العدد 432 -

السنة السابعة والثلاثون، محرم 1444هـ ـ آب 2022م

دولة تنين، وإنسان ذئب، بين الليبرالية والديمقراطية والعلمانية والرأسمالية

ثائر سلامة، أبو مالك

لو حاولنا النظر في أهمية الدور الذي تلعبه الفلسفات الديمقراطية والعلمانية والرأسمالية والليبرالية في تشكيل الحضارة الغربية وصياغة نموذجها، وانعكاس ذلك الدور على الواقع العملي، لوجدنا الديمقراطية هي الأقل أهمية من بين هذه الفلسفات، فهي تناقض الليبرالية مناقضة جذرية في أسسهما الفلسفية. وفي حين أن الدول الغربية دائمة التشدق والافتخار بأنها «ديمقراطية»، وتهاجم غيرها بحجة أنها «ديكتاتورية» غاشمة، إلا أنها في الواقع لم تبالِ حين نسفت هي الأسس الفكرية للديمقراطية نفسها؛ فلم تحفل بأن تكون السلطة ممثلة لرأي الأقلية عمليًّا، ولم تسعَ يومًا لحل إشكال استحالة تمثيل رأي الأغلبية، ولم تحفل بتكريسها نسف مبدأ فصل السلطات، ولم تحفل بتكريس السلطة في يد القلة المتحكمة في المجتمعات، وتاريخها حافل بإنهاء أنظمة ديمقراطية منتخبة تعارضت مع مصالحها؛ لذلك يمكن القول بأن فكرة الديمقراطية تعيش على أجهزة التنفس الاصطناعي، وما يبقيها على قيد الحياة إلا الحاجة لاستعمالها في الخطاب الإعلامي المتبجِّح بالقيم الغربية، واستعمالها في مواسم الانتخابات لإشعار الناس أنهم يختارون قياداتهم، ولإضفاء الشرعية على قرارات تلك القيادات والتي في الواقع -في غالبها- لا تمثل إلا رأي الأحزاب السياسية والنخب الحاكمة، وإصلات سيفها على الأنظمة الأخرى لوسمها بأنها غاشمة متسلطة، واتخاذها جزرة توضع على عصا تلوح بها أمام الشعوب الراغبة في التغيير الحقيقي لتحويله إلى تغيير شكلي مرحلي.

لقد أدركت الحضارة الغربية أن النظم والأفكار السياسية التي ينتجها الفكر البشري لا تنشأ دفعة واحدة، ولا يسهل تقديمها للمجتمع بصورة يتقبلها بديلًا عن الواقع إلا عبر مراحل يعاد فيها تشكيل الظروف والعقليات للتواؤم مع هذه الأفكار حتى يتم قبولها، فيُنَظِّرُ الفلاسفةُ والمفكرون بحلول آنية لمشاكل أساسية، وبعد أن يتبنَّى المجتمع هذه الحلول يستمر المفكرون والمنظِّرون بتقديم حلول أخرى تعم مشاكل المجتمع الأخرى التي تطرأ جرَّاء تطبيق هذه الحلول الأولى؛ لتسير كلها في إطار الآيديولوجية التي ينظر لها المفكرون ابتداء، للوصول نحو النظام السياسي «الأشمل»، وفي هذا الإطار نرى أن العلمانية تلعب دورين مهمين، مرحليين، في الحضارة الغربية يصبان في هذا الإطار:

أولهما: استعمالها غرفة عمليات علمنة للمجتمعات والأفراد؛ بحيث تنقلهم تدريجيًّا نحو العلمانية الشاملة، ففي خلال هذه العمليات تتسامح العلمانية مع بعض القيم الشخصية أو تترك المجتمع متبنيًّا لبعض القيم الدينية في العلاقات الخاصة والعامة مرحليًّا، مثل مسألة تعريف الزواج مثلًا، أو الزواج والطلاق والموت وفقًا لعقائد الناس وتشريعاتهم، أو مفهوم الخير والشر، أو مفهوم المساواة الذي استعارته تمامًا من المسيحية ولم تقدم تأصيلًا واقعيًّا له، أو النظرة للشذوذ الجنسي، فتقبل العلمانية مؤقتًا بترك ملف الزواج للكنيسة أو الدين، أو تقبل من المجتمع أن يرفض الشذوذ الجنسي ردحًا طويلًا من الزمن، وتترك للإنسان الغربي أن يقدّم التبرعات تنفيسًا عن حاجته لفعل الخير، آخذًا ذلك من دينه، وتركز العلمانية خلال ذلك على قضايا أخرى أشد أهمية لها في علمنة المجتمعات، ومن ثم يأتي الدور على هذه القضايا، فتشن حربًا شعواء على تعريف الدين للزواج. ولأجل إظهار عدم صلاحية فهم الدين لتلك القضايا تختار أشد العلاقات راديكالية في نظر الدين: الشذوذ، وتتخذه رأس حربة في حربها على الدين، وتجبر المجتمع إجبارًا على أن يغير مفاهيمه لتعكس رؤية الشواذ تمامًا، وتسحق أي رأي آخر، لا حبًّا منها في الشذوذ؛ ولكن لأنه الأداة الأمثل لإرغام الدين على التنحي جانبًا في هذا الملف لصالح العلمانية الشاملة،

وتمحق مفهوم الخير والشر باستئصالهما مقاييس للأفعال، فالفرد إذا فعل فعلًا مختارًا، وكان فيه منفعة ما له، فذلك هو الخير، ولم يعد الخير مقياسًا للأفعال، وهكذا، فغرفة العمليات إذًا تعمل على التحويلات الفكرية للمجتمع لاستئصال شأفة ارتباطها بالقيم والأخلاق والدين، ولاستئصال المقاييس والعرف المجتمعية تمامًا، فتصبح العلمانية قاطرة نقل مهمتها نقل المجتمع من حال إلى حال، بحسب التقدم في مسألة علمنة المجتمعات، ففي مراحلها الأولى اقتصرت على فكرة فصل الدين عن الدولة، ومن ثم انتقل القطار لمحطات أخرى بالمجتمع لفصل المجتمع عن الأخلاق والدين والقيم في سائر العلاقات باتجاه العلمانية الشاملة، فهذا هو الدور الأول للعلمانية.

وأما الدور الثاني فالعلمانية تسير بالدولة نفسها نحو نموذج «الدولة التنين»، التنين هو رمز الدولة الحديثة التي يقيمها الأفراد لتكون أقوى من أي واحد منهم. والدولة هي ذلك الوحش المخيف الذي يؤمّن الأمن في الداخل والسلام في الخارج. وبعبارة أخرى الدولة هي آلة اصطناعية ضخمة ذات بأس مهمتها المحافظة على المنفعة الأولى لجميع الأفراد، وهي السلامة.

من هذا المنطلق تمثل الدولة قوة قاهرة رادعة… وتتحول الدولة بعد ذلك، إلى هذا السيف المسلط فوق الجميع ليمنعهم من الاستسلام لطبيعتهم الشريرة.[1] فحين تخترع الدولة التنين أخطارًا داخلية وخارجية، أو تتسبَّب سياساتها باستعداء الآخرين، تجعل الناس فيها يتنازلون شيئًا فشيئًا عن حقوقهم ومقدراتهم وخصوصياتهم، وتتغوَّل عليهم، وتبتلعهم، فإنما تفعل ذلك وهي تحت سلطان الفئة المتحكمة فيها، الذئاب التي استطاعت السيطرة على قطيع الذئاب البشرية الأخرى كله، أصحاب المال الذين استطاعوا امتلاك البنوك والشركات العابرة للقارات، وشركات التقنية والطاقة، فتتحول الدولة إلى راع لمصالحهم، تفتح آفاق العالم كله ليخدم مصالحهم، فتشعل الحروب لتنشر الدمار، ثم تنشئ العقود لتعيد الإعمار، وتغرق دويلات العالم كلها في ديون تعجز عن سداد فوائدها الربوية، فضلًا عن سدادها هي، فتصمم لها برامج التنمية وتسيطر عليها سيطرة تامة، فتصل العلمانية وقتها لأعلى مراحلها، لينتهي دور الدولة تمامًا، بعد أن أدَّت دورها على أكمل وجه؛ لأنها قامت على مبدأ مهم وهو «النيوليبرالية الرأسمالية»، التي اقتصر دور الدولة فيها على أن تكون غرفة عمليات في قاطرة تسير بالناس في كوكب الأرض كله من محطة لأخرى حتى يسيطر عليهم الليبراليون الرأسماليون، ثم اقتصر دورها في عصر الليبرالية في مهمة حماية الملكية الخاصة وفرض الاتفاقيات، وقصر النقاش السياسي على الأمور الثانوية التافهة، وفي إنقاذ أصحاب رأس المال إذا ما انفجرت أي فقاعة اقتصادية في وجوههم بأموال دافعي الضرائب.

وفي الليبرالية نلمح العداء الشديد لمفهوم الدولة، -وبالضرورة مع الديمقراطية المتناقضة معها فلسفيًّا وعمليًّا- فالدولة شر مرحلي لا بد منه، ولكنها لا بد أن لا تتدخل في حرية الإنسان المالك، صاحب رأس المال، من الوصول للسوق الحرة، ولخصخصة المؤسسات والشركات والقطاعات الاقتصادية أينما كانت، فتصل الحضارة الغربية حينذاك لآخر مراحلها وأشدها قسوة، تلك التي بدأ منظِّروها في عصر النهضة الترويج لها، فكرة الليبرالية الرأسمالية، والتي لم يستطيعوا تطبيقها مباشرة إلا بعد سلسلة من التحويلات والتغييرات المجتمعية التي استعملوا فيها العلمانية لأداء ذلك الدور، وخلال مراحل هذا التطبيق برز منظِّرون حاولوا الحد من غلواء الليبرالية، وأن لا تتحول لإطار فكري له غايات معينة، ولكنهم فشلوا؛ إذ إن فلسفتهم لا تتناسب مع صناع القرار الحقيقيين الذين تبنَّوا النموذج الأبشع بوجهه النيوليبرالي الرأسمالي الجشع، على يد جيل جديد لم يكتفِ بإحياء الليبرالية الكلاسيكية، بل جعلها «غولًا» كريهًا بغيضًا، أو «دراكيولا» تمصُّ دماء البشرية، فأخطر ما في الحضارة الغربية هي الليبرالية، بصورتها الجديدة: النيوليبرالية الرأسمالية.

[1]           Hobbes (Thomas), Léviathan,1651, , traduit par Francois Tricaud, Paris, Sirey,1971-1990.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *