئ، وينبني عليها اتهام الناس بالابتداع والضلالة، واتهامهم بالخروج عن نهجه عليه الصلاة والسلام. ولعدم وضوح معنى هذه الفكرة جعل بعضهم ممن نيته حسنة ولكن فهمه سقيم يثير الفتن في المساجد، ويثير الشقاق بين المسلمين، ويفرق جماعتهم.

ولن نناقش خطأ منهجهم أساساً حين اعتبروا مهمة المسلم هي محاربة البدع فقط، وإنما سنناقش هذه المقولة بالذات دون سواها، وسنستفيض كثيراً في تبيان معناها، وتبيان خطأ فهمهم، وخطأ استخدامهم لها؛ وذلك لأن هذه الفكرة، وعدم فهمها على الوجه الصحيح واستخدامها بشكل خاطئ صار مما يثير البلبلة بين المسلمين حتى وصل الغلو ببعضهم إلى إخراج كثير من المسلمين من الإسلام بناء على فهمهم الخاطئ للشرع، ومن جملته هذه الفكرة. كل ذلك جعلنا نتطرق إليها محاولة جلاء الخطأ في فهمها وفي تطبيقها حتى يتبين الرشد من الغي.

ذلك أن هذه المقولة «لم يرد عن رسول الله عليه الصلاة والسلام» بحد ذاتها هي صحيحة إلى حد كبير في جانب العبادات؛ ولكن المشكلة في إسقاط هذه المقولة على أرض الواقع؛ وفي كيفية تعامل بعض الناس مع هذه المقولة.

ذلك أن الخطأ في التعامل مع هذه المقولة آتٍ من ثلاثة جوانب. وسنقف قليلاً عند هذه النقاط الثلاث لنحاول إزالة اللبس عنها:

الجانب الأول: إطلاق هذه الكلمة جزافاً وعلى أي شيء:

فهذا أمر واضح من طريقة الطرح، فهم دائماً يقولون عن أي مسألة لم يطلعوا على أدلتها: ما وردت. فما أدراهم أنها ما وردت؟! هل اطَّلعوا على السُنَّة كلها؟! وهل اطلعوا على كل صغيرة وكبيرة في حياة النبي عليه الصلاة والسلام؟! وهل جمعوا سنته عليه الصلاة والسلام كلها دون استثناء حتى يقولوا إنها ما وردت؟!

ثم ما أدراك أنه قد ورد فيها عن النبي عليه الصلاة والسلام أمر معين ولكنك أنت لم تطلع عليه؟! ثم ما أدراك أن النبي عليه الصلاة والسلام قاله أو فعله أو أقره وأنت لم تعلم به؟! خاصة وأنهم قد قالوا قديماً إنه ما  أحاط أحد بالسنة جميعها إلا محمد عليه الصلاة والسلام فقط. ولله دَرُّ الإمام مالك حين قال للمنصور: إن الناس بلغهم ما لم يبلغنا، فعمل كل أناس بما بلغه. وهذا عمر رضي الله عنه على شدة صحبته لرسول الله عليه الصلاة والسلام لم يطلع على مسألة يومية وتحدث دائماً، ألا وهي الاستئذان، بينما قالوا له: يخبرك بها أصغرنا. فقد جاء في صحيح مسلم (6/177)  عن أبي سعيد الخدرى قال: كنت جالساً بالمدينة فى مجلس الأنصار، فأتانا أبو موسى فزعاً أو مذعوراً. قلنا: ما شأنك؟ قال: إن عمر أرسل إليَّ أن آتيه، فأتيت بابه فسلمت ثلاثاً فلم يردَّ عليَّ فرجعت، فقال: ما منعك أن تأتينا. فقلت: إني أتيتك فسلمت على بابك ثلاثاً فلم يردوا عليَّ فرجعت، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع». فقال عمر أقِم عليَّ البيِّنة وإلا أوجعتك. فقال أبىُّ بن كعب: لا يقوم معه إلا أصغر القوم. قال أبو سعيد: قلت أنا أصغر القوم. قال فاذهب به… وكما جاء في صحيح البخاري (6/ 2498)عن خالد عن الشيباني سألت عبد الله بن أبي أوفى: هل رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قلت: قبل سورة النور أم بعد؟ قال: لا أدري… وقد علَّق على هذا الحديث ابن حجر في فتح الباري (12/ 167) فيه أن الصحابي الجليل قد تخفى عليه بعض الأمور الواضحة… وكما جاء في صحيح البخاري أيضاً عن ابن عمر أن رسول الله قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله». وقد علَّق على هذا الحديث الإمام بدر الدين العيني في عمدة القاري شرح صحيح البخاري (1/ 490): قلت في القصة دليل على أن السنَّة قد تخفى على بعض أكابر الصحابة رضي الله عنهم ويطلع عليها آحادهم… وما أجمل ما نقله ابن الجوزي في كتابه الأذكياء (ص: 63) .. تكلم شاب يوماً عند الشعبي، فقال الشعبي: ما سمعنا بهذا. فقال الشاب: كل العلم سمعت؟ قال: لا. قال: فشطره؟ قال: لا. قال: فاجعل هذا في الشطر الذي لم تسمعه.

فإذا كان هكذا كان حال الصحابة وحال العلماء، لم يطلعوا على جميع العلم ولا جميع السنة النبوية، فكيف حال طلاب العلم والذين هم دون تلك الجبال لا محالة؟! بل كيف يكون حال جهلة الناس وعوامهم؟! وكيف حال من لم يشتغل بالعلم أصلاً، ثم يتجرأ على دين الله تعالى ويقول عن مسألة لم يسمع بها: ما وردت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وربما تكون وردت صريحة في كتب الصحيح ثم هو لم يطلع عليها ويقول إنهالم ترد؟!

الجانب الثاني: سوء الفهم لمعنى هذه المقولة:

ذكرنا فيما سبق ما ملخصه أن قول أحدهم «ما ورد» أو «لم يرد» هو كلام فيه من الغلو الكثير. وقلنا إن المسألة قد تكون شرعية، وقد تكون سنة عن النبي عليه الصلاة والسلام؛ ولكن لم يطلع عليها أحدهم، ثم يقول عنها إنها بدعة. وسنناقش في هذه الفقرة بالذات سوء الفهم ذاته لهذه الجملة.

ذلك أن أغلبهم يقصدون بكلمة «لم ترد» : أي النص الحرفي في المسألة، أي وجود دليل خاص أن ينص عليها الدليل مباشرة بشكل واضح وظاهر. وهذا الفهم بحد ذاته سيئ؛ ذلك أن معنى قول العلماء «لم ترد في الشرع» ليس كما يفهمه الجهلة من الناس، وإنما معناه أنه لم يأت في المسألة لا دليل عام ولا دليل خاص ينص عليها، ولا حتى شبهة دليل. فالشرع ليست دلالته محصورة في الظاهر الحرفي؛ فكم من مسألة لم يفعلها عليه الصلاة والسلام، أو لم ترد أنه فعلها عليه الصلاة والسلام؛ ولكن جاز لنا فعلها، أو مستحب لنا فعلها؛ لورود الدليل العام فيها.

فالأدلة الشرعية إما أن تدل على المسألة بشكل مباشر، أو بشكل غير مباشر من مفهوم موافقة أو مخالفة أو دليل عام يدل على المسألة أو بدلالة الإشارة… إلخ. وحتى لا يكون الكلام نظرياً، نأتي بأمثلة تطبيقية على ذلك:

– فمن واقع الصحابة، فإن الصحابي خبيب الذي سن صلاة ركعتين قبل قتله من قبل المشركين، لم يخبره عليه الصلاة والسلام بها، ولم يأمره بها كما هو معلوم، وإنما فعلها من باب الدليل العام الذي يحثُّ على التقرب إلى الله تعالى، وعلى أن يكون آخر عهده بالدنيا ذكر الله تعالى… وبلال الذي سن سنة الوضوء وهو أمر مشهور، لم يأمره بها عليه الصلاة والسلام، ولم يرد أنه عليه الصلاة والسلام فعلها، ولكن فعلها بلال لوجود أدلة عامة على الصلاة في أي وقت تشاء.

– الصدقة في الليالي الفضيلة: حيث توجد عادة توزيع الحلوى أو طعام بسيط في بعض البلدان، وذلك في الليالي الفضيلة كليلة القدر وليلة النصف من شعبان… وهذا أمر يعتبره بعضهم بدعة وضلالة لأنه لم يرد عنه عليه الصلاة والسلام أنه فعل ذلك.

والجواب: نعم لم يفعل عليه الصلاة والسلام ذلك؛ ولكن هناك دليلاً عاماً دل عليه، وهو أن الله تعالى أمرنا بالتقرب إليه في هذه الليالي الفضيلة، وأوجه القربات كثيرة: كالصلاة والاستغفار والدعاء وقراءة القرآن… ومن القربات بل من أفضلها كما هو معلوم الصدقة؛ وعليه فما يفعله الناس من توزيع الحلوى أو الطعام في الليالي الفضيلة هو أمر مشروع دل الدليل العام عليه.

– ومثلا الذين يصومون في يوم معين من السنة لأجل حدث صار معهم ظهر فيه فضل الله عليهم أو على الأمة بشكل واضح؛ فيصومونه شكراً لله تعالى، كمن يصوم في يوم ذكرى ولادة صبي له، وكمن يصوم في يوم ذكرى فتح القسطنطينية، أو معركة عين جالوت، أو ما شابهه من الأيام التي رفع الله فيها شأن الإسلام… فهذا لايقال عنه بدعة بحجة أنه ما ورد أو لم يرد عن النبي عليه الصلاة والسلام فعله؛ فالجواب عنه: نعم لم يرد دليل خاص في كل ذلك؛ ولكن ورد دليل عام يدل على جوازه ،كقوله عليه الصلاة والسلام عن صيامه ليوم الاثنين، قال: ذاك يوم ولدت فيه، وأنزل علي فيه. [مسند أحمد بن حنبل (5/ 297)]؛ وعن صوم يوم عاشوراء، أخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه، فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه. فلما فرض رمضان ترك يوم عاشوراء، فمن شاء صامه ومن شاء تركه.

– وكذلك قول المصلين لبعضهم بعد الصلاة تقبل الله، أو لمن يتوضأ زمزم، أو بعد الوليمة دايمة… فمثل هذه الأدعية لم يرد فيها دليل خاص؛ فلا نقول عنها بدعة بحجة أنه لم يرد فيها دليل خاص، بل جاء فيها دليل عام ألا وهو طلب مطلق الدعاء، وجواز الدعاء، في كل حين وعلى أي شكل كان…

والخلاصة، إن قول العلماء سابقاً عن أمر معين «لم يرد» معناه أنه لم يأت دليل يدل على هذا الأمر، لا دليل عام ولا دليل خاص؛ وليس معنى قولهم إنه «لم يرد» دليل خاص في المسألة، أو دليل معين لأجل المسألة بعينها؛ وهذا الأمر على غاية الأهمية ودقيق جداً؛ لذلك يجب الانتباه إليه وفهمه كما يجب وكما ينبغي، ويجب إدراكه لدى حملة الدعوة بشكل واضح؛ ولذلك كان على حملة الدعوة أن يكون لديهم زاد معين من أصول الفقه ومن القواعد الأصولية لحاجتهم إليها في عملهم أثناء حمل الدعوة.

الجانب الثالث: النظرة إلى تدوين ما جاء عن رسول الله عليه الصلاة والسلام وعن صحابته رضوان الله عليهم:

 هناك خطأ شائع بين العوام وبين كثير من طلاب العلم وربما بين من اتخذهم الناس علماء وهم في حقيقتهم رؤوساً جهالاً، ولكن القنوات الفضائية صنعت منهم نجوماً كما تصنع المطربين وأبطال الأفلام والمسلسلات؛ وهذه الفكرة الخاطئة مفادها أن السنة النبوية مدونة كلها في الكتب الستة (البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود والموطأ والنسائي)، ويضيفون معها سنن ابن ماجة ومسند الإمام أحمد بن حنبل، وبالتالي هم يظنون أن كل حديث جاء عن رسول الله عليه الصلاة والسلام وليس مذكوراً في هذه الكتب السالفة الذكر هو ضعيف أو موضوع، وليس من سنته عليه الصلاة والسلام؛ وهذا خطأ فادح جداً؛ ومن جهتين:

أما الجهة الأولى: فاعتبار أن الكتب التي اهتمت بنقل سنته عليه الصلاة والسلام محصورة في هذه الكتب الستة خطأ؛ علماً أن هناك عشرات الكتب الأخرى التي نقلت لنا سنته عليه الصلاة والسلام وفيها أحاديث صحيحة كثيرة لم تذكرها هذه الكتب الستة ؛ أو أنها ذكرت ما جاء في الكتب الستة ولكن مع زيادات هامة وروايات أخرى تعطي تفسيراً أكثر شمولاً ومعانيَ أكثر دقة في أحيان كثيرة.

 نعم إن الكتب الستة ومسند ابن حنبل وسنن ابن ماجة جمعت الكثير الكثير من  السنة النبوية ولكنها لم تجمع جميع السنة النبوية. وكما قلنا: هناك عشرات الكتب الأخرى التي اهتمت بجمع السنة النبوية غير الكتب الستة وابن ماجة ومسند ابن حنبل، وليس هنا محل ذكر هذه الكتب جميعها، ولكن نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر» (سنن البيهقي، شرح مشكل الآثار للطحاوي، الأدب المفرد للبخاري، مسند البزار، المستدرك للحاكم، تهذيب الآثار للطبري، سنن الدارقطني، سنن الدارمي، شرح السنة للبغوي، صحيح ابن خزيمة، صحيح ابن حبان، مصنف ابن أبي شيب… إلخ)

وأما الجهة الأخرى في مقولتهم: «لم يرد ذلك عن رسول الله عليه الصلاة والسلام» فهذا مبني على فكرة أن الذي قاله وفعله وأقره عليه الصلاة والسلام إنما مدوَّن في كتب الحديث فقط؛ وهذا خطأ فادح وشنيع، رغم شيوعه بين الناس وبين كثير من طلبة العلم؛ فليست السنة النبوية محصورة في كتب أهل الحديث عامة وفي الكتب الستة خاصة؛

ذلك أن نقل ما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام ليس محصوراً في كتب الحديث فقط، أو الكتب التي اهتمت بتدوين الحديث فقط، وإنما هناك كتب قامت بتدوين ما ورد عن رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ ولكن من زوايا أخرى، وأشهر هذه الزوايا ثلاث زوايا هي:

1- كتب السيرة: ففي كتب السيرة أشياء كثيرة وتفاصيل عديدة لحوادث جرت أيام النبي عليه الصلاة والسلام وتفاصيل لحياته وسيرته ودعوته وصراعه الفكري وكفاحه السياسي واستلامه للحكم في المدينة وحمله للدعوة إلى العالم وعمله داخل المدينة وتفاصيل غزواته وسراياه… فهذه التفاصيل مشهورة في كتب السيرة، وكثير من هذه التفاصيل لم تذكره الكتب التي اهتمت بذكر الحديث النبويِّ.

2- ما جاء في أمهات كتب الفقه واستعمله عامة الفقهاء؛ وذلك ككتب الفقه كالأم للشافعي والمبسوط للسرخسي والمدونة الكبرى للإمام مالك… فيؤخذ ويعمل به؛ لأنه إن لم يكن صحيحاً فهو في أقل درجاته حديث حسن. وقد قال الشيخ تقي الدين النبهاني في كتاب الشخصية الإسلامية الجزء الثالث عن هذا الموضوع: «والحديث الحَسَن يُحتَج به كالحديث الصحيح سواء بسواء. وما ورد من أحاديث في كتب الأئمة وتلاميذهم وغيرهم من العلماء والفقهاء يعتبر من الحديث الحَسَن ويُحتَج به لأنهم أوردوه دليلاً على حكم أو استنبطوا منه حكماً، فهو حديث حَسَن، سواء ورد في كتب أصول الفقه أم الفقه، على شرط أن تكون كتباً معتبَرة كالمبسوط والأم والمدونة الكبرى وأمثالها»

3- الكتب التي اهتمت بالقراءات السبع المتواترة، فقد ذكرت لنا سنن القراء وكيفية القراءة وطرق الأداء وكيفية تحريك الشفاه وأحكام التجويد والروم والإشمام والوقف والوصل بين السور وأحكام الاستعاذة والبسملة ودعاء ختم القرآن… وكلها نقلاً عنه عليه الصلاة والسلام. ولأن المسألة واضحة في كتب السيرة ولكنها ليست واضحة في كتب القراءات نذكر مثالاً توضيحياً لهذه المسألة:

– ففي كتب القراءات تجد أنه في قراءة حفص هناك أربع سكتات في المصحف: في الكهف عند كلمة ] عوجا [وفي يس عند قوله ] مرقدنا [وفي القيامة عند ] مَن [في قوله: ] مَن راق [. وفي سورة المطففين عند ] بل [في قوله: ] كلا بل ران [.

– كما تجد في كتب القراءات موضوع البسملة مثلاً، وعدم التلفظ بها أصلا بين السورتين كما هو المنقول في قراءة حمزة.

– كما تجد في كتب القراءات مواضع الروم والإشمام كما في قراءة حفص حيث الروم أو الإشمام في قوله تعالى: {تأمنا} في سورة يوسف، أي إن كتب القراءات نقلت صورة حركة الشفاه.

هذه المواضيع وغيرها كثير تجده فقط في كتب القراءات، وكله منقول عن رسول الله عليه الصلاة والسلام بالأسانيد الصحيحة المتواترة، ولا تكاد تجد أيا منها في كتب الحديث أو السيرة.

ومثلاً الجهر بكلمة الله أكبر بين السور من سورة الضحى إلى آخر القرآن، هناك من يعتبرها بدعة، علما أنها واردة في كتب القراءات وهي من سنن القراء، وكذلك دعاء ختم القرآن هناك من يعتبره بدعة علماً أنه وارد في كتب القراءات. فالذين نقلوا التكبير ودعاء ختم القرآن هم أنفسهم من نقل الروم والإشمام والسكتات والإمالة والتسهيل…

وهكذا تجد أن الكتب التي اهتمت بذكر السنة النبوية اهتمت بها من جهات مختلفة، والسبب في هذا الاختلاف هو أن كل عالم دوَّن السنة وكتب ما جاء عن رسول الله عليه الصلاة والسلام من زاوية معينة؛ فأهل الحديث اهتموا بأقواله وأفعاله وسكوته عليه الصلاة والسلام بالدرجة الأولى، بينما أهل السير اهتموا بناحية حمل الدعوة بالأعمال الفكرية والسياسية والجهاد والغزوات؛ بينما كتب القراءات السبع اهتمت بما يخص هذا الجانب بالذات، أي سنن القراء وكيفية القراءة وأحكام التجويد… وأما الكتب الكبرى في الفقه فقد اهتمت بالدرجة الأولى بأمور الفقه.

لذلك فلا يعني عدم اطِّلاع إنسان على علم معين أن هذا الفعل بدعة وضلالة؛ فقد يكون مذكوراً في كتب أخرى غير كتب الحديث، ككتب السير وكتب القراءات وكتب الفقه الكبرى… ولذلك كان من الخطأ الشنيع قولهم «لم يرد»؛ فاستخدام هذه المقولة بهذه الكيفية باطل أساساً؛ لأنه ما أدراك أنه لم يرد. وما أدراك أن فعلاً معيناً تعتبره بدعة وضلالة بحجة أنه  لم يرد ويكون وارداً أو منقولاً عنه عليه الصلاة والسلام في كل ما ذكرناه من وسائل نقل للسنة؛ ولكنك أنت لم تطلع عليه؟!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *